fbpx
الفكر العربي اهتم بالقومية وتجاهل التيار النقدي
شارك الخبر

بقلم : جهاد فاضل .. 
كتاب الدكتورة إليزابيث سوزان كساب الفائز قبل أيام بجائزة الشيخ زايد في أبوظبي، وعنوانه:”الفكر العربي المعاصر: دراسة في النقد الثقافي المقارن”، كتاب فائق الأهمية من حيث الموضوعات التي يعالجها، وتحليله لهذه الموضوعات، وطرحه أسئلة كثيرة تتصل بواقع الثقافة العربية منذ بدايات عصر النهضة وصولاً إلى وقتنا الراهن. هذا إن لم نقل إنه كتاب موسوعي في بابه لأنه يقارن ما عندنا من الفكر والثقافة بما عند سوانا من الأمم الأخرى في العالم.
إليزابيث سوزان كساب باحثة وأكاديمية لبنانية سبق لها أن قامت بالتدريس في عدة جامعات لبنانية وغربية منها الجامعة الأمريكية في بيروت، كما عملت أستاذة زائرة في قسم لغات وثقافات الشرق الأوسط وآسيا في جامعة كولومبيا بنيويورك، وشغلت وظيفة بروفيسورة زائرة في الدراسات العربية الحديثة في معهد الشرق الأوسط لمدرسة الشؤون الدولية والعامة، بعدها انتقلت إلى جامعة ييل بالولايات المتحدة، وهذا ما يشير إليه كتابها الذي ينصب بالدرجة الأولى على النقاشات العربية المعاصرة حول الثقافة حيث سادت فكرة السعي وراء معنى متحرر ومعزز للذات، ذلك المعنى الذي قيدته مجموعة كاملة من التحديات الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية. وتلقي القراءة المقارنة الضوء على حوافز هذه النقاشات حول الثقافة ما بعد الاستعمار وأهدافها ومعطياتها وتحدياتها.
ويظهر الكتاب أساساً جديداً لفهم الحياة الفكرية العربية المعاصرة بالنظر إليها من خلال ثلاث وجهات نظر رئيسية: الأولى تركزت على التحول النقدي الذاتي في وقت تم تكريس الاهتمام فيه على نحو حصري تقريباً بالوجهة الايديولوجية لهذه الحياة الفكرية سواء كانت إسلامية أم قومية، والثانية تبحث في الفهم السياسي للبؤس الثقافي لدى المفكرين النقديين. والثالثة تكسر العزلة التي تم حصر النقاشات العربية فيها ودراستها حول الثقافة حتى اليوم.
ويناقش الكتاب بعمق ثلاثة أسئلة رئيسية هي:
– كيف قارب النقد العربي المعاصر المشاكل الثقافية؟ وإلى أي مسائل توجه؟ وما هو الشكل الذي اتخذه؟.
– إلى أي مدى، ومن أي منطق، قام المفكرون النقديون العرب في الفترة ما بعد نكسة 1967 باعتبار الأزمات الثقافية أزمات سياسية؟.
– كيف تم التعبير عن الاهتمامات وتبني المقاربات في هذه النقاشات العربية، مقارنة بالنقاشات في مناطق أخرى من العالم تمر بفترة ما بعد الاستعمار مثل إفريقيا وأمريكا اللاتينية؟ وما هي أنماط الفكر التي تكشف عنها هذه المقارنة عبر المناطق والثقافات والأديان والعروق؟ وماذا تقول لنا عن طبيعة النقاشات العربية ما بعد الاستعمار؟ وما أهمية ذلك في فهمنا للفكر العربي المعاصر؟.
ويطرح الكتاب أسئلة أخرى كثيرة تتصل بالثقافة والنهضة في الحياة العربية المعاصرة، فقد بقيت مشاكل عديدة متعلقة بالثقافة تطرح بين بداية كل قرن وآخر: كيف نعرّف ذواتنا؟ أنحن عرب أولاً أم مسلمون؟ ما هي العروبة؟ وكيف يجب أن نفهم الإسلام؟ لماذا سبقتنا الشعوب الأخرى في العالم؟ وكيف يمكننا أن نتغير ونتطور من دون أن تطغى الهوية الغربية علينا فنفقد روحنا العربية؟.
كيف نسترجع من الماضي مجدنا وكرامتنا وفخرنا؟ وكيف نعود إلى قوتنا السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والثقافية؟ هل يجب أن يكون الدين أساس نهضتنا أم أن العلمانية هي طريق خلاصنا؟ وأي نوع من العلمانية؟ أجاءت أزمتنا الثقافية نتيجة للقمع السياسي أم أن ثقافتنا هي التي أنتجت هذه الأنظمة الاستبدادية المتتالية؟ لماذا فشلنا في الوصول إلى الوحدة العربية؟ لماذا فشلنا في بناء الأنظمة الديمقراطية؟ لماذا فشلنا في الدفاع عن القضية الفلسطينية؟
يفتتح الفصل الأول من الكتاب المناقشة مع لمحة عامة عن النهضة الثقافية العربية في ما بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، ويركز على مسائل النهوض والتراجع والتجدد الثقافي. “وتعتبر الحاجة إلى دراسة كهذه مضاعفة، لأن النهضة تعتبر أولاً الخلفية التاريخية للنقاشات المعاصرة وتشكل ثانياً أحد أهم الاهتمامات لهذه النقاشات. إلى جانب ذلك شغل الاهتمام بفشل النهضة الأولى أو نجاحها وبمسألة فعالية إرثه، كما باستمرارية الكثير من مواضيعه ومسائله، مكاناً كبيراً في الجدالات في أواخر القرن العشرين وما بعده”.
وفي فصل تالٍ يقدم الكتاب أفكار خمسة وجوه قيادية في فترة ما بعد نكسة 1967 تعبر بشكل قاطع عن الحاجة إلى تعميق النقد حول عواقب الأحداث الدراماتيكية لنكسة 1967 وهم: سعد الله ونوس وقسطنطين زريق وصادق جلال العظم وعبدالله العروي ونوال السعداوي. إلى جانب ذلك يتناول معطيات أعمال هؤلاء الرئيسية: سعدالله ونوس في الدراما والثقافة، قسطنطين زريق في التاريخ والنظرية الحضارية، صادق جلال العظم في الفلسفة والتنوير، عبدالله العروي في التاريخ والإيديولوجيا، ونوال السعداوي في الجندرة والجنس.”
وعلى الرغم من اختلافاتهم في نهجهم وأمزجتهم، فإنهم جميعاً يركزون على ضرورة استصلاح الإمكانيات النقدية للناس باعتبارهم مواطنين وبشراً، كما أنهم يدعون بإلحاح إلى الرصانة في وسط أزمة تشجع على الاستبدادية والانهزامية والأيديولوجيات التعويضية. ويدعون أيضاً إلى نقد الذات وإعادة فحص بعض أساليب التفكير السائدة، وإعادة تقييم إرث النهضة، إلى جانب أنهم يفتحون الطريق أمام النقد العربي لفترة ما بعد نكسة 1967″.
وتقول الباحثة في كتابها: “فيما كنت أشب في لبنان خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لم أتخيل الوطن العربي في يوم من الأيام من دون نقاشات حول الثقافة مشوبة بالكرب.
بالنسبة إلي، لطالما ارتبط الفكر العربي بالأسئلة المطروحة حول الأزمات الثقافية، والحاجة إلى التجديد الثقافي والعوائق التي تقف أمامه، وضرورة التشديد على الثقافة والحفاظ عليها ومخاطر الغزو الثقافي الغربين ومجد الماضي الثقافي ومركزيته باعتباره مصدرًا للإلهام والفخر والتدهور الثقافي المؤسف في حاضرنا، إلى جانب أسئلة حول الإسلام والحداثة والأصالة والتقليد والتقدم. 
وفي رأيي ترادفت الهوية العربية مع حالة الانشغال بهذه المسائل ومع إدراك شقي للذات والعالم. وصعب علي ألا أفكر في أن هناك سبباً “عربياً” لهذه الحالة من الفكر، وأن من المستحيل أن نجد أشخاصاً آخرين غير العرب منشغلين بهذه الانهماكات، وهو ما قادني إلى الشك في أن هناك أمراً كامناً فينا في تقاليدنا وديننا و”شخصيتنا”، أمرًا دفع إلى هذا المأزق وهذه الحالة الشقية من الفكر وأشعل فيّ وفي زملائي العرب المحيطين بي أيضاً شعوراً ساحقاً بالوحدة، وبأننا شعب أثقلت المشاكل كاهله، هذا الشعب الذي يظن أنه ينفرد بهذه المشاعر ويشعر بالخجل لعدم قدرته على التغلب عليها”.
بمثل هذا البوح الصادق تنطلق الباحثة في رحلتها لمعالجة ما ندبت نفسها من أجل تحقيقه: تناقش المفكرين، تعالج المنشورات والمؤتمرات والمواضيع التي تدور حول النقد الثقافي العربي المعاصر، ومن ثم تقارن ذلك كله بعضه ببعض من خلال النظر إلى النقاشات المعنية بالنقد الثقافي في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية وإفريقيا.
إن نظر القارئ في فصول هذا الكتاب يعثر على الكثير مما يفسر إخفاقاتنا في الوصول الى النهضة المرجوة والإعاقات التي حالت دون نمو فكر عقلاني علمي مستنير.
من عناوين الفصل الرابع في الكتاب وهو النقد في الفكر الديني نجد ما يلي:
– من اللا مفكر فيه وغير القابل للتفكير فيه إلى القابل للتفكير فيه: محمد أركون.
– تاريخية الوحي والنضال من أجل الفكر في عصر التكفير: نصر حامد أبوزيد.
– في تاريخية نسائية للتقاليد الدينية: نظيرة زين الدين وفاطمة مرنيسي وليلى أحمد.
– علم كلام إسلامي للتحرر: “يسار” حسن حنفي “الإسلامي”.
– النقد الإسلامي والمشاكل الثقافية.
ومن عناوين الفصل الخامس “النقد العلماني”، نورد التالي:
– نقد الاحتكار الحصري “للإسلام” الحقيقي: فرج فودة.
– أهمية إبقاء الجدال على المستوى البشري: فؤاد زكريا.
– نقد مفهوم الهوية – الجوهري والرومانسي: عزيز العظمة.
– نقد أسلمة المعرفة والبحث عن أصالة العلوم الاجتماعية.
على أن السؤال الأهم بالنسبة إلى الباحثة هو: هل يقدر العرب على التخلي عن هذا التعلق بماضٍ مجيد عندما لا يجدون تعويضاً ملموساً عن ذلك وعندما يصبح الشعور بالذات مجروحاً ومدمراً للغاية، وعندما تبدو القدرات مشلولة إلى حد بعيد؟ حقاً إن هذا الأمر سيتطلب قفزة نوعية في الإيمان بالقدرة على التخيل الممكن، وإعادة درس التاريخ واسترجاع أحداثه الواعدة أكثر وتجديد الإصرار على الحياة.
 وقد ظل سمير قصير (صحفي لبناني اغتالته المخابرات السورية في بيروت) في مقابلاته الأخيرة يشدد على أن ما يحتاج إليه اللبنانيون والعرب أكثر من أي شيء آخر هو أن يعيشوا “وللأسف وجهت إلى هذه الرغبة في الحياة ضربة موجعة باغتياله في 2 يونيو 2005.
وترى الباحثة أن الرغبة في الحياة وإعادة التفكير السياسي الجذري من المواضيع الأهم بالنسبة إلى الفكر النقدي العربي. هذا الفكر الذي نبع من آلام الحروب والأنظمة الدكتاتورية والسجن السياسي.
«يتسم هذا الفكر بعزم وهشاشة الحياة بحد ذاتها، وبنضج وعمق المعاناة الوجودية الطويلة. إن الفهم السياسي للمعاناة الحضارية يربط هذا الفكر بأفكار النهضة الأولى الموجودة في أعمال رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي اللذين اعتبرا العدالة السياسية المجسدة بالحكم الدستوري أساسا للتقدم والازدهار. 
كما أنه يربط هذا الفكر بالنقد الصارم الذي وجهه عبدالرحمن الكواكبي الى القمع في مطلع القرن العشرين وبوصفه الثاقب لآلياته ومظاهره. بالإضافة الى ذلك يجمع هذا الخط السياسي في التحليل الحضاري بنقد سعد الله ونوس وعبدالرحمن حنيف للقمع في بداية النهضة الثانية بعد نكسة 1967، والآن ينتشر هذا الخط في أدب السجون النامي في سوريا والعراق والأردن وفلسطين ومصر والمغرب وتونس. 
وفي هذا السياق تقدم كتابات سجناء هذه الأنظمة السابقين تحليلا ثاقبا حول علل بلادهم وتسلط الضوء على الأسباب الجذرية للأزمة مثل: الحكم التعسفي واستغلال مؤسسات الدولة وتحريم النقاش العام وإحباط الحياة السياسية وتدمير المجتمع، إلى جانب تعطيل قدرات الشعب.
تهدف هذه الكتابات الى تحليل آثار هذا الدمار واستصلاح الحياة السياسية باعتبارها الأساس الضروري لإعادة البناء والتجديد وهي كتابات تستحق المتابعة عن كثب».
علاوة على ذلك يعتبر هذا التركيز على السياسة تحولا من التركيز على الثقافة التي انتشرت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي عندما تم السعي وراء رؤية ثقافية في البلاد العربية الناشئة حديثا وتلك التي انتشرت في السبعينيات والثمانينيات عندما تم تقديم التراث على أنه حل للهزائم والأزمات. 
وفي الواقع تم إدراك الضيق تدريجيا بمعناه السياسي، ولم يعد الطلب الأساسي يرتكز على فحص ذاتي ثقافي، بل أصبح يسعى الى ديموقراطية إنسانية تنبثق من الرغبة في الحياة، أي أن نكون أحرارا وأن نصبح أشخاصا قادرين.
لكن هذا التحدي يعتبر ضخما في منطقة مدمرة بشدة بفعل الكوارث الجيوسياسية، ليس فقط تلك التي حصلت في القرن الماضي، بل تلك التي نعيشها إلى يومنا هذا. ويتطلب الصراع من أجل الديموقراطية والحياة في ظل هذه الظروف قفزة هائلة في الإيمان بأنهم قادرون على فعل ذلك. 
بالإضافة الى ذلك، لم يكسب التركيز على السياسة الأهمية وحسب، بل أصبح متأصلا أكثر الى حد لم تعد المسألة عنده تهدف الى تقليد الغرب وترجمة أعمال الفيلسوف مونتسكيو، أو تأصيل المفاهيم الديموقراطية الليبرالية الغربية، لا بل الى منع حالة الإرهاب العسكري، وضمان الأمن والحرية الأساسية، وحماية الفرد من أشكال التعسف غير المنتهية التي تعتبر كلها وقائع مختبرة مؤلمة وليست مجرد مشاكل فكرية.
وتختم الباحثة كتابها بهذه الفقرة: «في النهاية كان السؤال المهيمن في النهضة الأولى هو: لمَ تخلف المسلمون في الوقت الذي تقدم فيه الآخرون؟ ونذكر أن الهدف الأساسي لهذه النهضة كان التقدم وتوجهها الى الإصلاح الواعد. كان السؤال في النهضة الثانية: لمَ لم تثمر النهضة؟ والجدير بالذكر أن النهضة الثانية برعمت في وقت النقد الذاتي الأليم، وركزت أكثر على طلب الأصالة. 
أما اليوم فالسؤال السائد هو: لماذا نحن عالقون في مأزق؟ ونشير الى كتاب صدر أخيرا حول البؤس العربي الحالي ويحمل العنوان المعبر التالي: «الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي» لهاشم صالح عن دار الساقي في بيروت. 
وبغض النظر عن الإجابات التي يقدمها هذا الكتاب، فإن العنوان وحده يعبر عن حالة اليأس والاستسلام إلى جانب الشعور بالعجز. فهل انطفأت كل الأضواء في الوطن العربي؟ وهل سيغمر العنف والاستبداد واليأس ما تبقى من دوافع حية فكرية وشعبية مقاومة؟».

المصدر: جريدة الراية
أخبار ذات صله