fbpx
معالم إسلامية تاريخية في “قازان”..ومعبد لكل الأديان!!

 

د.علي صالح الخلاقي:

أيامٌ قليلة قضيتها في مدينة “قازان”، عاصمة جمهورية تتارستان في روسيا الاتحادية، لكنها كانت ممتعة، رغم برودة الشتاء وبدء تساقط الثلوج التي حجبت الخضرة الزهية وألبست الأشجار والحدائق حلة بيضاء وجمدت نهر الفولجا وغدت صفحته ساحة يسير عليها الناس أو يحفرون فتحات في العمق لاصطياد الأسماك. ونهر الفولجا هو أطول أنهار أوروبا، وقد استوطنت حوله قبائل التتار قبل قرون عديدة واتخذت لها هنا موطناً استقرت به، ومن هنا جاء اسم “تتارستان” أي أرض التتار، وعلى ضفاف الفولجا تطل العاصمة “قازان” بطبيعتها الساحرة التي تبدو أكثر ألقا وبهاءً في الصيف حينما تتدثر بالخضرة وتتزين بالزهور في الحدائق الغناء التي تتوزع على امتداد مساحتها الإجمالية البالغة 452 كيلومتراً مربعاً على مسطحات خضراء.
تحفل العاصمة “قازان” بالكثير من المعالم التاريخية والدينية والمناطق السياحية التي جعلت منها قبلة سياحية يؤمها عشاق الهدوء والجمال، ولكم شعرت بمتعة فريدة وأنا أفضل التجول سيراً على القدمين بين شوارعها ومعالمها ذات الثراء التاريخي والثقافي والمعماري .
ومن أهم معالمها التاريخية والسياحية “كرملين قازان”، الذي يقع في قلب المدينة، وقد أعلنته اليونسكو عام 2000 ضمن قائمة التراث العالمي، كونه نموذجاً معمارياً متفرداً للقلعة القديمة، ويعود بناءه إلى القرن الثاني عشر. ومن التلة المرتفعة التي يقع فيها يمكن للمرء الاستمتاع بإطلالة على بانوراما خلابة لأجزاء واسعة من المدينة ونهر الفولجا الممتد بين ضفتي المدينة.
وفي كرملين “قازان” يتجاور جامع “قول شريف” ومتحفه الإسلامي مع كاتدرائية “بلاجوفسشينكي”، وبرج “سيويومبايك” الشهير، الذي يحمل اسم آخر ملكة لمدينة قازان، والذي شيده لها القيصر الروسي “إيفان الرهيب” مَهْراً لها لكي تقبل به زوجاً لها بعد أن وقع في هواها كما تروي الحكايات الروسية، ويتجسد هنا التسامح الديني وتعايش الأديان والثقافات بأروع الصور، في مجتمع قازان متعدد الأعراق والقوميات والثقافات.
قُوْل شريف..جامع ومتحف إسلامي
————-
يعد مسجد “قُوْل شريف” أو المسجد الجامع أعظم مساجد أوروبا، من غير تركيا، وقد بُني في القرن السادس عشر، وسمي بهذا الاسم تكريماً للبطل القومي التتاري “قُول شريف” الذي تصدر المقاومة البطولية مع طلابه حتى استشهاده أثناء الدفاع عن مدينة قازان المسلمة خلال اجتياح القوات الروسية لها بقيادة إيفان الرهيب عام 1552م الذي دمر مساجدها وضيق على المسلمين فيها.
أعيد بناء المسجد عام 1996م بتمويل من التبرعات التي قدمها مواطنو تتارستان، وكانت الدولة ترفض أي تبرعات أو مساهمات في بناء هذا المسجد وقد تولى إدارة إعادة البناء من الصفر الرئيس السابق شايمييف، وافتتح رسمياً عام 2005م. ويعد ثاني أكبر مسجد في روسيا وأوروبا، باستثناء تركيا، وبعد مسجد الشيشان الكبير، وتم إدراجه ضمن التراث العالمي لليونسكو. والمسجد ، كما يبدو للناظر، تحفة معمارية إسلامية فريدة، ترتفع قبته المركزية 39 متراً، وله 4 مآذن يبلغ ارتفاعها 57 متراً، ونُقش على قمته كلمة “بسم الله” في الجزء العلوي من البناء على هيئة ثمانية أقواس. ويتسع المسجد لنحو 5000 مُصَلٍّ، فيما تستوعب ساحته الخارجية قرابة 10000 مُصلٍّ.
يوجد في الدور الأرضي للمسجد المتحفٌ الإسلامي، وقد تجولت في أرجائه واطلعت على محتوياته التي تضم نسخاً قديمة من القران الكريم، التي أعز الله بها هذه الأرض، ولوحات جميلة بأصناف الخط العربي لآيات قرانية ووصف مفصل حول تعاليم الإسلام، كتب قصص الأنبياء، الحج والعمرة، مصحف إلكتروني، والعديد من التحف الإسلامية ووثائق ومخطوطات قديمة ومنشورات باللغة التتارية بالخط العربي ذات صلة بتاريخ الإسلام في منطقة حوض الفولجا التي وصلها الإسلام قبل نحو ألف عام، وتحديداً في عام 922 ميلادية على يد العالم المسلم أحمد بن فضلان ورفاق رحلته الشهيرة الذين أرسلهم الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى هذه الأصقاع القصية من العالم. ولفتت انتباهي بعض النسخ لمؤلفات دينية وتاريخية نُشرت في القرن التاسع عشر بمطابع قازان باللغة العربية، مثل مقدمة كتاب” الحق المبين في محاسن أوضاع الدين” وطبعت من جيب ثابت بن صالح القزّاني (نسبة لقازان) سنة 1307هـ/1889م. أو كتاب “تلفيق الأخبار وتلقيح الآثار في وقائع قَزَان وبُلغار وملوك التتار” طبع سنة1908م وهذا الكتاب جدير بأن تعاد طباعته لأهميته التاريخية في تسليط ضوء على صفحات من تاريخ الإسلام في هذه المنطقة. وعلمت أنه كان يوجد في المتحف أكبر مصحف في العالم، بطول متران وعرض متر ونصف المتر وعدد صفحاته 632 صفحة ويزن نحو 800 كيلوغرام، قبل أن يُنقل إلى مدينة (بُولغار) الإسلامية التاريخية.
مسجد “مرجاني” وتمثاله الجديد
————-
اصطحبني الصديق د.محمد صالح العماري في جولة حرة مشياً على الأقدام في القسم التتاري الإسلامي من المدينة القديمة، حيث تنتشر المحلات والأزياء الإسلامية بصورة ملحوظة، لا سيما وأنه يتركز هنا المسلمون الذين يشكلون قرابة 60% من إجمالي سكان قازان. وفي هذا الوسط حيث المدرسة “المحمدية” توجد بالقرب منها وفي محيطها العديد من المساجد مثل مسجد رمضان، مسجد نور الإسلام، مسجد “أباناي” ومسجد السلطان. ومن أهم المساجد التاريخية مسجد “مرجاني” الذي يعتبر أول مسجد بني بالحجر في “قازان”، على أنقاض المبنى الخشبي، بأمر من كاتيرين الثانية سنة 1767م خلال زيارتها لـ”قازان”، وسُمي نسبة إلى رجل الدين، المصلح الاجتماعي والعالم التتاري شهاب الدين المرجاني الذي عاش في القرن التاسع عشر ودرس في سمرقند وبخارى وأجاد العربية والفارسية، ثم عاد إلى قازان حيث عين إماما للمسجد الجامع فيها، وتولى التدريس في المدرسة الإسلامية، بل ودَرَّس أيضا في المدرسة القازانية للمعلمين الروس، وأسهم بأعماله ومؤلفاته – التي كتب معظمها باللغة العرؤبية- وتربو على الثلاثين في الفقه والتفسير والتاريخ والفلسفة في تنوير الشعب التتاري، وهو الشخصية التاريخية الكبرى الأولى بين التتار المسلمين في روسيا، التي استطاعت إرساء التقاليد الإصلاحية العقلية في مختلف الميادين العلمية والعملية، ولذلك يعتبرونه بطلا قوميا. وتخليداً لذكراه قام رئيس جمهورية تتارستان روستام مينيخانوف ومستشار الجمهورية مينتيمير شايمييف في نوفمبر الماضي بإسدال الستار عن تمثال شُيِّد له وينتصب غير بعيد من الجامع الذي يحمل اسمه على ضفاف بحيرة “كابان” في “قازان”. وقد أتيح لنا برفقة زميلي د.العماري أن نشاهد التمثال بُعيد لحظات من افتتاحه الرسمي، كما يتضح من باقات الزهور الطرية التي وضعت أمامه، ويتجه التمثال بنظرته إلى الجامع الذي يحمل اسم صاحبه، وكذا كلية قازان الإسلامية المجاورة للمسجد.
معبد كل الأديان
——–
ومثلما يتجاور المسجد والكنيسة في كرميلن “قازان” جنبا إلى جنب، فقد شُيد في قازان “معبد كل الأديان”، من تصميم وتشيد شخص يدعى “إلدار خانوف”، بدأ العمل به عام 1994م ويتكون من أشكال متنوعة من العمارة الدينية، وخلال زيارتنا له رأينا أن بعض أجزائه ما زالت قيد الإنشاء، وهو يتألف من 16 من القباب و16 من الديانات الرئيسية في العالم، بما فيها الأديان السابقة التي لم تعد تمارس طقوسها..وترى هنا المسجد الإسلامي بجانب الكنيسة الارثوذكسية، والمعبد البوذي، والكنيس اليهودي، وغير ذلك من الأديان، وأصبح هذا المعبد من أهم المعالم السياحية التي يتجه إليها زوار “قازان” بل والمواطنون التتار، ويقفون أمامه بانهبار وإعجاب.