fbpx
في أحضان البتراء..معجزة الزمان الخالدة

 

#علي_صالح_الخلاقي:

إنها البتراء..معجزة الإنسان في غابر الزمان..محفورة آثارها في الصخر الصَّوان.. بتقاسيمها وردية الألوان.. وبزخارف ونقوش صاغها فنان..وحفرها بالإزميل والسِّنْدَان..فبدت آية في الجمال والإتقان..تبهج الخاطر والوجدان.
كانت سعادتي كبيرة وأنا أحقق حلمي القديم بزيارة البتراء، عاصمة مملكة عرب الأنباط الذين انتقلوا من جنوب الجزيرة العربية واستقروا في جنوب الأردن قبل أكثر من ألفي سنة، وأبدعوا حضارة رائعة تتحدث عنها شواهدها الخالدة، التي طالما وصفتها لطلابي في قسم التاريخ بما سمعت وقرأت عنها في المصادر المختلفة. وتقع البتراء، عاصمة مملكة الأنباط، بين مجموعة من الجبال الصخرية الشاهقة، في الشمال الغربي لشبه الجزيرة العربية، وعلى طريق الحرير، المتوسط لحضارات بلاد ما بين النهرين وفلسطين ومصر، وهو ما جعل الأنباط يمسكون بزمام التجارة بين حضارات هذه المناطق ويصبحون ذوي ثراء بالغ.
وفور وصولي إلى الأردن الشقيق كانت البتراء أهم معلمٍ أثري في برنامج زيارتي، والجميل أن رحلات الباصات السياحية متاحة من العاصمة عمّان إلى البتراء، فحجزت تذكرتي وصحوت فجراً في يوم الرحلة لأكون في السادسة والنصف بجانب الباص الذي تحرك في موعده في السابعة صباحاً..وكان على متنه عرب وأجانب مقصدهم جميعاً البتراء، وقطع بنا الباص مسافة 225 كيلومتراً بأريحية خلال ثلاث ساعات منذ انطلاقتنا من عمّان وحتى وصولنا إلى مدينة البتراء التي تقع في لواء البتراء التابع لمحافظة معان، جنوب الأردن، ولم نتوقف إلا لاستراحة قصيرة في منتصف الطريق، وكانت الطريق معبدة بصورة جيدة وذات عدة خطوط ذهاباً وإياباً، لم نشعر خلالها بأي اهتزاز أو تعب لغياب الحفر والمطبات الكبيرة، صحيح هناك مطبات انسيابية أمام التجمعات السكنية يتم فيها تخفيف السرعة الزامياً.
كنت أشبع ناظري برؤية ما على جانبي الطريق من مناظر أو بلدات، ومما لفت انتباهي وجود لوحة تشير إلى بلدة باسم (ذيبان) وعلى الفور تذكرة أصدقائي آل بن ذيبان وقريتهم الشامخة بمعمارها اليافعي المتميز في مكتب الحضارم بيافع، وفي الحسينية رأيت ورشة باسم (السنيدي) فذكرتني بآل السنيدي على كثرتهم في يافع في جبل موفجة الذي يسمى باسمهم وبرباط السنيدي وبآل السنيدي في بني بكر، المجاورة لمسقط رأسي خُلاقة، وأعادت بي الذاكرة هذه الأسماء إلى هجرات القبائل العربية من جزيرة العرب ضمن كتائب الفتح الإسلامي، فضلا عن الهجرات القديمة التي استوطنت الشام، ومنها الأردن.
ومما أبهج النفس انتشار محطات توليد الطاقة بواسطة الرياح في كثير من المناطق التي مررنا بها، ولا شك أنها تسهم في زيادة انتاج الطاقة الكهربائية، ويكفي أننا لم نلحظ انقطاع الكهرباء ولو لدقيقة واحدة خلال فترة الزيارة، ونحن المتعودين على كهرباء (طفي لصي) حتى في فصل الشتاء الأقل استهلاكاً للكهرباء، وهنا يبرز تساؤل وجيه: ما المانع من توظيف جريان الرياح في بلادنا وكذلك الطاقة الشمسية في بلادنا لإنتاج الطاقة الكهربائية؟!.
ها قد وصلنا إلى مقصدنا المرتقب البتراء والشوق يسابقنا إليها.. وها أنا اليوم أكثر سعادة أن أكون في حضرتها وبين أحضانها الحانية والدافئة..فالجو هنا معتدل جداً مقارنة ببرد عمّان، وكنت قد أخذت على سبيل الحيطة جاكيتاً وفنيلة دافئة تحسباً للبرد لكنني لم أعد بحاجة لهما هنا إذ يزداد الجو ميلاً للحرارة كلما سرنا نزولاً في الوادي المؤدي إلى آثار البتراء، فاضطررت إلى حملهما بالحقيبة على كتفي، وكان القميص كافياً في هذه الأجواء المنعشة، واحتجت فقط لشراء قبعة لحماية صلعة رأسي من ضربات الشمس الحارة، وحينما كنت أشعر بثقلها على رأسي- لعدم تعودي عليها- كنت انتزعها وأحملها بيدي.
هبطنا نزولاً من بوابة المدينة الأثرية بعد قطع تذاكر الدخول، وأمام كل زائر ثلاثة خيارات، أن يسير مشياً على الأقدام، أو أن يركب عربة صغيرة مخصصة للنقل الداخلي تحمل عدة أشخاص بمقابل لمن يرغب بذلك، أو أن يمتطي ظهر أحد الأحصنة التي يعرضها أصحابها ويكسبون منها رزقهم. كثيرون يختارون المشي على الأقدام، وأنا منهم، للاستمتاع بما في جنبات الطريق من معالم محفورة بالصخر والتوقف هنا أو هناك لالتقاط الصور التذكارية.
ما أراه بأم عينيّ هنا – ومنذ الوهلة الأولى- يفوق كل وصف، وصدق من قال (أن ترى مرةً خير من أن تسمع مائة مرة). نبدأ السير هبوطاً في الطريق الرئيس المؤدي لمدينة البتراء، ويُسمى (السيق) وهو عبارة عن شق صخري ضيق ذو جوانب شاهقة العلو، يبلغ ارتفاعها إلى حوالي 80 متراً، وبالكاد تسمح بمرور أشعة الشمس، ويبلغ طوله حوالي 1200 متراً وعرضه يتراوح من 3 – 12 متراً، وينتهي في الجهة المقابلة للخزنة، وتظهر على جهته اليسرى عند النزول قنوات إيصال المياه محفورة بوضوح بشكل انسيابي في بطن الجبل وتمتد من عيون وادي موسى في الخارج إلى المدينة في الداخل.
وخلال السير في السيق شاهدنا السدود الجانبية، التي أقيمت في مكان السدود النبطية الأصلية، لمنع تدفق المياه إلى السيق، وحجزها والاستفادة منها، وعلى جانبي الطريق توجد المنحوتات الصخرية المتنوعة، بعضها يلاصق قنوات المياه، لاعتقاد الأنباط بأن المياه مقدسة. وهناك منحوتات يوجد فيها نقش باليونانية، يشير إلى أن سابينوس ابن الإسكندر المقدوني، الذي قدم من درعا، هو من أمر بنحت هذه المحاريب تمجيداً للآلهة النبطية.وهناك منحوتات لقافلة تجارية، تعكس مكانة البتراء التجارية لوقوعها على طريق القوافل.
ما أن انتهينا من السير الهوينا في ذلك أعماق ذلك الممر الضيق بين شواهق الجبال، حتى وجدنا أنفسنا أمام مشهد دراماتيكي يثير الدهشة والأعجاب، تمثل الخزنة فيه اللوحة الأكثر إدهاشاً لمن يقف أمام مهابتها وعظمتها لأول مرة. وتعتبر الخزنة المنحوتة في صميم الصخر، أشهر معالم البتراء وهي أول وأهم معلم يقابله الزائر فور دخوله المدينة من الممر الجبلي الضيق. حيث يقف مندهشاً أمام عظمة ما صنعته يد الأنسان، في غابر الزمان، من نحت هذا البنيان، في بطن الجبل فاكتملت أبهته وفخامته بجمال عقوده وزخارفه. وجاءت تسميته بالخزنة لاعتقاد البدو المحليين سابقًا بأن الجرة الموجودة في أعلى الواجهة تحوي كنزًا، بينما هي ضريح ملكي، يعود إلى القرن الأول الميلادي، زمن الملك الحارث الرابع ملك الأنباط ويُرجح أنها كانت مدفناً له، ويتكون مبنى الخزنة من الداخل من ثلاث حجرات، لم يتسَنَّ لنا دخولها.
ويكثر أمام ساحتها الرئيسية الزوار على مدار اليوم، دون توقف، وكل منهم يلتقط الصور التذكارية على خلفية هذا الأثر العظيم، ويفضل الأجانب امتطاء ظهور الجمال مع لبس عقال الراس التقليدي للتجول في المدينة والتقاط الصور التذكارية، وقد فضلت أن اتسلق صفحة الجبل المقابل للخزنة ومن بطن هذا الجبل استمتعت برؤية عظمة المكان من الأعلى.
ومن ساحة الخزنة التي كنت أظنها نهاية المطاف، إذا بنا نواصل المسير إلى الأسفل في طريق أكثر سعة وعلى جاني مجرى الوادي تنتشر يمنة ويسرة المعالم الأثرية المنحوتة في الصخور، واندهشت لكثرتها. ومن تلك المعالم الأثرية (الدير) وهو أكبر حجماً من مبنى الخزنة، حيث يصل يبلغ ارتفاعه 50 متراً، وعرضه بالمثل، وتظهر آثار للصلبان المحفورة في الصخر في الغرفة الوحيدة الموجودة في الطابق السفلي من الواجهة.
وتوقفت للاستراحة أمام مسرح البتراء، وهو مدرجٌ منحوت في الصخر باستثناء البناء الظاهر في الجزء الأمامي منه، وتعجبت لإتقان نحت المدرجات في بطن الجبل على شكل نصف دائرة بقطر 95 متراً، وبارتفاع 23 متراً. كما تم قطع ساحة الاوركسترا بالصخر، وللمسرح ممران جانبيان مقطوعان أيضًا في الصخر ومسقفان بالحجارة على شكل عقد، ويزدان الجدار الخلفي للمسرح بالأعمدة وواجهته مغطاة بالألواح الرخامية، ويتسع لحوالي من 7 – 10 آلاف مشاهد.
ومن المعالم الأخرى نذكر (قصر البنت) وهو معبد نبطي من القرن الأول قبل الميلاد. ويُعتقد أن الآلهة هي اللات أو العزى أو للإله الأعلى ذو الشرى. وهناك مبنى المحكمة أو قبر الجرة ويقع على الجهة المقابلة للمدرج النبطي. وكذا المعبد الكبير، وهو أضخم المباني في مدينة البتراء، ويقع هذا المعبد على الجهة الجنوبية من الشارع المُعمد، والكثير من المعالم الأخرى ذات الوظائف المختلفة التي يصعب حصرها ووصفها.
وهنا يلتقي الزائرون من مختلف البلدان، وتتردد في الأرجاء أصوات لغاتهم المختلفة، ومن محاسن الزيارة أن تعرفت على أسرة روسية، مكونة من أب وأم وولديهما، فكانت فرصة سانحة للحديث معهم بالروسية التي تعلمتها أثناء دراستي في موسكو وترجمة عنها ثلاثة كتب منشورة، اثنان عن سقطرى وواحد عن حضرموت، ورغم مضي أكثر من عقدين ونصف على تخرجي إلا أنني لم أفقد التفاهم جيداً بلغتي الروسية، وكنت شبه دليل لهم في بعض مواقع الرحلة حينما نلتقي مصادفة معهم.
وبقي أن نعرف أن مدينة البتراء الأثرية اُكتشفت عام 1812م، وأُدرجت على لائحة التراث العالمي التابعة لليونسكو في عام 1985م، وتم اختيارها كواحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة عام 2007م. وهي اليوم، قبلة للزوار الذين يفدون إلى المملكة الأردنية من أرجاء العالم لمشاهدة آثار هذه المدينة الخالدة بما تزخر به من معالم عظيمة أبدع في صنعها بُناتها عرب الأنباط ممن تفننوا في نحت بيوتهم ومعابدهم وأضرحتهم في صميم الصخر وأبدعوا فناً ساحراً، ومآثراً شاهدة على حضارتهم التليدة. وقد أحسن الشاعر سعيد يعقوب بوصفه للبتراء بأنها معجزة الزمان الخالدة، إذ يقول:
هي البتراء معجزة الزمان
وشاهد رفعةٍ وعلوِّ شانِ
دلائل قدرة خشعت لديها
جباه الدهر مسلسلة العنانِ
فم الأنباط في سمع الليالي
شدا ما شاء من أحلى الأغاني
أذلّوا الصخر حتى طوّعوه
لما شاءوه من سحر المعاني
على صفحاته نقشوا فخاراً
ومجداً خالداً أبد الزمان
هي البتراء تاريخٌ مجيدٌ
يُشار له افتناناً بالبنانِ

16يناير2022م