fbpx
من الذي يرفض المشروع الحوثي في اليمن ؟؟

كتب – د. عيدروس نصر النقيب
 هناك أشكالية كبيرة تصبغ المشهد السياسي في شمال اليمن المعروف تاريخيا باسم “الجمهورية العربية اليمنية”، وقبلها “المملكة المتوكلية اليمنية”، وتتمثل الإشكالية من ناحية في تصاعد الصخب الإعلامي والسياسي الذي يغرق الفضاءات بالحديث عن رفض اليمنيين للمشروع الإنقلابي الحوثي، وهو مشروع ينبغي فعلاً أن يُرفَض ويدان، لأنه يسير بالبلد عكس مسار التاريخ وفي اتجاه مضاد لقانونيات الصيرورة التاريخية وحتميات التطور المجتمعي نحو الأحدث والأعلى والأسمى والأرقى، ولكن من الناحية الأخرى وبمقابل هذا يعيش الناس على أرض الواقع اليومي المزيد من هيمنة الجماعة صاحبة هذا المشروع الانقلابي، وسيطرتها على كامل المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي وقريبا الثقافي والفكري في عموم مساحة الجمهورية السابقة.
وبعيداً عن نظريات المؤامرة والكيد السياسي يبرز السؤال: ما سر تمكن الجماعة الحوثية من تحقيق هذا الاكتساح الهائل والمفاجئ لكل المشهد السياسي وإزاحة جميع قوى الحداثة السياسية والفكرية التي تزامنت نشأتها وتواكب تطورها مع بدايات التململ الشعبي والتحركات الثورية ضد النظام الإمامي الكهنوتي، وما سر الانصياع الذي تبديه الغالبية من عامة الناس لهذا المشروع الآتي من غياهب الماضي، وتغاضيهم عن إسقاط أدوات التطور والتقدم والنمو التي تكمن وراءها مصالحهم ويصنع بها مستقبل أولادهم وأحفادهم.؟
 المستعجلون والسطحيون يأخذون الأمور بتبسيط شديد وينشرون فكرة أن الشعب الشمالي لا يهمه من يحكمه وإنه يتعاطى مع الأمور السياسية من منطلق “من تزوج أمنا فهو عمنا” وبالتالي فلا يهمه أن يكون الحاكم جمهوريا أو ملكيا، حداثيا أو إماميا، انقلابياً أو شرعياً، بيد إن الأمور ليست بهذه السطحية والتبسيط بل تمتد جذورها عميقا في البنية الثقافية والسياسية للمجتمع الشمالي، وفي العلاقة الأفقية بين القوى السياسية ببعضها والرأسية بينها وبين الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة.
من الطرائف المرة أو (المضحك المبكي) كما يقال، في الحالة السياسية اليمنية (الشمالية) أن القوى السياسية التي تدعي أنها حاملة المشروع الحداثي، أو لنقل حاملة مشروع الدولة المدنية وحامية الجمهورية، قد انقسمت فيما بينها أثناء وبعد انقلاب الحوثي وشركائه في العام 2014م بحيث صار هناك مؤتمريون وناصريون وبعثيون ويساريون وإسلاميون يؤيدون الجماعة الحوثية التي يتجسد في  كل تاريخ علاقاتها بالحداثة والمدنية والجمهورية التنافر والتنابذ والتناقض والصراع الدائم،  وأصبح هؤلاء السياسيون يقاتلون بالرصاصة والكلمة مع هذا المشروع وبالمقابل راح عدد آخر وقد يكون الأغلب من ممثلي هذه القوى السياسية يناصرون الشرعية، بعد خروجها من صنعاء وهروب رموزها إلى المملكة الشقيقة.
إن شعار “رفض المشروع الحوثي” يتجسد فقط في الخطاب السياسي للجماعة المناصرة للشرعية، أو التي تدعي مناصرتها، وهي أقلية هاربة من البلد وتدير معاركها الكلامية ضد الحوثية من عواصم شقيقة وصديقة وتعيش حالة من الرفاهية والترف لا يجعلها تشعر بمعاناة الشعب في الداخل لكنها تمتلك أصواتاً ذات صخب مدوي وضجيج ملعلع عبر وسائل الإعلام المتعدد (المرئية والمسموعة المقروءة)، يجعل كل من يستمع إليها يظن أنها هي الشعب وأن كل الملايين الخمسة والعشرين وأكثر يسيرون وراءها.
بيد إن هذا لا يعني أن الغالبية العظمى من الشعب الشمالي راضية عن المشروع الحوثي وأهدافه المرتبطة بالأجندة الإقليمية والصراع العالمي،  لكن هذه الغالبية تتعايش مع هذا المشروع بالإكراه لأن لا بديل لديها إلا الخيار الآخر الذي هو بالنسبة لها لا يقل سوءً عن الجماعة الحوثية، أو كما قال لي أحد المثقفين الشماليين من المقيمين في صنعا، “نحن نقف أمام شرين: شرٍ قائمٍ ومفروضٍ علينا بالإكراه، وشرٍ بعيدٍ هاربٍ يريد منا أن ندفع  دماءنا وأرواحنا كي يعود من منفاه ليحكمنا”.
وفي رأيي المتواضع أن قوى الحداثة والمدنية، أو من يدعون أنهم أنصار الجمهورية، قد فشلوا في تبني مشروعٍ وطني حداثيٍ بحق، يعبر عن تطلعات وآمال السواد الأعظم من الشعب الشمالي، وأن هذه القوى وقياداتها قد عزلت نفسها عن الشعب وتعالت في أبراجها العاجية، واعتقدت أن ضجيجها عن الجمهورية وصخبها عن الدولة المدنية قد وصل إلى الشعب وأن الشعب يسير وراءها وسينصاع لها وسيرفض المشاريع التي ترفضها، لكنها عندما دخلت الامتحان اكتشفت أنها لوحدها وأن الشعب لا يأكل الخطابات ولا يتداوى بالشعارات، ولا يشرب التصريحات الكلامية بل يؤمن بالأفعال القائمة على الأرض والتي منها تتولد مصالحه وتتراجع آلامه وعذاباته التي لم يصنعها إلا هؤلاء المتقولين.
صحيح أن الجماعة الحوثية تعتمد البطش والقوة القاهرة لفرض مشروعها على الغالبية العظمى من الشعب الشمالي وإجبارها على الخضوع لسياساتها الجائرة والهمجية، لكن الشعب لا يثق بالهاربين الذين لم يستطيعوا يوماً أن يغرسوا لديه الثقافة الجمهورية والمدنية والحداثية الحقيقية، ولا أن يكرسوا مصالحة في أي خطوة من خطواتهم السياسية وممارساتهم العملية.
ولم نتعرض هنا لتناقضات القوى السياسية التي تقول أنها رافضة للمشروع الحوثي فيما بينها ولا لتعامل بعضها تعاملا مزدوجا يقوم على لعن الحوثية لفظيا والتنسيق معها من تحت الطاولة عمليا، فتلك مواضيع تتطلب حديثاً خاصاً ربما نخصص لها وقفة قادمة.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ””