fbpx
الوحدة..بين العيون!!

الوحدة..بين العيون!!

    د.علي صالح الخلاقي

 

نعم .. كانت الوحدة.. لعقود من الزمن في مآقي عيوننا وفي شغاف قلوبنا, حلما جميلا وهدفا منشوداً.. خاصة نحن الجنوبيين الذين نشأنا منذ طفولتنا ونحن نرددها  بصوت مسموع كشعار منذ صفوف المدارس الابتدائية (لنناضل من أجل تحقيق الوحدة اليمنية) حتى أصبحت في مخيلتنا, لكثرة ما تغنينا بها, رديفا للنعيم والرخاء والقوة والعزة والمنعة.. وكان ينبغي أن تكون كذلك لو أن قيادة الحزب الاشتراكي الذي ضم قيادات وصلت إلى أعلى مستويات السلطة وهم من أصل شمالي لم تتخذ أخطر قرار في تاريخ الجنوب منذ استقلاله عن بريطانيا باندفاعها المتهور غير الواعي وغير المدروس في 22 مايو 1990م وقادتنا إلى وحدة اندماجية غير علمية مع نظام قبلي- أسري لا يمتلك رؤية وطنية ولا دولة مؤسسات مدنية..فسلمته بغباء مقاليد دولة الجنوب وسرعان ما انقلب عليها وأدار لها ظهر المجن ونكث بالعهود والمواثيق منذ بدء المرحلة الانتقالية التي جعلها انتقامية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. وبدأ حينها شعبنا في الجنوب يشعر بالندم على اندفاعه العفوي وراء قيادة عمياء لم تشركه في قرارها المتسرع الذي أفضى إلى وحدة عرجاء, ضيزى.. فكانت تلك الوحدة بالنسبة له ضربة (بين العيون) كما عبر الشاعر المرحوم محمد علي عفيف خلال المرحلة (الانتقامية) بقوله:

والليله إني قُول يا حيَّا ميه

 

 

 

مقدار ولعاد قول غُبني بالغبُون

كان اليمن نُصَّين واليوم اندمج

 

 

 

وحده ولكن (واحده بين العيون)

 لقد أحسن الشاعر في توظيف التعبير الشعبي المأثور (بين العيون) الذي يُكنى به عن شدة الضرر, أو الإصابة القاتلة, وقد كانت حرب 94م هي الكارثة الكبرى التي أصابت الوحدة في مقتل وأودت بها إلى مهاوي الردى والهلاك..ونزعتها من نفوس الجنوبيين بحرب الاجتياح الاحتلالية والممارسات العنجهية الاستعلائية وأساليب النهب والسلب لكل ثروات الجنوب من قبل متنفذي النظام القبلي – الأسري – العسكري المتخلف الذي  قضى على الوحدة وعلى مشروع الدولة المدنية التي كان ينشدها من كانت (الوحدة) هدفا نبيلا لهم.. فلعن الله من كان السبب والمسبب في القضاء عليها وتدميرها والدوس على قدسيتها بجنازير الدبابات ونيران الكاتيوشا وتحويلها من وحدة طوعية إلى وحدة(كيد وفيد)و (ضم والحاق) معمدة بالدم والموت والدمار والخراب.

وفي عشية ذكرى الوحدة المغدورة والمذبوحة نتساءل: هل بقي في نفوس الجنوبيين شيئاً من تلك الوحدة بعد 22 عاما من المعاناة والبؤس, وبعد 18 عاما من الاحتلال والنهب والتدمير والعودة القهقرى إلى مساوئ الثأر ومضارب القبيلة المتخلفة ؟

إن القول ببقاء الوحدة ..كذبة كبرى.. وبقاء السلطة بيد رموز القبيلة, التي خطفت الثورة هناك, خطر أكبر على الشمال قبل الجنوب…وأقسم برب الكعبة.. لو أن أي شعب على وجه الأرض عانى ما عاناه شعبنا الجنوبي من ضيم وجور من عواقب وحدة (الكيد والفيد) الكارثية ونتائجها المدمرة لما فضل البقاء في مظلتها .. وهذا ما فعله شعبنا الأبي في الجنوب منذ خمس سنوات حين أعلن هبته المباركة  في حراكه السلمي وسبق بذلك الربيع العربي الساخن, بل وبشر به منذ عام 2007م. ولا بد من الاعتراف بقضيته العادلة وفي حقه في تقرير مصيره بنفسه من خلال استفتاء عام على الخيارات المطروحة من قبل قواه الحية والمؤثرة على الساحة الجنوبية التي ينبغي أن تترفع عن خلافاتها الثانوية وتتسامى مع مطالب الشعب.

أعجب حين ينبري كثير من كتاب ومفكرين ورجال دين وشيوخ قبائل (شماليين) في الحديث عن القضية الجنوبية ويصدرون أحكاما قطعية بأن غالبية الشعب الجنوبي يفضل البقاء في ظل الوحدة…واتعجب أكثر حين ينزعجون لما يطرحه أمثالهم من الجنوبيين, أصحاب الحق.. ولهؤلاء نقول .. لقد تعلم شعبنا الدرس.. وخُدع مرة.. ودفع الثمن غاليا… فهل يُراد له أن يخدع للمرة الثانية.. ويدفع الثمن مضاعفا…لا.. فالمؤمن لا يلدغ من الجُحر مرتين…

وينبغي علينا في الشمال وفي الجنوب أن نعترف إننا لم ننجح في بناء وحدة حقيقية تحميها إرادة الشعب وتصونها قناعاته بصواب سيرورتها.. ومن الخطأ أن نجرب المجرَّب..وعلى الشعب في الشمال أن يستنهض هممه ويواصل ثورته المسلوبة من قبل عتاولة وأزلام نظام عفاش ورموز القبيلة المتخلفة وصولاً إلى المستوى الأدنى على الأقل لبناء دولة المؤسسات المدنية الحديثة التي يتساوى فيها ابناء الشمال أولا بعيداً عن ثقافة (مطلع) و(منزل) ونفوذ(شيخ المشايخ) وسطوة (الأفندم)..وحق(الطقم) ونحر(الثيران) أمام قبة البرلمان.. وأن يؤازر شعبنا في الجنوب المهيأ والمصمم على استعادة دولته المدنية التي انشأها بمؤسساتها لبنة لبنة على مدى ثلاثة عقود…وهذا أضعف الإيمان… فبذلك فقط نستطيع أن نعيد جسور الثقة وأن نبقي حلم الوحدة (مقدساً) دون أن نلوثه بالدماء والدخان والدمار …فقد ينهض جيل قادم بوحدة حقيقية على أسس موضوعية.. وحدة قلوب ونفوس.. لا وحدة ..بين العيون!