في زمن التسويات السياسية، والحديث الذي يبدو جاداً لتصفير مشاكل هذا الشرق الأوسط، ثمة ما يجدر التطرق إليه، فالفرصة تبدو مواتية لبعث ما يجب بعثه حول تجديد الخطاب الديني، فهذه التسويات السياسية إن لم تترجم إلى تسوية صحيحة، تذهب إلى أصول المشكلات، فهذا يعني أن علينا توريثها لأجيال تالية ستعيش الأزمات ذاتها التي عانت منها أجيال سبقت.
وحتى لا نغرق في من يتحمل مسؤولية تلك المعضلات القديمة، فإن شيئاً من المحفزات يدعو لاتخاذ خطوة جادة ناحية تجديد الخطاب الديني، فالقوى السياسية التي تتقارب تحت ضرورات اللحظة الصعبة سياسياً واقتصادياً عليها أيضاً إدراك أن التقارب يدعو لإيجاد صيغة واضحة لمعالجة أصل المشكلات، التي أوصلت المنطقة الشرق أوسطية لكل هذا الاحتقان.
النزاعات أصلها من نشأة تسييس الدين، وهذه النقطة انطلقت مع تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» في مطلع القرن العشرين على يد حسن البنا، هناك كانت الإشكالية التي باتت كل العقول تدركها، وتدرك أن عدم معالجتها بطريقة صحيحة أنتج تأزيماً في العقول. المشكلة ليست في الدين الإسلامي ولا حتى في المذاهب سنيّة وشيّعية، بل في أنها أخضعت للتسييس، فتحولت لرؤوس حربة استُخدمت لتوظيفها في صراعات دامية لم ولن تنتهي، حتى مع هذه التسويات التي ليست طارئة، فلطالما كانت حاضرة في سياقات العلاقات السياسية بين الدول، غير أن اللحظة الراهنة تتطلب استدراكاً يحتم الاستدارة إلى النقطة الأولى.
ومن دون تجديد الخطاب الديني، فإن النتيجة ستعود إلى تكرار المأساة التي حصدتها الشعوب، الضرورة تحتم اتخاذ قرارات حاسمة للتجديد، فلقد أثبتت التجربة أهمية تحديث الخطاب الديني وتطويره ليتناسب مع التغيرات التي تحدث في المجتمعات والعالم. الخطاب الديني الحالي مفكك وفردي، بينما يشهد العالم تجمعات وتطورات هائلة في مجال التقنية والمعلومات والاختراعات، وأعتقد أن أية نهضة أو تنمية في العالم الإسلامي، التي ينادي بها المخلصون إنْ لم تصدر من مفهوم ديني، فهي محكوم عليها بالفشل، فلا بد من خطاب ديني واعٍ ومعاصرٍ ومنضبطٍ، يستطيع أن يضع هذه النهضة ويساعد عليها ويدفعها لإخراج الأمة من هذا التيه والدوران الذي تدور فيه حول نفسها.
يُظهِر تجديد الخطاب الديني أهمية كبرى في إزالة المفاهيم المغلوطة حول دور المرأة في المجتمع، كذلك يُساهِمُ في إزالة المفاهِيمَ حول التشدُّدِ، كذلك يُساهِمُ في إزالة المفارقاتِ حول قضية التَّكْفير. ومن دون الدفع السياسي ناحية هذه القضية لن تتغير قواعد الاشتباك التي استثمر فيها المتطرفون وأصحاب الآراء المتعصبة من أهل المذاهب والطوائف. الراديكاليون هم فقط الذين يرفضون اليوم الاقتراب من مناهلهم ومنابع أفكارهم الكامنّة في كتب التراث، والتي تعاقبت عليها الأزمنة دون القدرة على فتحها وإعادة قراءتها بعيون العصر، وما أتيح للعقل العربي من علوم ومعارف.
التجديد شرط لمواكبة التقدم التكنولوجي المتسارع، فلا يمكن للمواطن العربي أن يكون خارج حسابات الدنيا، لأن هناك ما يحول بينه وبين امتلاك المعرفة، وهو ما يضع أصحاب القرار السيادي أمام اتخاذ قرار واضح يدعم بقوة القانون تجديد الخطاب الديني وفرض قوانين صارمة ضد التكفير، حتى ذلك المرتمي على وسائل التواصل الاجتماعي، فهناك تتقاذف الاتهامات وتوزع صكوك الإيمان والكفر وحتى الوطنية من دون ضوابط، فهذه إرهاصات من انفلات جاء من المنشأ الديني.
فلولا التعصب ما وزعت صكوك الإيمان والكفر ولا حتى صكوك الوطنية، فالانتماء للبلدان لا يقاس بعيون المؤدلجين، فهؤلاء يحملون كماً هائلاً من الكراهية، ما يحول بينهم وبين رؤيتهم للأوطان وسيادتها، فهم لا يرون إلا دولة الخرافة والوهم غير الموجودة إلا في كتبهم وخزعبلاتهم البالية، في هذا الوقت الذي تنكفئ فيه «الإسلاموية» آن للمعنيين أن يجددوا أو يندموا ونندم معهم.