fbpx
في التوسع المليشياوي المسلح داخل المجتمع

 

هذه الأيام، يُحاول الوعي المذهبي والمناطقي تبرير التوسع المسلح لجماعة الحوثي في الحديدة وإب، عبر مقارنته بالتواجد المجتمعي والمهني والعمالي لأهالي تعز وإب في صنعاء وشمال الشمال!

أبناء تعز وإب موجودون في كل محافظات اليمن كأفراد وموظفين وعمال، وتواجدهم هذا جرى/ يجري ضمن سياق مدني اجتماعي طبيعي متسق مع التطور الوطني والإنساني العام. في المقابل، نزل الحوثيون إلى إب والحديدة كجماعة مسلحة، لا كأفراد عاديين أو عمال وموظفين.

جرت/ تجري حركة أبناء تعز وإب، وانتقالاتهم الاجتماعية في المحافظات، ضمن نشاط فردي سلمي مدني باحث عن العمل، فيما يتحرك الحوثيون اليوم كجماعة مسلحة باحثة عن توسيع مجال سلطتها كقوة هيمنة وغلبة اجتماعية وسياسية ومذهبية.
الفرق كبير وواضح بين الحالتين، واستدعاء الانتشار المديني لأبناء تعز وإب من أجل تبرير التوسع المسلح لجماعة الحوثي هو مغالطة متفذلكة ومريضة تتضمن تحريضا مذهبياً ومناطقياً على أبناء هاتين المحافظتين، وعلى حالة الاندماج الوطني البسيط المتجسد في العاصمة صنعاء وغيرها من محافظات البلاد.

في جميع المجتمعات، لعب العمال، ومازالوا، دوراً رئيسياً ومحورياً في خلق المدن، عبر حالات الهجرة الريفية إليها بحثاً عن العمل. وأدى ذلك إلى تخليق اندماجات وطنية واجتماعية مدينية حديثة على حساب الريف والهويات القبلية والإثنية الماقبل وطنية. على النقيض من ذلك، تنشأ الجماعات المسلحة كحركات ضد سياق التطور الإنساني والمجتمعي، وخارجة عليه؛ لهذا يتم التعامل معها كخطر؛ لأنها لا تؤدي إلا إلى تهديد السلم الاجتماعي والأهلي، وتدفع نحو تآكل الدول كتعبيرات وطنية، عبر فرض سلطة موازية لسلطتها، وتشجيع الخروج عليها بتكوين سلطات مليشياوية مقاومة لها.

منذ سنوات، قال الدكتور أبوبكر السقاف إن أبناء تعز وإب هم “ملح الأرض اليمنية”؛ لأنهم حرفيون ومهنيون يكسبون من مهن حرة ولا يتطفلون على “الدولة”. أمقت العصبوية المناطقية، وأشمئز من كل من يُفاخر بوجود تميز متوهم لتعز، وقد أوردت ما قاله الدكتور السقاف ضمن سياقه الواضح الذي جاء للتأكيد على أهمية العمل، لا التباهي العصبوي الأخرق بتعز وإب.

ما كنت أريد الحديث في هذا الموضوع؛ إلا أن هناك من يحتشد لتبرير التوسع المسلح لجماعة الحوثي اعتماداً على تغذية النزعات المذهبية والمناطقية، والتحريض عليها. يقتضي الأمر التأكيد هنا على أن الموقف من الجماعات المسلحة هو موقف لا يقبل الانتقائية، أو التجزئة. والمعنى أننا نرفض سيطرة أي جماعة مسلحة على المجتمع، وتوسعها المليشياوي فيه، دون النظر إلى هويتها ومصدرها الجغرافي. وعليه، فإذا ما انتشر أبناء تعز وإب في بقية المحافظات كجماعة مسلحة، فسأكون ضد هذا الانتشار، وضد من يقوم به.

من حق الحوثيين الذهاب إلى حيث يريدون في اليمن، والعمل السياسي، أو المذهبي الدعوي، في أي محافظة ومنطقة على طول وعرض البلاد؛ لكن بشكل مدني، بعيداً عن الاستقواء الحاصل بالسلاح.

جماعة الحوثي لم تُغادر محيطها الجغرافي كأفراد بحثاً عن سُبل الحياة، أو طلباً للعمل السياسي والمدني، بل كمليشيا مسلحة متطاولة على الوطن، وساعية نحو ابتلاع مجتمعاته المحلية المتعددة عبر السيطرة عليها بقوة ومنطق السلاح؛ كما هو حاصل اليوم في إب والحديدة.

تتحرك الجماعة حالياً كمليشيا مسلحة لا تريد فقط السيطرة على الحكم، بل تأسيس سلطتها على أنقاض “الدولة” الوطنية القائمة، وعبر إخضاع المجتمعات المحلية الواقعة بعيداً عن سيطرتها المذهبية. وقد أدى هذا إلى تصاعد حساسية مذهبية تُهدد بضرب النسيج الاجتماعي والوطني، من خلال دفعه نحو الاحتراب الأهلي تحت يافطات مذهبية ومناطقية.

جازفت الجماعة بالنزول إلى الحديدة وإب والسيطرة عليهما بقوة السلاح، ومازلت أرى أن هذه قفزة غير محسوبة؛ لأن هذا التوسع الحوثي يجري داخل جغرافيا مضطغنة بالحساسية المذهبية، ويُهدد بتحويل الفضاءات الاجتماعية في اليمن إلى بؤر صراعات مفتوح.

في مجتمع متعدد كالمجتمع اليمني، تعمل الجماعات المذهبية المسلحة على ازدهار المذهبية والمناطقية. أما حين تتخطى جماعة مذهبية مسلحة مجالها الجغرافي والاجتماعي فإنها تُحول النزعات الطائفية الفردية إلى سلوك اجتماعي يومي، وأداة للفرز ومركز للتحشيد.

كان تنظيم القاعدة يحضر في الذهنية العامة كرديف للوحشية الخسيسة والقذرة؛ إلا أن الحركة الحوثية الحاصلة توسعاً في الجغرافيا، تعمل على إعادة تموضع هذا التنظيم الإرهابي كوسيلة مقاومة شعبوية. والشاهد أن هناك من يجمع تبرعات مالية لـ “القاعدة”، وهناك من يلتحق به لقتال مسلحي الحوثي في إب ورداع!

مهمة قوات الأمن حماية الناس، ومحاربة الجريمة، والجيش هو من يُفترض به شن الحرب ضد الإرهاب المتجسد في “القاعدة”. غير أن جماعة الحوثي، بالتهامها لـ “الدولة” الهشة، وتصدرها لمهام الجيش والأمن، منحت الإرهاب فرصة لم يكن يحلم بها؛ إذ جعلته بورة للتحشيد الطائفي، بعد أن كان مجموعة منبوذة على المستوى الاجتماعي والوطني.
– نُشر اليوم في صحيفة “الشارع”