fbpx
هوامشٌ على هرطقات نازيٍّ يمني يُدعى عبدالناصر المودع” (1-2)

بقلم | امين اليافعي

(المقال من جزأين، ويناقش أفكاراً عِدّة، لكن نظراً لطوله اضطررت إلى فصله إلى جزأين،وفي نقطةٍ حرجةٍ، قد تولد الالتباس لدى البعض، فأرجو أن يتم قراءته كاملاً)

 في دراستنا عن جريمة الإبادة الجماعي (د.قاسم المحبشي وأنا)، كنّا نهدف إلى التأكيد على مسألتين: المسألة الأولى، تسليط الضوء والانتباه إلى الأبعاد والمسارات المختلفة والمتصاعدة التي اتخذتها الجريمة المرتكبة في الجنوب منذ اجتياحه في حرب صيف 1994، من حيث: طبيعة الأفعال المرتكبة، حجم التدمير وغاياته، القصدية الكاملة في إحداث النتائج، ثم تبعاتها وتداعياتها المختلفة على كافة الأصعدة؛ الفردية والجماعية، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية (وهو أمرٌ ألتفت إليه شاعرُ اليمن الكبير عبدالله البردوني منذ وقتٍ مبكرٍ جداً لمرحلة ما بعد الحرب، ووصفه، وبدّقةٍ نافذةٍ، وهو أبو اللغة ، بعملية “اقتلاع الجنوب”).. والمسألة الثانية هدفنا من خلالها إثارة المجتمع الحقوقي والمدني المُبعثرة أجزاؤه وقضاياه وأولوياته في سبيل العمل على محاصرة القوى المهيمنة، بجميع صنوفها وأشكالها ومصادرها، من زاويةٍ رئيسيةٍ وكبيرةٍ، وإشعار هذه القوى بأن ممارساتها وأفعالها الإجراميّة والتدميريّة محل مراقبةٍ ورصدٍ شاملٍ ودقيقٍ. فالزمان الرخو الذي أتاح لها أن تفعل ما تشاء بالضعفاء والمضطهدين، وتحت ذرائع شتى، قد ولى دون رجعةٍ، وصار بإمكان المضطهدين، في كل مكان، باعتبارهم كجماعات سياسية أو دينية أو أثنية، مميزة بذاتها، إدراك طبيعة أفعال الاضطهاد الممارسة ضدّهم من خلال تقصي وتحليل أنماط وتبعات وغايات الاضطهاد وفقاً لأسسٍ ومساراتٍ قانونيّةٍ بات المجتمع الدولي، بهيئاته ومنظماته وشبكاته، يولي لها اهتماماً، ولو تأخر كثيراً وأتى بعد حينٍ طويلٍ، وبالقليل القليل.

في سبيل هذه الغاية، كانت المهمة تحثنا على تناول المقدسات السياسية، ومقاربتها نقديّاً، من خلال تناول المسكوت عنه، واللامفكر فيه، وغير المسموح التفكير فيه، بتعبير محمد أركون، وبجهودنا البسيطة والمتواضعة، واعتماداً على دراساتٍ حديثةٍ باتت أشبه بمراجعٍ رئيسيّةٍ في حقولها العلميّة. ولم يكن الهدف إقلاق راحة المؤمنين، وتكدير رفاهية طمأنينتهم في هذه البلدان الشقيّة بـ”مقدساتها”، بقدر ما كان الهدف هو السعي لقطع الطريق أمام القوى المهيمنة من استخدام هذه المقدسات، وفي غير موضعها، وتحويلها إلى مسوغاتٍ شرعيّة تُبيح من خلالها سحق أي جماعةٍ أو فئةٍ مُضطهدةٍ حاولت أن تُجمّع قواها، ما استطاعت سبيلا، لمقاومة هذه الوضعيّة المحشورة فيها عمداً. مع التأكيد على أن الإنسان وكرامته وحريته أهم من كل الأفكار والمقولات المجردة، ومهما بلغت رمزيتها.

من هُنا قاربنا موضوع الهويّة، ليس بذهنيّةٍ عصبويّة ثاريّة، بهدف دحض أو نفي هذه أو تلك من الهويات، كما تصور البعض، وعن سوء طويّة مُسبقٍ دون الإطلاع حتى على ما كُتِب (وقد تعمدت نشر مقتطف من البحث تحت عنوان “القوميون وبناء الأمة”، قبل نشر هذا المقال)، ولكن تمحورت مقاربتنا حول أن الهويّة، بشكلٍ عامٍ، «أداة للتفاعل والتفاوض في السياق الاجتماعي التمثيلي وليست سمّةً وجوهراً أبديّاً تبقى دائماً في حالة ثبات مهما طرأ من تغيرات. فالإنسان بكونه فاعلاً اجتماعياً تكون جميع الأدوار التي يؤديها محل تفاوضٍ، بحيث يصوغ كل فرد أداءه لدوره تبعاً لما يراه من متطلباتٍ لكل موقفٍ وتبعاً للباقين (الآخرين). وبهذا يكون بوسع الشخص امتلاك العديد من الذوات المختلفة بحسب اختلاف كل مجموعة من الأشخاص يتفاعل معها ويكون لآرائهم أهمية بالنسبة إليه». فالهوية ليست مغلقةً ومكتفيةً ذاتياً، بل تبقى مفتوحة أمام خيارات كثيرة، والانزيحات فيها  لا يُحدثها المرء بمفرده في فضاءه الخاص، فـ”الآخريّة” لا تُنتج إلا في الوسط التفاعلي والتفاوضي بين الذات والآخر، بين الأنا والغير (الغير هو: ما ليس أنا، وما لستُ إياه-سارتر). لهذا يتحدث أمين معلوف، ومن خلال مقاربته لتجاربٍ متنوعةٍ، عن الآخر الذي يُعيد ترتيب عناصر الهويّة، خصوصاً في حالات الإقصاء، فنحن، في أغلب الأحيان، نميل إلى التعرف على أنفسنا في انتماءاتنا التي نظنها أكثر عُرضةً للخطر، على حد تعبير معلوف.

كتب الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش، الذي كان نموذجاً لحالة الإقصاء، عن أزمة الضحيّة في سجالها مع نفسها، ومع الآخر، والذي جعلها تُدرِك أن حاجتها المُلحة للبحث في هويتها، والبحث عن هويتها، ليست ناجمةً عن رغبةٍ في التحديق النرجسي في الصورة، أو الانزواء في الصدفة، أو الإفراط في الافتنان بالخصائصِ الذاتيةِ، بقدر ما هي شكلٌ من أشكالِ استراتيجيات الدفاع عن النفسِ أمام سياسةِ النفي والإلغا.. وإنجاز مكانة العادي!

في “جنوب” ما قبل العام 90، والكلام التالي خارج سياق بحثنا عن الهويّة، كانت مكانة “اليمني” ماديّاً ورمزيّا، مدعومة بعقيدة دولةٍ لا تقبل المساومة، أكثر أهميّةً من أي مكانةٍ أخرى، لن أقول حتى أهم من مكانة “أصحاب محمدٍ” الرمزيّة في مجتمعٍ إسلاميٍّ، ولكنها، في الواقع،كانت كذلك. ولأن الهويّة تُناجي دوماً ما تعتبره، بشكلٍ ما، “أصلا”، وأكثر نقاء وجوهريّة، فتتبعه (فضلاً عن أن الدول القومية بهويّةٍ ما، هي في الأساس، وفقاً لدراسات صدرت حديثاً، دول مُهيّمن عليها من قِبل جماعاتٍ مُعيّنةٍ، عرقيّةِ/عشائريّةِ/مناطقيّةٍ، ممن تتجسد معالم الهوية فيهم، لكن هذه الجماعات تُنكِر هويتها ـ الصغيرة ـ مقدمة نفسها، بدلاً من ذلك،كمواطنين، وهي إما تستوعب من تعتبرهم كالآخرين أو تبعدهم باعتبارهم “أناساً غير منصهرين، ومقاومين للاندماج”..وتورد الدراسات للتدليل على ذل،ك أمثلةً كثيرةً، لا مجال لسردها هُنا، ويمكن التأمل في هويّة أي دولةٍ قوميّةٍ لملاحظة ذلك). وكنتيجةٍ لذلك، كانت الأولويّة في كل الفرص، التعليم المنح الخارجيّة التوظيف الترقيات، للقادمين من “الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة”، أو لنقل من “الأصل” الأكثر نقاء. ومما يذكره الكاتب والباحث المعروف قادري أحمد قادري في أحد حواراته مع صحيفةٍ لبنانيةٍ أنه تم تعينه كنائب سفير لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في لبنان بعد شهرين فقط من مجيئه للمرة الأولى إلى عدن (وهُنا ينبغي التفريق بين مجيئين: بين  القادمين من الشمال للمرة الأولى خلال هذه الفترة، وبين القادمين في زمنٍ سابقٍ الذين صاروا جزءاً من النسيج الجنوبي، وتعرض بعضهم لاضطهاد الدولة في الجنوب، خصوصاً فئة التجار والكوادر ذات التأهيل العالي، كما تعرضت الفئات الجنوبيّة الأخرى، واضطروا جميعهم للفرار خارج البلد).

هل كانت هنالك سابقة بمثل هذا التفضيل في أي بقعةٍ بالعالم ومنذ نشوء الدول القومية الحديثة؟ حسب علمي البسيط، لم توجد أي دولةٍ قد فعلت ذلك، لا دولةٍ رأسماليةٍ كانت، ولا حتى دولةً قوميةً، بمدلولها العربي،  أو أمميةً، ولو كان المُستضاف يتمتع بمواهبٍ وقدراتٍ خارقٍة، أو فارٍ من أوضاعٍ مأساويّةٍ، خصوصاً والحديث هنا عن حالاتٍ جماعيّةٍ كثيرةٍ، وحالة قادري كانت مثالها البسيط، المُصرح بها. فحتى مشردي فلسطين لم تبلغ استضافتهم قط مثل هذا الكرم، المافوق حاتمي، في أي دولةٍ من الدولِ العربيّةِ، وهم أصحاب القضيّة الكُبرى، عدا أن بعض حالات الاستضافة كانت كارثيّةً بكل المقاييس ، وما زال تأثيرها، وفي حالة كالأردن، مستمر.

المفارقة أن أمراً كهذا لم يُثر اعتراضاتٍ، أو لنكن أكثر دقةً، اعتراضاتٍ كبيرةً، تحول دونه، مع أنه لو نظرنا إليه من زاوية أن الدولتين كانتا بكيانين اعتباريين كاملين، وسيادتين منفصلتين ومستقلتين، لَعُدَ إنتهاكاً لسيادةِ الدولةِ وحقوقِ مواطنيها. فضلاً عن أن التنافس والصراع  بين بني البشر هو في جوهره، كأكثر المسائل التي تحظى باتفاقٍ واسعٍ في النظريات الاجتماعية، صراعٌ على الفرص. وبرأيي، أن التضامن (الحقيقي) الذي حدث بين أعضاءِ الجبهةِ القوميّةِ أثناء مقاومة الاستعمار في محافظة عدن قد سمح بقبول وتمرير مثل هذه الامتيازات دون أن تُثر اعتراضاتٍ كبيرةً. إضافةً إلى خاصيّة الطبيعةِ الساحليّةِ التي تمتاز بها مُعظم مدن الجنوب، وخصوصاً عدن (الكسموبوليتية) ، والهجرة الكبيرة، من وإلى مُدنِ الجنوب، قد جعلت من “الغريب” و”المجهول”، اللامدنّس لقيمها وأعرافها في أوقات السِلم مألوفاً غير مُرتهب الجانب، وبالتالي جزءاً من عالمها الخاص.

فكيف يمكن للصورة أن تكون على الضفة الأخرى؟.. لا شك أنها كانت مختلفةً تماماً، قاتمةً ومزريّةً ومأساويّةً، بشكلٍ لا يُطاق. يوصف المُفكر الكبير أبو بكر السقاف المعاملة التي كان يلقاها الجنوبي في الشمال، وأبو بكر السقاف من القامات التي لن تتردد أي جامعةٍ محترمةٍ بالعالم في فتح أبوابها له: «كان الجنوبيون الذين يصلون إلى جنّةِ المأوى في الشمال يسامون الخسف من الأمن الوطني لفترةٍ طويلةٍ حتى يتم تدجينهم وبعد ابتزاز مالي وسياسي طويل،و إن استلم بطاقةً شخصيةً تكون مختومةً “جنوبي يُقيم في صنعاء”، تُذكِّر كل جنوبي بما ذكره الشاعر محمود درويش بأنه يحمل بطاقة “فلسطيني يُقيم في إسرائيل”. كما أن الجوازات التي حملها الجنوبيون تحمل الحرف “ج” إلى جانبِ الرقمٍ، والسجلات الرسميّة للجنوبيين مستقلةً عن السجلات الرسميّة للشماليين، وحكايات السجن والاستجواب الذي يستمر أسابيع طويلة، قصة أخرى»… وقصة “شيطنة” الجنوبيين وأبناء المناطق الوسطى في التاريخ معروفة، وشيطنة الجنوبيين ما قبل العام 90 معروفة أيضاً، ثم شيطنتهم وازدراهم وتحقيرهم وإقصاؤهم من على كل المنابر، وبواسطة كل الوسائل، خصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب القذرة، معروفة جيداً، ولا تحتاج إلى تفصيل!

 كيف، والحال كذلك، سيكون شعور الجنوبي، المواطن العادي والبسيط في هذه الواقع المُزري؛ وكيف سيكون بالتالي رد فعله؟.. إن إشعار المرء بآخريته، السلبيّة خصوصاً، وكما هو معروف، يدفعه عن طريق آليات الفعل ورده، إلى تعميق الإحساس بهذه الهويّة، والتعلق بها، والدفاع عنها، والتشكك تجاه الآخر بجميع حضوره تمثلاته. فنظراتنا، كما تقول الفرنسيّة من أصل بلغاري جوليا كريستيفا، هي التي تحجز الآخرين في انتماءهم الأضيق، وهي التي تحررهم!

 سيجلب عليّ، الحديث السابق، الكثير من النقد، وسيكيل لي البعض بالتأكيد تهم العنصريّة، وقد حدث، لِما لا، والواقع الذي نعيش فيه مُرعبٌ في كل أوجهه، “حالة الطبيعة”، الما قبل سياسية، والما قبل اجتماعية، الكل يُصارع الكل، وليس لنا خيارٌ سوى أن نتخذ أماكننا المُخصصة في الجبهة، وكل حركةٍ يفهما الطرف الآخر كتهديدٍ وجوديٍّ، وكلام الآخرين هو جهنم وعذاباتها!

على إن تلك الاتهامات، وأي اتهاماتٍ أخرى، لا تُقلقننا، ولن تُشكِّل أزمةً لنا، أو تجعلنا نحيد عمّا نحنُ بصدده. فلا نترقب أن يَمـُن علينا أحدهم بإجازةٍ في الإنسانيّةِ، أو يمنحنا شهادةٍ حُسنِ سيرةٍ وسلوكٍ، خصوصاً والرصيدُ الإنساني والحقوقي والفكري لهذا “الأحد” مهولاً في جدبه وشقاءه. ولا التُهم وحدها هي من ستولد الحلول، وياليتها تفعل، كانت البلد حلّت مشاكلها منذ زمنٍ بعيدٍ، ولكنّا، إكرامٌ لذلك، أمسكنا التُهم برحابة صدرٍ.. أما أن ينبغي عليك العيشِ وفق وضعيتين، لا ثالثٍ لهما: متهمٌ أبديٌّ، حتى وإن أخلصت نواياك، وأبدٌ لن يبلغه حلٌ أو عيشٌ كريمٌ، فتلك مسألةٌ ستجعل الملائكة في السماء السابعة يخرجون عن طورهم!!

تنويّهٌ:

حتى لا يحدث التباس، نؤكد، وللمرة الآلف،بأن المقصود بكل الألفاظ التي ترد في حديثنا هذا؛ “اليمن” “الشمال” “صنعاء”..إلخ، وكل أحاديثنا، هي القوى المهيمنة، التي تملُك الفعل والفاعليّة، وتصنع الخطاب، وتُجبِر الناس على الاعتقاد به وترديده، أما المُهيمن عليهم، بجميع انتماءاتهم ووجهاتهم،   فلا لوم عليهم ولا عتاب، ولهم علينا تضامنّا الأبدي، واللامشروط، مهما رددوا ضدَنا من اتهامات…