بناء الدولة من صلب الوعي المجتمعي، لا من فوهات البنادق
شارك الخبر

 

بقلم – ناصر محسن العامري

في زمن الانهيارات المتكررة للدول الهشة، تبرز الحاجة الماسة لمراجعة الأولويات: هل تُبنى الدولة قبل المجتمع، أم أن المجتمع هو الأساس الذي تُبنى عليه الدولة؟
لقد أثبتت التجارب أن الدولة التي تُقام فوق مجتمع هش، مفكك، خالٍ من القيم المشتركة والوعي الجمعي، تكون دولة مشلولة، بلا جذور، وبلا قدرة على الصمود أمام الأزمات أو التأثير الخارجي.
إن بناء المجتمع لا يعني فقط توفير الخدمات أو تحسين المعيشة، بل يعني بناء الإنسان من الداخل: وعيًا، وقيَمًا، وهوية، ومهارات.
يعني ذلك توجيه طاقات المجتمع نحو الإنتاج بدل الاستهلاك، واستعادة قيمة الوقت كأصل وطني، وتعليم الإنسان كيف يكون مشروعًا منتجًا لا عبئًا على الدولة أو المجتمع.
ورغم أن المجتمع هو الأساس، فإن بناء الدولة والمجتمع يجب أن يكون متلازمًا، فكل منهما يعزز الآخر. الدولة ليست مجرد مؤسسات، بل انعكاس لوعي المجتمع، ولا تكتمل إلا عندما يسبقها مجتمع ناضج يؤسس لها قاعدة من القيم والهوية.
لكن لا يكتمل البناء إلا بوجود صاحب فكر متسامي يقود هذا المجتمع، يفكر بعقل الأمة لا بعقل الجماعة، ويتجاوز الانقسامات، ويزرع في الناس روح البناء والارتقاء لا التنازع والتفكك.
فالنهضة لا تقوم على مجرد الحماس، بل على فكر عميق، متزن، يجمع ولا يفرّق، يرتفع بالناس فوق الانتماءات الضيقة نحو رؤية وطنية كبرى.
الإنسان المشاريعي هو ذاك الذي ينظر لنفسه كرأسمال حيّ، يطوّر فكره، ومهاراته، ويسعى ليكون منتجًا في كل موقع يقف فيه.
هو الذي يدرك أن إصلاح الزمن يبدأ من تنظيم يومه، وأن الإسهام في المجتمع لا يكون بالشعارات بل بالعمل، والانضباط، والإبداع.
لكن هذا لا يكفي بدون توحيد المجتمع تحت رؤية وطنية جامعة، تحرّره من التمزق والانقسام، وتبعده عن أي فكر ضيق سواء كان مناطقيًا، أو عسكريًا، أو مذهبيًا.
المجتمع القوي هو من يملك هوية واحدة، جامعة، لا تلغي التنوّع، بل توجهه نحو البناء لا الصراع، وتجعله مصدر غنى لا سببًا للتمزق.
حين يُبنى المجتمع على هذه القيم، ويُقاد بفكر متسامي، يصبح هو الضامن لقيام دولة عادلة، متماسكة، مستقرة.
لكن حين تُفرض الدولة على مجتمع غير جاهز، تكون مؤسساتها هشّة، وتُسيس وظائفها، وتُنهب مواردها، وتُختزل في السلطة لا في الخدمة.
نحن في بلادنا نعيش تحديًا وجوديًا، حيث بات من الضروري إعادة بناء مجتمع الدولة: وعيًا، وقيماً، وهوية، ومهارات.
لهذا علينا أن نسعى جميعًا إلى ترسيخ هذه الرؤية من خلال الإعلام، والمدارس، والمساجد، وكل الوسائل المتاحة، ومنع جميع الأفكار غير الإنتاجية التي تُستغل تحت عناوين حزبية أو مذهبية أو صراعية وتُسخَّر لتعطيل وعي المجتمع وإنتاجه.
فلنبدأ بالمجتمع، نُنضجه، نُشبّعه بالقيم، نعلّمه كيف يعيش مشروعًا، لا عالة، ونوحده تحت راية وطن، لا عصبية، ونقوده بفكرٍ متسامي يليق بأمة عظيمة.
فلنصنع مجتمع الدولة…
وعندها ستولد الدولة من صلب الوعي، لا من فوهات البنادق.

أخبار ذات صله