fbpx
ورود على فوهات البنادق ( الحلقة الثانية) * بقلم / إياد علوي فرحان
شارك الخبر
ورود على فوهات البنادق  ( الحلقة الثانية)  * بقلم / إياد علوي فرحان


لعل من المناسب لي هنا وبمطلع هذه التكملة التنويه بأني اكتب هذا الموضوع أساسا بمناسبة ذكرى تأسيس الجيش الجنوبي الباسل،وأشير هنا بأنني قد بذلت قصار الجهد كي لا أحيد عن جوهر الموضوع،متجنبا قدر المستطاع الغوص في الأعماق السحيقة للتاريخ السياسي الجنوبي بظلماتها وتشعباتها وتعقيداتها،فأنا لا أعتقد أني الشخص المناسب لتولي هذه المهمة الخطرة،وهي متروكة للباحثين والمؤخرين المعاصرين،إضافة لمن تبقى ممن عاصروا تلك المراحل من “الشهود على العصر” والذين نأمل أن يأتي يومأ نراهم فيه وقد أناطوا اللثام عن ما بحوزتهم من إجابات لعدد لا حصر له من التساؤلات،فهذه الإجابات تحتاجها أجيال اليوم بشدة لسد الثغرات وملئ الفراغات التي يمتلئ بها تاريخنا الوطني الحديث والتي وجد من خلالها أدعياء النضال ولصوص التاريخ المنفذ للتسلل إلى مسارح أحداث ووقائع تاريخية لم يكونوا يوما من أهلها أو من صانعيها،فعملوا على دس وقائع وتفاصيل غير”أصلية”بهدف تشويه معالم ذلك التاريخ التليد وإعادة صياغته بما يتوافق مع مشاريعهم طويلة الأمد والتي بتنا اليوم نعيش إرهاصاتها.
وكيفما كان الأمر فأنه من الصعوبة بمكان أن يتم تناول ظاهرة نشوء وتأسيس  القوات المسلحة ومحطاتها التاريخية بمنأى عن تسليط ولو بعض الضوء على أهم الملامح السياسية التي أحاطت بالدولة التي أسست هذا الجيش ونظامها السياسي في تلك المراحل واهم المنعطفات لسيرورتها وصيرورتها،فالشعب والأرض والدولة والنظام السياسي والمؤسسات جميعها عناصر يرتبط  كلا منها على حدا بالأخر بعلاقة طردية أزلية،حينا تتخذ منحى تصاعدي نحو ذروة الهرم باتجاه القوة والازدهار،وحين أخر منحى تنازلي إلى أسفله باتجاه الضعف والانحسار والأفول.

لقد رأينا في الحلقة السابقة كيف بدأت بريطانيا بالغاء خططها المتعلقة بوجودها في عدن وبقية مناطق الجنوب،وكيف باشرت بأقامة السياج الشائكة حول جسد الدولة الجنوبية الوليدة”طرية العود” وتضييق الخناق عليها من قبلهاوحلفائها في المنطقة.

لقد ظل الجنوب شأنه شأن اجزاء كثيرة اخرى مستعمرة من قبل بريطانيا يتفاعل ويتاثر بالمتغيرات الخارجية التي تعتمل من حوله وتنعكس عليه داخليا،فبعد ان انهكت الحرب الكونية الثانية القوى الاستعمارية القديمة ومنها بريطانيا وما ترتب على ذلك من متغييرات في هذه الدول نفسها وكذا بمستعمراتها التي بدأ بعضها بالاستقلال فعلا،بدأت هذه القوى العمل على ايجاد صيغة جديدة لعلاقتها بمستعمراتها لتتحول لصيغة “الانتداب” وهو الاستعمار القائم على شيئ من الشراكة المحلية مع المستعمرات”التي لم تنضج بعد لحكم نفسها بنفسها” وهو ما يحاول البعض اليوم اسقاطه على “واقعنا الحالي”!! ففي عدن التي كانت قد اصابت تطورا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا كبيرا بدأت اثاره تنفذ لبقية مناطق الجنوب ،عملت بريطانيا على اعطاء فسحة معينة للحريات فيها فسمحت بأطلاق الصحف والدوريات وغيرها وأوجدت هامش مدروس  لحراك سياسي ما بالمستعمرة ، فسمحت بنشاط بعض الحركات السياسية ورخصت لاحزاب بالظهور ومنها “قوى اليسار والشيوعيين”!! والقوميين وغيرهم وكذلك اسست النقابات العمالية!

لقد كانت المنطقة العربية بل وحتى العالم يمران بمرحلة تأسيس لعهد جديد وترتيباته،لقد امتدت رحلة البحث عن الذات والرغبة بالتحرر عند العرب لقرون عجاف ظلوا خلالها يصولون ويجولون بصور عدة للوصول لاستقلال دولهم وشعوبهم،والى ما قبل حقبة ظهور حركات التحرر الوطنيةالعربية بالخمسينات،كانت هناك نموذج أخر أقدم يقوم بالأساس على الفكر الديني ذي الخلفية الاقطاعية والمتشرب بأفكار الحركات التجديدية والتصحيحية الدينية، كان هذا الأنموذج عادة ما يكون فكرا تحرريا دينيا يقوم بالأساس على الجهاد برعاية ولاة الأمر والذين لم يكونوا سوى ملوك وسلاطين لقوى اقليمية صاعدة ومتنافسة في تلك الحقب التاريخية،وكان الكثير منهم قد اعتمد في بسط سلطانه وتوسيع دولته على مشاريع قومية تقوم بعضها على أساس دعوات دينية إصلاحية،ولكن هذا الأنموذج لم يفلح في تحقيق ولو مشروع تحرري واحد ناجز على الأقل،بل على العكس من ذلك قدم صور عديدة تدل على تناقضه والخلل الذي يعتريه وصعوبة التوفيق بين شقيه النظري والعملي ،حيث كان مايعتمل على ارض الواقع مخالفا للتنظيرات،فما لبث وان تحول إلى مشاريع حكم وملك وسلطة…واداة للهيمنة والتوسع والسيطرة وإحلال قوى مكان أخرى حتى وان كانت تحمل نفس مضامين هذا المفهوم،فطرد دولة الخلافة الإسلامية مثلا من ارض المسلمين على اثر الثورة العربية الكبرى التي قام بها شريف مكة الذي تحالف مع قادة الجمعيات العربية في العراق وسورية ضد”الباب العالي”مقابل وعود”حليفته” بريطانيا بأن يكون لاحقا ملكا لدولة عربية مترامية الأطراف،كان قد قدم مثالا لتناقض هذا المفهوم مع نفسه ومع خلفيته الدينية،ثم تجسدت صورة أخرى تدلل على تخبط هذا المفهوم وفشله  بتحقيق الخلاص الذي يحلم به العرب من خلال ماحدث لشريف مكة بعد طرده للعثمانيين من الحجاز والشام على يد جارته وشقيقته”حليفة بريطانيا الأخرى” في نجد وطردها له من معاقله في الحجاز التي خسرها جميعها، لتقوم بعدها على أنقاض دولته في الحجاز إلى جانب نجد “المملكة السعودية” بنسختها الثالثة وكان هذا مثالا اخر على فشل هذا النوع من الحراك التحرري،وهي نفسها”اي السعودية”كانت من قبل قد تعرضت للزوال مرتين تحقيقا لرغبة”الدولة العلية”و”خليفة المؤمنين” في الاستانة!

لقد ظل هذا النمط للخلاص والتحرر الوطني القائم على الفكر الديني والدعوي ذي الخلفية الإقطاعية الملكية و المتبنى رسميا من ولاة الأمر و”أمراء المؤمنين” متصدرا للحركة الوطنية العربية لفترة طويلة امتدت حتى مشارف الحقبة التي شهدت انطلاق حركات التحرر العربية في الخمسينات والتي قدمت للعرب أنموذجا لمفهوم جديد ومختلف للتحرر من سيطرة الاستعمار،يحاكي واقعهم وتطلعاتهم واثبت فعاليته ونجاعته وتحول إلى واقع ملموس،خصوصا بعد انطلاق ثورة يوليو في مصر وعودة الدولة المصرية الحديثة بنسختها الثانية،وهو ما يعني التجربة الثانية لحركة التحرر العربي والتي أدت من ضمن ما أدت إليه إلى تصدر القاهرة لواجهة الأحداث بالمنطقة والعالم مجددا وكما كانت في الماضي في عهد محمد علي.

لقد أردت مما تقدم أن اخلص إلى القول بأن الثوار الجنوبيين والحركات الوطنية التي تصدرت حينها المسيرة التحررية استفادت كأي ثورة بالعالم من التشبت بطوق النجاة الوحيد الذي كان متاحا أمامها حينها والذي كانت تحتاجه، شأنها شان كثير من بلدان وحركات التحرر في العالم،ولا يستطيع كائن من كان أن يأتي ما يثبت قطعيا بأنه كان بالإمكان أن يكون الأمر أفضل مما كان ، أو يثبت ان الجنوب كان بوسعه ان يجد طريق اخر اوعون اخر لنيل استقلاله غير  ذاك الذي سلكه ووجده حينها،ولا يمكن لاحد ان يثبت ان الجنوب كان بمقدوره بدون عون خارجي ان ينال استقلاله حتى بالحوار،فالجوار لم يكن مع فكرة وجود دولة للجنوب ليدعم استقلالها بالحوار والضغط كما فعل أزاء مشيخات الخليج المتصالحة حينها ولا يوجد ما يثبت عكس هذا،أضافة الى ان معظم حركات التحرر في العالم تاريخيا لم تعرف النجاعة ألا بالعون الخارجي،فلولا الدعم الفرنسي الحاسم للثورة الأميركية مثلا لما كانت قد انتصرت على جيوش بريطانيا الجرارة وانتزعت استقلالها.

جاء العون المصري للثورةالجنوبية التي انطلقت”رسميا”في 14اكتوبر من العام 1967 والتي تصدرها القوميين الجنوبيين انذاك، وهوالعون الذي الذي جاء عبر”التراب اليمني”والذي كان المنفذ الوحيد حينها الذي كان من الممكن أن يجيء عبره هذا العون،ومثل مجيئه تجسيدا للصورة الواقعية التي خلصت إليها أحوال المنطقة ومنها الجنوب،فالتحالف مع ثورة يوليو المصرية لم يكن كذلك هو الأخر من ضمن عدة خيارات كانت “متاحة” امام الثوار ،بل كان المتاح هو خيارا واحدا حينها،كان بمثابة  “حتمية تاريخية” أوجدتها تطورات الأحداث والوقائع والسياق التاريخي لها،وعززتها “طبيعة” مواقف الأطراف في المنطقة من “الحالة الجنوبية” وتعارضها معها من حيث الشكل والمضمون،وهي المواقف التي كانت تؤكد القراءة الاكيدة لها بأنها لم تكن لتؤدي إلى مساعدة الجنوب لنيل استقلاله واستيعابه ضمن منظومة الجوار بأي حال من الأحوال، ولم يكن مستغربا منها ان توصد الابواب بوجه بزوغ”جمهورية جنوبية قومية”.. كيف لا وهي التي عانت بالسابق من عقدة “المد المصري”علي يد محمد علي باشا، وهاهي ترى العودة المصرية على ابوابها وحدودها مجددا وبمفهوم قومي بدا لها اكثر خطورة يحمل”فكرا منحرفا”لا يخلو من روح التأمر عليها.

وعندما حدث التقارب لاحقا بين الخصمين اللذوين في حرب 73م وما مانتج عن هذا التقارب من انتاج جبهة عربية واحدة ومن مواقف قومية اخرى،مثل وقف تصدير النفط ابرزها، ظلت “اليمن الجنوبي” احد حلفاء هذه الجبهة العربية على حالها تقابل بنفس ذلك المنوال السلبي،واستمر الانكفاء تجاهها من قبل دول الإقليم ،وظلت “عدن”تؤاخذ وتعاقب على ثوريتها وقوميتها وصعوبة السيطرة عليها.

لم يكن بالامر السهل حينها ان يحصل الجنوب على استقلاله ببساطة “في كيان سياسي واحد” بالنظر الى حالة التشظي التي كانت تعتريه ،وعلاوة ذلك مثلت أقامته لـ”جمهورية”عصية على نفوذ محيطها الثري والقوي و المختلف عنها تماما، مثلت حدثا تاريخيا فريدا،وتحديا جريئا في منطقة لا تقبل فيها التحديات،خصوصا في ظل ذلك التزاحم وصراع الارادات بين التيارين المتنافسين، التقليدي القديم والمحدث الجديد  والذي وصل الى حد الاصطدام الدموي المنهك وطويل الامد اسفر عن سقوط مئات الالوف في اليمن،وهوالامر الذي كان له سلبياته على ثورته الذي اندلعت في سبتمبر من العام1962م.

–    انتهى –

أخبار ذات صله