fbpx
الجنوب التاريخ والهوية ( دراسة 1)

الجنوب … التاريخ والهوية

                    د/سعودي علي عبيد

      المقدمة:

   لقد قرر شعب الجنوب أن يستعيد تاريخه وهويته، اللذين جرى اختطافهما ومصادرتهما لفترات زمنية ليست بالقصيرة. حيث تمتْ عملية تزوير مدروسة ومتواصلة لتاريخ الجنوب. ولم تمسْ عملية التزوير هذه كتابة وتدوين هذا التاريخ فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى إنكار الجنوب كوجود وهوية. فشُنتْ الحربُ عليه في صيف 1994م، وجرى اجتياح واحتلال أراضي الجنوب، ومن ثم ضمها إلى الجمهورية العربية اليمنية.

   وقد غاب عن أولئك الذين قاموا بتزوير تاريخ الجنوب، ومصادرته لصالحهم، مجموعة من البديهيات الأساسية وهي:

الأولى: هو أنَّ التاريخ لا يمكن أن يُكتبَ لمرة واحدة فقط، ولكنه مادةً تُكتبُ لعشرات، بل ولمئات المرات. كما تُعاد كتابتها باستمرار. وذلك يرجع إلى عدة أسباب. منها مثلاً؛ ظهور معلومات جديدة عن أي صفحة من صفحات هذا التاريخ، أو بسبب التطور في مذاهب التاريخ وفلسفته، وظهور أدوات فكرية جديدة تستخدم في دراسة التاريخ، أو بسبب ظهور كُتَّاب أو مؤرخين، عندهم القدرة والرغبة في إعادة كتابة هذا التاريخ.

الثانية: هو بما أنَّ التاريخ ليس شيئاً يُكتب لمرة واحدة، كذلك فإنه ليس شيئاً تكتبه جهة واحدة.

الثالثة: هو أنَّ شعب الجنوب من الشعوب الحيَّة. ولأنه كذلك، فقد رفض الاستسلام لمشيئة ورغبة أولئك الذين زوَّروا تاريخه، وأرادوا إلغاء هويته ووجوده.

   وعليه، فإنَّ شعب الجنوب، وبعد أن استنهض قواه منذ عام 1997م، فإنه بذلك قد امتلك زمام أمره بنفسه. وكانت المهمة الرئيسية هي استعادة تاريخه وهويته. كما كانت الخطوة الأولى، هي إعادة قراءة تاريخنا كما نراه بعيوننا، ومن ثم إعادة كتابته، باعتباره التاريخ الذي يخص الجنوب وشعبه فقط. وعليه فقد كان من الأهمية بمكان، القيام بهذه المهمة النبيلة والسامية. والمقصود بذلك ” إعادة كتابة تاريخ الجنوب “، وذلك كما يراه ويعرفه الجنوبيون، باعتباره التاريخ الذي يخصَّهم أنفسهم.

   لقد تعرَّض الجنوب على امتداد تاريخه الطويل، لصنوف من الغزو والاحتلال. وقد اختلفتْ دوافع وأسباب غزو واحتلال الجنوب، من مرحلة تاريخية معينة إلى أخرى. وبشكلٍ عام، فقد كان العامل المشترك بين كل تلك الدوافع، هو الأهمية التي يكتسبها الجنوب؛ أكان من حيث إستراتيجية الموقع الجغرافي، باعتباره مطلاً ورابطاً بين عددٍ من المحيطات والبحار والقارات، أو من حيث اتساع مساحة الجنوب، أو ما تحتويه أراضيه من ثروات نفطية، ومعدنية وسمكية، وما سواها.

   لقد كان اتساع أراضي الجنوب، هو الدافع المحدد الأساسي لغزو جحافل القبائل السبائية اليمنية للجنوب، مما أدَّى إلى اقتسام وتوزيع أراضي الجنوب، على زعماء ورؤساء تلك القبائل الغازية. ثمَّ جاء الغزو والاحتلال الروماني والبرتغالي، فكان دافعهما الرئيس، هو الموقع الجغرافي الإستراتيجي للجنوب على مفترق الطرق البحرية الدولية، وبما نتج عن ذلك من سيطرة على هذه الطرق الدولية.

   وعلى إثر خروج الأتراك من(الأراضي اليمنية)، وتأسيس الدولة القاسمية على تلك الأراضي، فقد قام القاسميون بغزو واحتلال معظم أراضي الجنوب في الفترة(1635- 1685م). وكان الدافع الأساسي والحقيقي من ذلك الفعل، هو البحث عن موارد اقتصادية لدولتهم الجديدة، التي كانت تفتقر لأدنى متطلبات البقاء والاستمرار. ومن أجل تحقيق هدفهم ذاك، فقد عملوا على استدعاء المخيال التاريخي المزيَّف، واللجوء إلى تعسفه باسم وحدة اليمن، التي زعموا أنها كانت قائمة قبل آلاف السنين.

   كما كانت دوافع الاحتلال البريطاني للجنوب(1839 – 1967م)، ذات علاقة مباشرة بالموقع الإستراتيجي، الذي تحتله عدن كمحطة لتموين السفن بالوقود، وباعتبارها تقع على مدخل مضيق باب المندب، وهو الممر المائي الذي يتحكم بأهم الطرق البحرية العالمية.

   وإذا كانت دوافع وأسباب كلٍّ من احتلال وسيطرة الرومان، والبرتغاليين والأتراك والبريطانيين للجنوب، قد انحصرتْ في الأهمية الإستراتيجية لميناء عدن وبقية الموانئ الجنوبية، فإنَّ دوافع وأسباب كلٍّ من الغزو السبائي والقاسميين للجنوب، قد تجاوزت أهداف الغزاة الآخرين، بحيث استهدفت أساساً محو تاريخ وهوية الجنوب من الوجود، ناهيك عمَّا رافق ذلك من وسائل الإبادة الجماعية لشعب الجنوب، والاستيلاء على أراضي الجنوب وثروته.

   ومثل سائر شعوب العالم، فقد كان شعب الجنوب دائم التواقان إلى الحرية. ومن أجل هذه الحرية، فقد كافح وناضل ضد كلّ القوى التي غزتْ واحتلتْ أرضه، أو تلك التي استهدفتْ تاريخه وهويته. وقد سطَّر أروع المعارك والملاحم التاريخية والبطولية، في سبيل استعادة حريته، والحفاظ على هويته.

ـ1ـ

الجنوب: منذ ما قبل الاستقلال، حتى قيام دولة الاستقلال

   لقد مثلَّتْ مرحلة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أهم المراحل في تاريخ شعب الجنوب، وذلك على صعيد تاريخه المعاصر. ويمكن القول بأنَّ أهمية تلك المرحلة، قد تحدد من طابعها المزدوج التي اتسمتْ به، والتي كان مركز الثقل فيها، هو عودة الصراع من جديد على تاريخ وهوية الجنوب، ولكن بوسائل وطرق أكثر خبثاً ودهاءً.

   فمن ناحية أولى، استطاع شعب الجنوب بذكائه وفطنته  – وكذا خبرته المتراكمة عبر مئات السنين، وبالاستفادة من نهوض الحركة العمالية العالمية، وكذا من المد الثوري القومي العربي، وبالاستناد إلى تاريخه وهويته – استطاع أن ينظم نفسه في اتجاهين مترابطين:

الأول: هو تكوين مجموعة من الأحزاب السياسية، والمنظمات النقابية والمهنية والاجتماعية والثقافية. حيث شكَّل تأسيس(حزب رابطة أبناء الجنوب) في عام 1950م الحدث الأهم، وذلك بسبب استناد وتمسّك هذا الحزب بتاريخ وهوية الجنوب. وعلى هذا الأساس، فقد كان هدفا الاستقلال الوطني للجنوب ووحدة أراضيه، في مقدمة أهداف وسياسات ونشاطات حزب رابطة أبناء الجنوب.

الثاني: هو توحيد الكيانات الجنوبية المكونة من الولايات وعدن في دولة اتحادية، الذي جرى الاحتفال بتأسيسها في الحادي عشر من فبراير 1959م، واستكملت في فبراير 1963م بانضمام عدن إلى هذا الكيان، الذي أخذ تسمية(اتحاد الجنوب العربي).

   وبغض النظر عمَّا قيل من تقييم بصدد هذه المسألة – وجميعها تقييمات سلبية- فإنَّ الواجب يفرض علينا طرح الحقائق الآتية:

1. إنَّ تأسيس دولة(اتحاد الجنوب العربي)، كان وثيق الصلة بتاريخ وهوية الجنوب. كما أنه من المؤكد بأنَّ الهدف الأساسي لتلك الدولة، كان العمل على تأكيد وترسيخ تاريخ وهوية الجنوب.

2. وبغض النظر عن كون دولة(اتحاد الجنوب العربي)، قد تأسستْ في ظلِّ خضوع الجنوب للإدارة البريطانية، فإنَّ ذلك لا ينفِ أنَّ فكرة توحيد الكيانات الجنوبية في دولة اتحادية، قد نشأتْ نتيجة رغبة حكَّام ومواطني الولايات الجنوبية صوب خلق روابط أوثق بين بعضهم البعض.

3. إنَّ تأسيس اتحاد الجنوب العربي مثَّل خطوة متقدمة، نحو بناء دولة عصرية وحديثة، وقابلة للبقاء في الجنوب. وذلك باعتبار أنَّ هذه الدولة قد أخذتْ شكل الدولة المركبة، وليس الدولة البسيطة القابلة للانهيار في أية لحظة. لقد كان تكوين(دولة اتحاد الجنوب العربي)، تجربة فريدة بكل المقاييس، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.

4. لقد قامت دولة(اتحاد الجنوب العربي)على أسس، وشروط صحيحة وثابتة. حيث كان لها دستورها الاتحادي، الذي اشتمل على أهم المبادئ الأساسية، التي تضمَّن حقوق جميع المكونات لهذه الدولة الاتحادية. كما كان لتلك الدولة الاتحادية مجلسها الاتحادي(البرلمان)، حيث حصلتْ(عدن)على مقاعد، أكثر مما حصلتْ عليها الولايات الجنوبية الأخرى. وهذا له علاقة بخصوصية(عدن)، التي أقرَّ بها الأعضاء الآخرون في تلك الدولة الاتحادية. كما كان لها مجلس أعلى(مجلس الوزراء)، وكان لكلِّ ولاية حكومتها الخاصة بها. كما نصَّ دستور الاتحاد على إنشاء(محكمة اتحادية عليا)، كما هو متعارف عليه في كلِّ نظام اتحادي.

5. لقد كان قيام(دولة اتحاد الجنوب العربي)، هي الفرصة الصحيحة والواقعية والممكنة، على طريق تحقيق الوحدة العربية، بأسس ثابتة ودائمة. وبإسقاط ودفن مشروع(دولة اتحاد الجنوب العربي)، صار حلم ُ القومية العربية في تحقيق وحدة الشعوب العربية بعيد المنال، إنْ لم يكنْ مستحيلاً.

   ومن ناحية ثانية، وفي مقابل تاريخ وهوية الجنوب، عاد ورثة القبائل السبائية والدولة القاسمية اليمنية، لكي يفرضوا تاريخهم وهويتهم اليمنية على الجنوب وشعبه. ولكن بدلاً من استخدامهم وسائل القتل والتدمير والإبادة، لجئوا إلى استخدام وسائل وطرق أخرى، ولكنها أكثر خبثاً وأشد تدميراً لتحقيق هدفهم. ومن الممكن تلخيص تلك الوسائل والطرق التي استخدمت على النحو الآتي:

1. منذ أربعينيات القرن الماضي، شهد الجنوب – انطلاقاً من بوابته عدن – تطوراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وتعليمياً وثقافياً. وبحيث تحوَّل الجنوب إلى منطقة جذب، للعديد من الجنسيات. وبحكم قرب المملكة المتوكلية اليمنية من الجنوب، فقد توافدتْ، وتكاثرتْ العناصر اليمنية إلى أرض الجنوب من خلال أربعة قنوات وهي:

الأولى: الذين وفدوا للبحث عن مصادر للعيش في مناطق الجنوب، وفي مقدمتها عدن. وذلك بسبب افتقار بلادهم لأدنى متطلبات المعيشه في تلك الفترة.

الثانية: الذين وصلوا إلى الجنوب، هروباً من ملاحقة أنظمة الحكم في بلادهم ـ في المرحلتين الملكية والجمهورية ـ وذلك للبحث عن مأمن من بطش حكَّامهم.

الثالثة: الذين حاولوا البحث عن مجالات استثمار مناسبة في الجنوب، وخاصة عدن. وهذه الحالة لها علاقة فقط، بأولئك العناصر اليمنية التي أتتْ من بعض مناطق شرق جنوب أسيا، وبعض مناطق إفريقيا على سبيل المثال.

الرابعة: المهمَّشون والمتسولون.

   وبعد استقرار هذه العناصر وتكاثرها في الجنوب، نجدها وقد تحوَّلتْ – بحق – إلى قنبلة موقوتة ومدمرة بالنسبة لتاريخ وهوية الجنوب. وبدلاً من أن يتحولوا إلى جنوبيين – كما هو حال الجاليات الصومالية والهندية مثلا – فقد طالبوا الجنوبيين أن يلبسوا الهوية اليمنية. وهذه مفارقة تاريخية عجيبة. حيث أنَّه لم يحدث في التاريخ الإنساني، أن أرغمتْ مجموعة من المهاجرين – في أي بلد في المعمورة – المواطنين الأصليين، على التخلي عن تاريخهم، وهويتهم لصالح تاريخ وهوية الوافدين الجدد. باستثناء ما حدث للهنود الحمر مع الغزاة الأوروبيين إلى العالم الجديد(أمريكا). وكذا شعب جنوب أفريقيا مع العنصريين الأوروبيين.

2. والمفارقة العجيبة الأخرى، هي استيلاء(العنصر اليمني) على مجمل الأحزاب القومية. حيث سيطر اليمنيون على التركيب القيادي والقاعدي لتلك الأحزاب. ولم يشكِّل الجنوبيون سوى نسبة متواضعة في تلك الأحزاب. بل وجرى تصفيتهم جسدياً ومعنوياً، في مراحل وأحداث سياسية متلاحقة.

3. لقد جرى استخدام النزعة القومية، واستغلال المد القومي من جانب العنصر اليمني, لتدمير كلَّ ما يمتُّ إلى تاريخ وهوية الجنوب بصلة. ولذلك كانت الهجمة الشرسة ضد(حزب رابطة أبناء الجنوب)أولاً، و(دولة اتحاد الجنوب العربي)ثانياً، هو أهم عمل مدمَّر جرى توجيهه إلى خاصرة تاريخ وهوية الجنوب. وذلك انطلاقاً من أنَّ كلاً مِنْ (حزب الرابطة) و(اتحاد الجنوب العربي)، كانا مؤسستين جنوبيتين مائة في المائة.

 4. وبالاستناد إلى ذلك المد القومي – الذي شهدنه العديد من البلدان العربية – وما تولَّد عن ذلك من مشاعر قومية وتحرريه، غلبتْ عليها الإيديولوجيا والشعارات العاطفية, فقد عملتْ الأحزاب والتنظيمات ذات الامتدادات القومية – الني تواجدتْ على أرض الجنوب – إلى استغلال واستخدام  الخطاب الوحدوي المسيِّطر على تلك الفترة، والمنفلت من عقاله، وهو فوق ذلك ” خطاب انتقائي وحتموي “ ، وذلك بسب اتكاءه على كمٍ هائلٍ من المفردات الإيديولوجية والتعبوية، التي أدمن عليها خطابنا القومي طويلاً, وذلك من قبيل(التاريخ المشترك, واللسان العربي الواحد, والأمة الواحدة .. الخ).

   كما أن مشكلة ذلك الخطاب القومي الوحدوي, أنَّه خلط بين الأمة بالمعنى الثقافي أو الديني، والأمة بالمعنى السياسي. وذلك لاعتقاد رَّواد الحركة القومية العربية, بأنَّ الأمة العربية معطى جاهز، بسبب وحدة اللغة والثقافة والدين. وأنَّ امتلاكنا ثقافة واحدة، يحَّتم تكوننا كأمة بالمفهوم السياسي.

   وعلى أساس ذلك، وجِد حضورٌ كثيف لفكرة ” الحتمية” في نصوص الفكر القومي, وذلك عند تناول قضية ” الوحدة العربية “، وبحيث تبدو ” الوحدة “ قدراً حتمياً، ومصيراً لا بد منه. وبحيث أسستْ نزعة الحتمية في الوعي القومي، نوعاً من الإيمانية المطلقة, بأنَّ الشعوب العربية تدرك مصلحتها الحيوية في وحدتها القومية, وأنَّها ذاهبةٌ حتماً إلى تحقيقها.

   والملفت للنظر أنَّ ذلك “الخطاب القومي الوحدوي” ، غالباً ما ذهب إلى ترديد مفاهيم مغلوطة, ليس لها أساس من الصحة أو الواقعية, مفادها أن الاستعمار هو المسئول عن تجزئة (الوطن العربي)، مع أنَّ الصحيح والمؤكد، هو أنَّ تجزئة الكيانات العربية، كانت موجودة وسابقة على وجود الاستعمار, بل وفي ظل الدولة العثمانية.

   وكانت الغايات الحقيقية التي رمى(العنصر اليمني) إلى تحقيقها من وراء استهدافه، تشويه ” دولة اتحاد الجنوب العربي “ والأحزاب الجنوبية ـ وفي المقدمة(حزب رابطة أبناء الجنوب) ـ قد  تمثلتْ بالآتي:

1. سحب زمام المبادرة من الجنوبيين لصالح العنصر اليمني.

2. تحقيق الغلبة للعنصر اليمني في الجنوب, وذلك على حساب شعب الجنوب.

3. الوصول إلى رسم الخطاب السياسي في الجنوب, بحسب ما يحقق الأهداف القريبة والبعيدة للعنصر اليمني.

4. إعادة إنتاج الهدف الرئيس للغزوات السبائية والقاسمية, المتمثل في مصادرة التاريخ وهوية الجنوب لصالح الهوية اليمنية.

   ومن المؤكد أنَّ هناك مجموعة من العوامل الهامة، قد ساعدتْ ودعمتْ تحقيق أهداف العنصر اليمني, يمكن حصرها في الآتي:

1. التأثير الكبير والملموس للمد القومي والفكر العروبي في الجنوب، أكان على مستوى النُّخب المثقفة والمتعلمة, أو حتى بالنسبة للناس العاديين.

2. كما ساهمت في تقوية تأثير العامل الأول, عددٌ من الأحداث العربية الهامة الأخرى, مثل نكبة فلسطين عام 1948م، وثورة يوليو في مصر عام 1952, والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956, وصعود الناصرية, وقيام الثورة الجزائرية, وموجة العداء للاستعمار… الخ.

3. استخدام واستغلال كل ما تضمنه الخطاب القومي من مفردات, لصالح مجمل الأهداف التي كان يتخفى العنصر اليمني وراءها، وفي مقدمة تلك الأهداف الانقضاض على تاريخ وهوية الجنوب, لصالح فرض الهوية اليمنية على شعب الجنوب.

4. تأسيس العديد من الأحزاب ذات الامتدادات القومية:( حركة القوميين العرب, حزب البعث العربي الاشتراكي, الحركة الناصرية), حيث استخدمتْ هذه الأحزاب كحامل سياسي وإيديولوجي للعنصر اليمني, ولتحقيق أهدافهم المشار إليها آنفا.

5. وهناك عوامل ذاتية لها علاقة بكلِّ ما هو جنوبي، ساعدت – بقصد أو بغير قصد, وبوعي أو بغير وعي – على غلبة العنصر اليمني في فرض هويتهم اليمنية على الجنوبيين, بدلاً عن الهوية الجنوبية. ومن هذه العوامل:

1. حداثة الدولة الوليدة – (دولة اتحاد الجنوب العربي) – بحيث لم يتح لها الوقت الكافي، لتتحول إلى نموذج راسخ، تتبلور فيها الهوية الجنوبية.

2. رخاوة القيادات السياسية الجنوبية, التي كانت تتولى قيادة وإدارة المؤسسات المركزية للدولة الاتحادية الجنوبية, أو تلك التي كانت تتولى إدارة وحكم الولايات الجنوبية. والدليل على ذلك تخلِّي العديد من أولئك عن(المشروع الجنوبي), والالتحاق( بالمشروع اليمني)عند أول منعطف, بغض النظر عن الذرائع التي أعلنوها وقتئذٍ.

3. انتهازية قيادات الأحزاب الجنوبية, وعلى وجه الخصوص (حزب رابطة أبناء الجنوب). حيث انهارت تلك الأحزاب عند أول معركة مع الأحزاب ذات الميول القومية. كما أنها لم تستطع أن تأسر عقول الجنوبيين, وتقنعهم بصحة رؤيتها.

4. عدم ثبات الرؤية السياسية لدى العديد من قيادات الحركة الوطنية الجنوبية, خاصة فيما يخص إيمانها بهويتها الجنوبية. والدليل على ذلك انسحاب تلك القيادات من الأحزاب الجنوبية, إما للالتحاق بأحزاب وحركات معادية للهوية الجنوبية, أو لتشكيل أحزاب أخرى، لا تؤمن بالهوية الجنوبية.

5. مع أهمية دعوة حكَّام الولايات الجنوبية باستقلال الجنوب من الإدارة البريطانية, إلاَّ أنهم لم يكونوا جادين في تمييز أنفسهم عن تلك الإدارة, باعتبارهم ممثلين لشعب الجنوب، مما سهَّل هجوم القوى المعادية للهوية الجنوبية على هؤلاء الحكام, ووصمهم بالعمالة للإدارة البريطانية وبغيرها من النعوت، التي صارت تقليعة من السهل إلصاقها بالخصوم السياسيين في تلك الفترة.

   وبشكل عام، يمكننا أن نؤكد أنَّ المنتمين إلى(العنصر اليمني)، قد استماتوا في قتالهم ضد الجنوبيين من أجل تحقيق هدفين أساسيين:

الأول:إسقاط أسلوب النضال السلمي، للوصول إلى تحقيق الاستقلال الوطني للجنوب من البريطانيين، وذلك لصالح استخدام الوسائل العسكرية للوصول إلى الهدف ذاته. وقد استفاد أصحاب الوسائل العسكرية(الكفاح المسلح) من كل مفردات الخطاب القومي – وخاصة الخطاب الناصري المستخدم والموجه إلى الاستعمار و”الرجعية ” في ذلك الوقت.

الثاني:إسقاط الهوية الجنوبية لصالح تثبيت الهوية اليمنية. وقد استفاد واستخدم أصحاب الهوية اليمنية من كلَّ مفردات الخطاب الناصري، المستخدم لصالح الوحدة العربية، والتضامن العربي من جهة، والموجة من جهة أخرى ضد نزعة الانفصال, حتى وإن كان ذلك الانفصال مشروعاً ومبرراً.

   وفي العام 1962م ظهر عامل خارجي هام، عمل على تقوية وترسيخ وتثبيت هذين الهدفين, بما يعني تحوُّلهما إلى نهج وواقع في الجنوب. وقد تمثَّل هذا العامل في الاهتمام الجدي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لتوجيه ضربات سياسية وعسكرية لكلٍّ من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل, وذلك كرد فعل على هجوم هذه الدول مجتمعة على مصر في(1956)، أو ما عُرفَ بـ (العدوان الثلاثي). ولذا فقد كانت معركة عبد الناصر مع فرنسا, قد تحددت على الأراضي الجزائرية, من خلال تقديم الدعم بمختلف أشكاله لجبهة التحرير الجزائرية، التي كانت تكافح من أجل استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي. وقد أفلح عبد الناصر في الانتقام من فرنسا.

   أما معركة عبد الناصر مع إسرائيل, فقد حدثت قي يونيو 1967م , ولكن بواسطة الضربات الاستباقية من جانب إسرائيل ضد مصر. والنتيجة معروفة، حيث لم يفلح عبد الناصر هنا.

   أما بالنسبة لمعركة عبد الناصر مع البريطانيين, فقد تحددت أن تكون على ارض الجنوب. إلاَّ أنَّ الوصول إلى هذه الأرض لم يكن ممهداً. خاصة إذا علمنا أنَّ الوصول إلى الجنوب, يتطلب المرور بأراضي المملكة المتوكلية اليمنية. ولذا فقد عمل عبد الناصر بطرق متعددة، للتواجد أولاً في الأراضي اليمنية المجاورة للجنوب من الناحية الشمالية.

   ولتذليل هذا العائق، فقد رسم الرئيس عبد الناصر هدفاً أولياً, هو التخلص من النظام السياسي لأسرة آل حميد الدين, وزرع نظام سياسي آخر يكون موالياً بالكامل له. ومن أجل ذلك مرتْ هذه العملية بمحاولات عدة؛ من بينها احتواء النظام في اليمن بواسطة ضم المملكة المتوكلية إلى الجمهورية العربية المتحدة، التي تكوَّنتْ من كلٍّ من مصر وسوريا في عام 1958م. إلاَّ أنَّ الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين – ملك المملكة المتوكلية اليمنية – انسحب من ذلك الاتحاد لأسباب كثيرة ومتعددة؛ من أهمها توجُّس وخشية الإمام أحمد، من الأهداف الخفيِّة لعبد الناصر من وراء ذلك الاتحاد.

   وعليه فلم يكن من عبد الناصر, الاَّ التفكير في طريقة أخرى أكثر نجاعة، تحقق له هدف تصفية سلطة الإمام أحمد من اليمن. ولذا فقد كان أسلوب الانقلاب العسكري، هو الطريقة المثلى لتحقيق ذلك الهدف. وقد توافرت مجموعة من العوامل لنجاح ذلك الانقلاب. منها:

1. وجود السفارة المصرية في صنعاء, التي مثَّلت رأس الحربة لدك سلطة الإمام محمد البدر بن احمد بن يحي حميد الدين, الذي خلف والده في الحكم.

2. وجود مجموعة من ضباط جيش المملكة المتوكلية المتأثرين بالفكر القومي – وخاصة شخصية عبد الناصر – الذي أخذ نجمه بالصعود في تلك الفترة.

3. نعومة شخصية الإمام(محمد البدر)، مقارنة مع أسلافه من حكَّام اليمن, وخاصة والده (الإمام احمد)، وجده(الإمام يحيى), اللذين اتسما بالصلابة والذكاء الحاد، والاستشعار السريع بأية أخطار تجاه حكمهما.

4. الاستفادة من حداثة العهد الجديد للإمام (محمد البدر)، الذي لم يمر على توليه زمام الحكم، سوى فترة لا تتجاوز الأسبوع من وفاة والده.

5. الاستفادة من العلاقة الطيبة التي كانت متوافرة بين الإمام محمد البدر من جانب, وعبد الناصر من جانب آخر.

   وبغض النظر عن التفاصيل، فإنَّ القول بأن السفارة المصرية هي التي خططتْ وساعدتْ، ودفعتْ لتنفيذ ذلك الانقلاب العسكري – الذي نفذُ بواسطة مجموعة من ضباط الجيش في صبيحة 26 سبتمبر 1962م – كلّ ذلك تأكدها الكثير من الحقائق التي كُشف عَنها تدريجياً: مثل علاقة بعض أولئك الضباط الذين قاموا بذلك الانقلاب بالنظام المصري، وترددهم المستمر على السفارة المصرية في صنعاء, وسرعة مباركة النظام المصري لقادة الانقلاب، وتحذير مصر من أي تدخل في شؤون اليمن الداخلية, بسبب الوضع الجديد. والمقصود بذلك الانقلاب العسكري في 26 سبتمبر 1962م. كما أنَّ أهم تلك الحقائق وأبرزها, هو وصول الدعم العسكري المصري إلى اليمن، بعد مرور أيام قليلة فقط من قيام ذلك الانقلاب، بما يؤكد أنَّ النظام المصري كان على دراية وعلم تاميّن، بكلِّ لحظات ذلك الانقلاب, انطلاقاً من وضع الفكرة، ومروراً بالخطة, وانتهاءً بالتنفيذ.

   ولأنَّ العامل الخارجي في ذلك التغيير( الانقلاب) – الذي حدث في (اليمن) – كان هو العامل المحدد والحاسم. بما يعني أنَّ العامل الذاتي الداخلي لم يكن ناضجاً، ولا حاضراً بما فيه الكفاية في ذلك المشهد. لذا فقد عانى النظام السياسي الجديد – الجمهورية العربية اليمنية – مقاومة عنيفة من قطاعات اجتماعية عديدة, منذ اللحظات الأولى لذلك الانقلاب. كما أنَّ هذه الحقيقة تبرهن بشكل قاطع، صحة ما ذهبنا إليه فيما يخص الهدف الحقيقي لنظام عبد الناصر، المتمثل في قلب نظام الحكم في اليمن, وتحويله إلى نظام موالٍٍ له. أي هدف الوصول إلى الجنوب, بهدف تصفية حساباته مع البريطانيين على أرض الجنوب.

   وبعد أن تأكد وترسَّخ الوجود المصري في اليمن – وخاصة على حدوده الجنوبية المتاخمة للجنوب (تعز وما جاورها) – بدأت الأجهزة المصرية بالشروع في تنفيذ مخططها المحدد، بضرب الوجود البريطاني في الجنوب. وكانت الخطوة الأساسية، هي الكيفية التي يمكن بواسطتها تحقيق ذلك الهدف!! .

   ومن المؤكد بأنَّ تلك الكيفية أو الوسيلة, لم تكن من الصعوبة بمكان على القيادة المصرية في اليمن, حيث تحددت بتكرار الوسيلة التي استخدمت مع الفرنسيين في الجزائر, مع فارق أنَّ الظروف فيما يخص الجنوب كانت مواتية أكثر، بسبب قرب المصريين من الأرض، التي يتواجد فيها البريطانيون. وقد تمثَّلتْ وسيلة المصريين في تحقيق هدفهم ذاك، بدفع الجنوبيين نحو الأخذ بخيار المقاومة المسلحة ضد البريطانيين، بهدف الحصول على الاستقلال الوطني.

   وبعيداً عن تفاصيل بدايات مرحلة ما أطلق عليها بـ ” الكفاح المسلح” في الجنوب ضد الإدارة البريطانية, بهدف الحصول على الاستقلال الوطني(1963ـ 1967م), فإنَّ هناك مسألتين قد جرى تأكيدهما المستمر في معظم الأدبيات السياسية, التي تناولت تلك الفترة من تاريخ كفاح شعب الجنوب. وهاتان المسألتان هما:

الأولى:إنَّ مرحلة الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني في الجنوب, قد بدأت في الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م.

الثانية:إنَّ بدايات مرحلة الكفاح المسلح, قد حدثت عندما اصطدمت مجموعة من الأشخاص العائدين من أراضي الجمهورية العربية اليمنية، إلى منطقة ردفان بدورية عسكرية بريطانية. وإثر ذلك جرى تبادل إطلاق النار بين أفراد المجموعة والدورية البريطانية، فسقط أحد أفراد المجموعة شهيداً, وهو غالب بن راجح لبوزه. وبذلك سُجَّل باعتباره أول شهيد، سقط من أجل الاستقلال الوطني للجنوب.

   ومع تثميننا لكل التضحيات التي قدمها شعب الجنوب، على امتداد تلك الفترة التاريخية من حياته (1963 -1967 ), إلاَّ أنَّ هناك الكثير من الحقائق جرى عرضها وتدوينها بشكل مشوه ومضلَّل حيناً, أو أنَّه تم إخفاءها بتعمد حيناً آخر، أو أن العاطفة كانت هي الحاضرة حينئذٍ، أو أن الحالات الثلاث كانت متوافرة. وهذا هو الأسوأ.

   وعليه يمكننا ذكر أهم تلك الحقائق:

1. إنَّ ذهاب الكثيرين من الجنوبيين إلى الجمهورية العربية اليمنية, وبصفة الدفاع عن النظام الجديد هناك, يمكن تفسيره في إطار الدوافع الوطنية والثورية والإنسانية, التي كانت تتسم بها العديد من الشعوب، تجاه غيرها من الشعوب والبلدان الأخرى, التي قد تتعرض سيادتها للخطر. والتجربة العالمية مليئة بمثل تلك الأحداث. وأنصع مثال على ذلك، تدافع الآلاف من مختلف البلدان الأوربية للدفاع عن الجمهورية الإسبانية في عام 1936م ضد نظام فرانكو. وكذلك تدافع الآلاف للمشاركة في ثورات بعض بلدان أمريكا اللاتينية، في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، وأنصع مثال على ذلك، المشاركة في الثورة الكوبية، أو غيرها من الثورات. ومن المؤكد بأنَّ مشاركة وتداعي الجنوبيين، للدفاع عن نظام الجمهورية العربية اليمنية ليس استثنائياً, ويأتي في هذا السياق الذي ذكرناه. كما أنَّ ذلك الفعل الحماسي من جانب الجنوبيين، المتمثِّل في مشاركتهم في الدفاع عن النظام السياسي الجديد في(ج.ع.ي)، يعتبر مظهراً واضحاً لمدى تأثير وتنامي المد القومي العربي في تلك الفترة.

2. لقد وجدت القيادة المصرية ضآلتها في تلك المجموعات الجنوبية, التي وصلت إلى الجمهورية العربية اليمنية، للشروع في تنفيذ مخططها ضد البريطانيين في الجنوب, فعملتْ على تدريبهم وتأهيلهم من أجل ذلك الهدف.

3. لقد تلاقى مخطط المصريين مع هدف العنصر اليمني، فيما يخص الانقضاض على تاريخ وهوية الجنوب.

4. لقد استكمل العنصر اليمني مصادرة الهوية اليمنية من خلال الوقائع الاتيه:

أولا: تسمية الحامل السياسي والعسكري، الذي تبنَّى العمل المسلح في الجنوب بـ “الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمن المحتل ” ، وذلك عوضاً عن تسميته بـ ” الجبهة القومية لتحرير الجنوب العربي “. وهو ما يعني سلب هوية شعب الجنوب، لصالح هوية أخرى هي الهوية اليمنية.

ثانيا: تكفُّل العنصر اليمني بتدوين تاريخ الجنوب, بما ينسجم مع نزعتهم المتجسدة في إنكار وإلغاء تاريخ الجنوب لصالح تاريخ اليمن. وقد جرى تنفيذ هذه العملية من خلال صياغة برنامج تنظيم الجبهة القومية الموسوم بـ “الميثاق الوطني للجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل”، الذي تمَّ إقراره في المؤتمر الأول للجبهة القومية في 22 يونيه 1963 م، والذي حدد تاريخ الجنوب، باعتباره جزءاً من تاريخ اليمن.

ثالثا: سيطرة(العنصر اليمني)على المفاصل الأساسية في قيادة التنظيمات، التي شاركت في العمل الفدائي ـ وخاصة تنظيم الجبهة القومية ـ وعلى وجه الخصوص سيطرتهم على قيادة العمل الفدائي في عدن. مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ قاعدة تلك التنظيمات الفدائية، كانت مكونة في الغالب من الجنوبيين. وهذه الحقيقة تأكدها أنَّ الغالبية العظمى من شهداء(ثورة أكتوبر)هم جنوبيون.

   ومع أخذنا بعين الاعتبار، لمجمل الحقائق والنتائج والاستخلاصات التي ذكرناها سابقاً, ومع تقديرنا لكلِّ التضحيات التي قدمها شعب الجنوب، من أجل الحصول على حريته واستقلاله من البريطانيين. إلاَّ أنَّ أهمَّ ما ترتَّب على اللجؤ لأسلوب العمل المسلح ـ كوسيلة للحصول على الاستقلال الوطني ـ مسألتان أساسيتان:

الأولى: إعلان الطلاق الكامل مع جميع إشكال وأساليب العمل السياسي المدني السلمي, التي كانت سائدة وممارسة في الجنوب منذ خمسينيات القرن الماضي، حتى مستهل الستينيات من القرن نفسه, من خلال نشاط الأحزاب السياسية، والانتخابات التشريعية، وممارسة العمل النقابي، ووجود الصحافة الحرة بمختلف توجهاتها. وقد صاحب ذلك عملية هجوم محموم وتشويه متعسف، لكلِّ ما يمتُّ بصلة إلى أي عمل سياسي سلمي, بغض النظر عن الظروف التاريخية والسياسية.

الثانية: التأسيس النظري والسياسي والإيديولوجي للعمل المسلح، وأساليب العنف كوسيلة أساسية، و وحيدة، لتحقيق الأهداف السياسية, أكانت مع الخارج أو في الداخل.

   ودون الخوض في تفاصيل مرحلة “الكفاح المسلح ” ضد البريطانيين (1963 – 1967 ), فإنَّ ما يعنينا هنا هي أهم الخطوات أو اللحظات، التي مرتْ بها هذه المرحلة:

1. اتسمت الفترة(1963 – 1965م) من المرحلة المذكورة، بإنفراد الجبهة القومية بقيادة العمل المسلح ضد البريطانيين, مع تركُّز العمل المسلح في المناطق الريفية، وخاصة في منطقتي ردفان والضالع. ومن حيث الخلفية الإيديولوجية والتنظيمية لـ “الجبهة القومية”، فهي منتمية لحركة القوميين العرب. وبحكم سطوة وسيطرة العنصر اليمني على فرع الحركة في الجمهورية العربية اليمنية، فقد كانت الظروف مواتية لهم تماماً، للإحكام والإطباق على قيادة ” الجبهة القومية ” ،والسيطرة على(جبهة عدن)، والإنفراد بصياغة ميثاق الجبهة القومية، بما يكرِّس الهوية اليمنية على الجنوب.

   وقد اتسمتْ هذه الفترة بحالة انسجام وتوافق، بين كلٍّ من مركز “حركة القوميين العرب” في بيروت من جهة، والحركة الناصرية بزعامة الرئيس جمال عبد لناصر من جهة أخرى. ولذا فقد كان التعاون قائماً بينهما، في المجالات السياسية والعسكرية على ساحة الجنوب. كما اتسمتْ هذه الفترة بظهور فصيل مسلح آخر في عام 1965، هو ” منظمة التحرير الشعبي للقوى الثورية”، التي تحولت لاحقاً إلى(جبهة التحرير).

2. اتسمت الفترة الثانية(1966) بعملية توحيد “منظمة التحرير مع(تنظيم الجبهة القومية)في 13 يناير عام 1966، في إطار تنظيم أطلق عليه(جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل)، وهي العملية التي اشتهرتْ باسم( الدمج القسري). ومع أهمية وضرورة ما تضمنته عملية الدمج تلك، إلاَّ أنَّ  حالة الرفض من جانب غالبية قيادات وقواعد الجبهة القومية لعملية الدمج، قد أكدتْ أنَّ تلك العملية كانت تعبيراً عن حاجة ومطلب خارجيين. أي بمعنى أنَّ الشروط الذاتية لعملية الدمج لم تكتمل، أو لم يتم تهيئتها جيداً، حتى يُكتب النجاح لعملية الدمج تلك.

   وبدون الخوض في تفاصيل ما حدث، فإنَّ التأثير الخارجي لانجاز عملية الدمج، قد تمثَّل مرة أخرى في تلاقي هدفي القيادة العربية المصرية، الموجودة في الجمهورية العربية اليمنية من جهة، والعنصر اليمني المتواجد داخل وخارج الجنوب، وأولئك المتواجدين في التنظيمات المسلحة، وفي حركة القوميين العرب(فرع الجمهورية  العربية اليمنية) من جهة أخرى.

   أما اهتمام (القيادة المصرية) بعملية الدمج، فقد انطلقت من اعتبارين أو عاملين اثنين: الأول، هو بروز النزعة الاستقلالية عند(الجبهة القومية) عن كلٍّ من حركة القوميين العرب في مركزها ببيروت، وفرعها في (اليمن)، وبما يقَّوي العنصر الجنوبي في قيادة (الجبهة القومية)، مما يعني العمل على تقوية الهوية الجنوبية ولو ضمنياً، وبدون الإعلان عن ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار متانة العلاقة بين كلٍّ من حركة القوميين العرب(القيادة المركزية) من جهة، والحركة الناصرية بزعامة الرئيس عبد الناصر في تلك الفترة من جهة أخرى. أما العامل الثاني، فقد تمثَّل في وجود علاقة جيدة بين كلٍّ من(القيادة المصرية) و(منظمة التحرير). لذلك جاء حماس(القيادة المصرية) لعملية دمج الفصيلين المسلحين المذكورين، بهدف استمرار السيطرة السياسية والعسكرية والاستخباراتية على ساحة العمليات في الجنوب.

   أما اهتمام(العنصر اليمني) ـ بكل فئاته المذكورة آنفاً ـ بعملية دمج الفصليين المسلحين في الجنوب، فقد انطلقتْ أيضا من اعتبارين أو عاملين اثنين: الأول هو العامل الأول ذاته، فيما يخص اهتمام(القيادة المصرية) بعملية الدمج. بل أنه قد أحتل المرتبة الأولى من الأهمية بالنسبة للعنصر اليمني، لأنَّ ذلك يقَّوي الهوية الجنوبية. وبما يعني ذلك تهديد لمشروع “الهوية اليمنية”. أما العامل الثاني، فيتمثل في الاهتمام بالسيطرة الكاملة على الفصائل المسلحة في الجنوب، خاصة إذا عرفنا أن المسئول الأول للتنظيم الموحَّد(جبهة التحرير) لم يكن جنوبياً، بل كان يمنياً، وهو عبد الفتاح إسماعيل. وكانت لعملية الدمج تأثير سلبي على “تنظيم الجبهة القومية”، على المستويين القيادي والقاعدي. حيث تمثلَّ ذلك التأثير السلبي، من خلال جمود العمليات الميدانية المسلحة في مختلف جبهات القتال، وخاصة (عدن). وكان ذلك بسبب وقف الدعم المادي والمالي والدعم بالسلاح، الذي كانت (الجبهة القومية) تحصل عليه من القيادة المصرية المتواجدة في الجمهورية العربية اليمنية.

3.اتسمت الفترة الثالثة(1967م) بمجموعة من الأحداث الهامة؛ تأتي في مقدمتها عودة “الجبهة القومية” إلى العمل المسلح بشكل مستقل، بعد أن رتبت أوضاعها من خلال خلق علاقة جيدة مع  المؤسسات العسكرية، التابعة لدولة اتحاد الجنوب العربي. كما اتسمت هذه الفترة بتعدد الفصائل المسلحة المشاركة في حرب التحرير، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:(الجبهة القومية)، جبهة التحرير ،التنظيم الشعبي، وغيرها من الفصائل الأخرى الصغيرة)، كما هي الحال منظمة طلائع حرب التحرير، التابعة للبعثيين.

   ومن المعروف بأن عملية الدمج بين كلٍّ من (الجبهة القومية) و(منظمة التحرير)، لم تؤدي ـ لأسبابٍ كثيرة ـ إلى خلق أداة موحدة، لإدارة وقيادة العمل المسلح لتحقيق الاستقلال الوطني، بل أدَّتْ إلى التنافر والصدام بين الفصيلين المسلحين الرئيسيين(الجبهة القومية)،و(جبهة التحرير)، وهي الصدامات التي اشتهرتْ باسم (الحرب الأهلية)، التي نشبت في نوفمبر 1967 م. أي في اللحظات الأخيرة التي سبقتْ الاستقلال الوطني للجنوب في 30 نوفمبر 1967 م. وهو التاريخ الذي استلمتْ فيه الجبهة القومية وثيقة الاستقلال من بريطانيا، باعتبارها الدولة الذي كان الجنوب العربي يقع تحت إدارتها.

   وفيما يخص وصول شعب الجنوب إلى محطة الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر، يمكننا تسجيل الآتي:

أولاً: بغض النظر عن كل ما قيل، فيما يخص الأسباب والعوامل التي مَّكنت (تنظيم الجبهة القومية)من استلام الاستقلال الوطني من بريطانيا دون سواها من الفصائل المسلحة الأخرى، وخاصة(جبهة التحرير)، فإنَّ الأمر يكمن في الأسباب الآتية:

1. إذا تذكَّرنا بأنَّ الجبهة القومية، قد خرجت أساسا من عباءة حركة القوميين العرب ـ وذلك كما هو معروف عنها باعتبارها حركه قوميه انقلابية ـ فيعني ذلك بالضرورة أنَّ الجبهة القومية، كانت هي الأخرى مدموغة بتلك الصفة, أي الصفة الانقلابية. ولذلك ليس مستغرباً أن تعمل الجبهة القومية، على وقف حواراتها في القاهرة مع ممثلي جبهة التحرير، بصدد تشكيل الجبهة الوطنية وحكومة الاستقلال، وذلك بعد أن وصلتها أنباء سيطرتها ـ أي الجبهة القومية ـ على المناطق الريفية في الجنوب، وبحيث وجدتْ نفسها غير معنية بمواصلة تلك الحوارات، لأنها بكل بساطة قد صارتْ على مرمى حجر من استلام استقلال الجنوب.

2. كانت الجبهة القومية تتمتع بحضور أكثر، مما تتمتع به جبهة التحرير، وذلك بفضل تمددها التنظيمي والجماهيري الواسع في مختلف مناطق الجنوب.

3. المبادرة بإسقاط المناطق الريفية والبدء بإدارتها، وذلك ابتداءً من منتصف عام 1967 م، وبحيث سهَّل لها ذلك الزحف على العاصمة عدن، وذلك عندما قررتْ القيام بتلك الخطوة.

ثانيا: منذ اللحظات الأولى للاستقلال الوطني للجنوب، قررت السلطة الجديدة لدولة الاستقلال، بأن تكون الجبهة القومية ـ التي صارتْ بمثابة الحزب الحاكم في (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية)منذ 30 نوفمبر1967 ـ هي الممثلة الوحيدة للشعب. وقد ترتَّب على هذا القرار والفعل، الكثير من الأخطاء الفادحة، وفي مقدمتها ” التأسيس لمبدأ الشمولية في الحكم ” .

ثالثاً: أما الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الجنوب وشعبه، فتتمثل في فعلين رئيسيين. كلُّ واحدٍ منهما أقبحُ من الآخر. أما الأول، فهو تسمية دولة الجنوب المستقلة بـ “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية”. وأما الفعل الثاني، فهو توقيع عبد الفتاح إسماعيل لقرار القيادة العامة للجبهة القومية، القاضي بتعيين قحطان الشعبي رئيساً لدولة الجنوب المستقلة، وكذلك التوقيع على تشكيل أول حكومة لدولة الجنوب المستقلة.

   وفي هذين الفعلين يكون العنصر اليمني، قد استكمل مؤامرته في الإطباق على تاريخ(الجنوب)، ومصادرة هويته لصالح تاريخ وهوية العنصر اليمني. وبدلاً من أن يكون يوم استقلال الجنوب، يوماً تاريخياً خاصاً لشعب الجنوب، فقد جرى تحويله إلى يوم تاريخي لصالح العنصر اليمني. وبدلاً من أن يكون يوم الاستقلال الوطني، بمثابة فجر يومٍ جديد للجنوب، فقد جرى تحويله إلى مرحلة جديدة لنضال أصعب من نضال شعب الجنوب ضد الاستعمار البريطاني. وهو ما أكدته التجربة التي تلت يوم الثلاثين من نوفمبر 1967 والممتدة حتى يومنا هذا.

وعليه نستخلص:

1. بأننا قد أضعنا تاريخنا وهويتنا، عندما كانت في متناول أيدينا. وقد تمثل ذلك في (دولة اتحاد الجنوب العربي).

2. وعندما ناضلنا ضد البريطانيين من أجل استقلالنا الوطني، كانت دماؤنا هي المسفوكة، وكان شهداؤنا هم قرابين حريتنا.

3. وعندما حصلنا على استقلالنا، فقد أهديناه لغيرنا، وذلك عندما لجأنا إلى تاريخ غير تاريخنا، ولبسنا هوية لا تمتّ ألينا بصلة.

4. وإذا كان من الصحيح القول، بأنَّ (العنصر اليمني) قد استخدم مختلف الوسائل والطرق الخادعة والماكرة للوصول إلى هدفه، فإنَّه من الصحيح القول أيضا، بأنَّ النُّخب الجنوبية على امتداد الفترة من خمسينيات القرن الماضي حتى يوم الاستقلال، قد ساهموا ـ  بوعي أو بغير وعي أو حتى بغباء أو بطيبة ـ في الوصول إلى ما نحن فيه اليوم.

 

 

ـ2ـ

دولة الجنوب.. منذ الاستقلال حتى مايو 1990م

   يمكن القول بأن النظام السياسي الذي أقيم على ارض الجنوب، منذ الثلاثين من نوفمبر 1967 حتى 22مايو1990م، قد اتسم بالخصائص العامة الآتية:

أولاً: إنَّ رفع شعار “كل الشعب جبهة قوميه” ، وتأكيد أنَّ “الجبهة القومية” هي فقط الممثل الشرعي والوحيد للشعب في الجنوب، وأنَّ “القيادة العامة للجبهة القومية”، هي السلطة التشريعية في البلاد، كلُّ ذلك قد أدى إلى جملة من النتائج، منها عدم الاعتراف بوجود قوى سياسية أخرى، ناهيك عن إلغاء الأحزاب والتنظيمات السياسية والمسلحة، التي ساهمتْ في معركة الاستقلال. كما أدَّتْ كذلك إلى عدم السماح بتأسيس أحزاب سياسية جديدة. وظلتْ “الجبهة القومية” هي السلطة الحاكمة الوحيدة في الجنوب منذ الاستقلال، حتى مايو 1990م، وإنْ تغيَّر اسمها من جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وبالمقابل فقد أخذت الجبهة القومية تسميات متعددة. ومن المؤكد بأن هذه النتائج، قد وسمتْ ذلك النظام السياسي بالشمولية سياسياً وإيديولوجياً، وبما يعني حكم سلطة الحزب الواحد.

ثانياً: كان أولُ ما اتخذ في الثلاثين من نوفمبر 1967 م، هو القرار الخاص بتسمية دولة الجنوب المستقلة، حيث أخذت اسم “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية”. وقد ترتَّبْ على هذه التسمية مجموعة من النتائج الخطيرة، فيما يخص تاريخ وهوية الجنوب:

1. إنَّ اختيار هذه التسمية ـ أكان بصيغتها الأولى أو بالصيغة الأخرى ـ لا يعني سوى الإصرار على السير في الطريق الخطأ والوعر، الذي سلكته بعض النُّخب الجنوبية، والذي بدأ برفض كيان “دولة اتحاد الجنوب العربي”، وتبع ذلك اختيار تسمية “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل”. وقد تماهتْ بقية التنظيمات المسلحة في فترة ما قبل الاستقلال، ورفعتْ اليافطة نفسها.

2. إنَّ تضمين تسمية دولة الاستقلال بكلمة(اليمن)، يعني بالضرورة الإقرار بأنَّ(الجنوب) كان جزءاً من كيان اسمه (اليمن)، برغم انه لا يوجد مطلقاً ما يثبت وجود كيان سياسي موحد يطلق عليه (اليمن)، على مدى المراحل التاريخية المتعاقبة. والصحيح أنَّ اليمن ليس سوى مفهوم جهوي، كما هي الحال في مفاهيم جهوية أخرى كثيرة، مثل الشام والمغرب العربي على سبيل المثال.

3. لقد أاستخدمت هذه التسمية من حين الأخذ بها، كمرجعية لتوحيد(الجنوب) مع الجمهورية العربية اليمنية) في دولة واحدة، بغض النظر عن أية اعتبارات مهما كان نوعها أو مستواها. وتبقى العبرة فقط في التوقيت والكيفية والطريقة، التي ستتم بها عملية (الوحدة). وكان شعار “النضال من اجل تحقيق الوحدة اليمنية” بمثابة المسمار الأخير، الذي دُقَ في نعش (الجنوب) كتاريخ وهوية.

ثالثاً: برغم حداثة(دولة الجنوب المستقلة)، إلاَّ أنها صبغتْ نفسها بطابع التطرف في الفكر والممارسة. وكان ذلك مقروناً بالأسباب الآتية:

1. عوضاً عن الالتفات إلى حلَّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية والملِّحة لدولة الاستقلال، فقد جرى الهروب إلى الايدولوجيا، وبكل ما يختفي وراءها من نظريات وشعارات، وبما ينتج عن ذلك من إهدار لكل الإمكانيات والجهد والوقت.

2. إن انسياب الإيديولوجيا داخل النظام السياسي لدولة الجنوب المستقلة ـ وبتلك القوة ـ قد حدث أساسا بفعل قوى خارجية، تمثلتْ أساساً في(العنصر اليمني)، والعنصر الفلسطيني في قيادة حركة القوميين العرب، وأخيرا بفعل احتدام الصراع السياسي والإيديولوجي بين المعسكرين الغربي والشرقي، خلال الحرب الباردة. وكان لكلِّ طرفٍ من الأطراف المذكورة هدفه الخاص به.

3. وإذا قلنا انَّ هدف حركة القوميين العرب، كان يتمثل في إلحاق النظام السياسي الجديد في الجنوب إلى الجناح اليساري الماركسي في الحركة، وخاصة بعد أن ساءت علاقتها بالحركة الناصرية، والرئيس عبد الناصر، فإنَّ هدف المعسكر الشرقي ـ وفي المقدمة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) ـ كان يتمثل في توسيع رقعة هذا المعسكر، والوصول إلى هذه المنطقة الإستراتيجية الهامة.

   أما فيما يخص هدف(العنصر اليمني)، فقد كان وثيق الصلة بهدفهم الأساسي، المتمثل بتصفية كل ما يمتُّ بصلة إلى تاريخ وهوية الجنوب. أما الوسائل التي اعتمدوا عليها، للوصول إلى تحقيق أهدافهم وغاياتهم ذات العلاقة بالهدف الأساسي، فكانت على النحو الآتي:

1. حرص(العنصر اليمني)على التواجد في المؤسسة الحزبية، بدءً من (الجبهة القومية) في مرحلة التحرير، وانتهاءً بـ (الحزب الاشتراكي اليمني). بل وعملتْ على السيطرة على مراكز اتخاذ القرار في المؤسسة الحزبية والمنظمات الجماهيرية التابعة لها. كما عملت على السيطرة على تركيب مختلف حكومات الجنوب، منذ الاستقلال وحتى مايو 1990 م. حيت تمكَّن(العنصر اليمني) من خلال هذا التواجد وهذه السيطرة، من تنفيذ مخططاتهم كافة ضد تاريخ وهوية الجنوب.

2. عمل(العنصر اليمني)باستمرار على التظاهر بالحرص على القيم الثورية والتقدمية، وذلك بهدف دفع الجنوبيين ـ وخاصة النُّخب السياسية ـ إلى التطرف في المواقف السياسية والإيديولوجية، وفي ممارستهم تجاه مختلف المشاكل التي تواجه الجنوب.

3. استخدم(العنصر اليمني) أسلوب زرع التفرقة والشكوك بين الجنوبيين، وتقسيمهم على أسس إيديولوجيه أحيانا، ومناطقية في مرات أخرى. وذلك على أساس القاعدة المعروفة والكريهة “فرِّقْ تسُّد”، وذلك لكي يتسنَّى لهم الاستمرارية والسيطرة على مفاصل السلطة كافة في الجنوب.

4. إنَّ دهاء ومكر وخبث(العنصر اليمني)، قد قابله في الجانب الآخر طيبة لدى الجنوبيين أحيانا، وسذاجة وانخداع في أحيانا كثيرة.

   ولتحقيق هدفهم الأساسي في تصفية تاريخ وهوية شعب الجنوب، فقد اعتمد(العنصر اليمني) على افتعال الأحداث والصراعات السياسية بين الجنوبيين، وذلك على امتداد كامل الفترة الزمنية الممتدة من يوم حصول الجنوب على استقلاله الوطني في 30 نوفمبر 1967، حتى مايو 1990. وأهم تلك الأحداث:

أولا: تصفية المؤسسات العسكرية والأمنية الجنوبية:

   بعد أنَّ جرى الاعتداء على “دولة اتحاد الجنوب العربي” ، باعتبارها واحدة من مكونات الهوية الجنوبية، واستبدالها أولاً بتسمية(جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية)، ثم(جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، شرع(العنصر اليمني) للالتفات إلى أهم وأخر مكون في مكونات الهوية الجنوبية، وهما مؤسستا الجيش والأمن العام، باعتبارهما مؤسستان جنوبيتان خالصتان مائة بالمائة. ويرجع ذلك إلى الطريقة التي اتبعت في تكوينهما، حيث إن عناصرهما ينتمون إلى أبناء الجنوب فقط.

   وعليه فقد جرى طرح مسألة تصفية هاتين المؤسستين، بذرائع تصفية مراكزها القيادية من العناصر المرتبطة بالإدارة الاستعمارية البريطانية، وحكومة اتحاد الجنوب العربي، والحكومات المحلية في الولايات الجنوبية. وقد استخدمت(العنصر اليمني) العديد من الوسائل والأساليب التي ذكرناها سابقاً، مثل: الإيديولوجيا، والتطرف، وزرع الفرقة، ورفع الشعارات الثورية والتقدمية الحادة..الخ، وذلك لتحقيق هدفهم.

   وبرغم أنَّ ذلك الهدف لم يتحقق لحظتئذٍ، وذلك يعود إلى رفض جزء هام من القيادات الجنوبية في (تنظيم الجبهة القومية)والدولة لذلك المطلب. ومع ذلك فإنّ هدفهم لم يُسقط من حساباتهم، برغم هزيمة هذا التيار الذي تمرَّد على الدولة والسلطة عقب أحداث 14مايو 1968م، وانسحابهم إلى مناطق يافع الجبل، والنزوح إلى قعطبة.

   وتسجِّل تلك الأحداث، أنَّ السلطة لم تعمل على تصفية مناوئيها ومعارضيها، برغم هزيمتهم وفرارهم إلى خارج الجنوب، بل عملتْ على مدِّ يدها لأولئك، ودعتهم للعودة، وذلك في إطار مصالحة وطنية داخل النظام السياسي نفسه.

   ولم يكن(العنصر اليمني)غائباً أو مغيَّباً عن تلك المصالحة، بل كان حاضراً وبقوة. ويعود الفضل في ذلك إلى الجنوبيين أنفسهم، وخاصة النُّخبة التي كانت ممسكة بالمراكز القيادية في التنظيم والدولة.

ثانياً: الشروع بتنفيذ خطة تصفية القيادات السياسية الجنوبية:

   بعد عملية المصالحة الوطنية المذكورة آنفاً، أدرك(العنصر اليمني)بأنَّ الوصول إلى تحقيق هدفهم في تصفية المؤسستين العسكريتين(الجيش والأمن العام)، تتطلب إزاحة تلك العوامل الداعمة والمقاومة لتصفية المؤسستين. وأهم تلك العوامل على الإطلاق، هي القيادات الجنوبية التي رفضتْ وقاومتْ مطلب المساس بالمؤسستين.

وعليه فقد عمل(العنصر اليمني) على إعادة ترتيب أولويات أهدافهم لتصفية الهوية الجنوبية. وبذلك فقد كانت عملية تصفية القيادات الجنوبية على رأس أجندتهم. كما كانت الخطوة الأولى في هذه العملية، هو القيام بانقلاب الثاني والعشرين من يونيو 1969 م، الذي اتسمَّ بالخصائص الآتية:

1. إنَّ الذي تزَّعم ونفد عملية الانقلاب ذاك، هي تلك المجموعة القيادية التي نزحت إلى خارج الجنوب عقب إحداث مايو 1968م، ثم عادوا إلى الجنوب في عملية مصالحة سياسية في إطار النظام السياسي الحاكم. وعلى أساس ذلك، جرى ترتيب أوضاعهم القيادية التنظيمية(الحزبية) والوظيفية في أجهزة الدولة.

2. كان(العنصر اليمني) حاضراً وبقوة في قيادة وتنفيذ ذلك الانقلاب، وكذا حصولهم على العديد من المراكز القيادية في التنظيم والدولة، بما يعني مواصلة التواجد والسيطرة على مراكز اتخاذ القرار في دولة الجنوب.

3. استخدم( العنصر اليمني) أسلوب زرع عدم الثقة والشك بين القيادات الجنوبية، بهدف ضرب مجموعة بأخرى.

4. جرى توصيف أسباب الخلاف المؤدي إلى ذلك الانقلاب، باعتباره صراعاً على السلطة بين اليسار ـ بما يعني (التقدم) ـ واليمين ـ بما يعني(التخلف). أي أنَّ الايدولوجيا هنا، كانت هي الحاضرة والمحددة لذلك الانقلاب.

5. أما أهم خاصية لانقلاب 22 يونيو 1969 م، فتتمثل في أنه ابتداءً من تلك اللحظة، جرى التشريع لاستخدام العنف المصحوب بسفك الدماء، باعتباره أسلوباً لحل الخلافات السياسية. حيث تمتْ التصفية الجسدية للعديد من القيادات الجنوبية الأساسية، من خلال الإعدام، إما خارج القانون، أو بواسطة المحاكمات الصورية.

   وفي كلِّ الأحوال كان لجهاز الاستخبارات الجديد ـ الذي أطلق عليه “جهاز أمن الثورة”، ثمَّ تحوَّل لاحقاً إلى(وزارة امن الدولة) ـ الدور الفاعل والكبير في تلك الأعمال الدموية. وقد حرص(العنصر اليمني)، أن يكون هو الممسك الوحيد بمفاصل هذه المؤسسة الاستخبارية في الجنوب.

ثالثا: السياسات والإجراءات الاقتصادية:

   كانت السياسات والإجراءات الاقتصادية واحدة من أهم المسائل، التي حدث حولها خلافات حادة بين أجنحة النخبة السياسية، داخل النظام السياسي في الجنوب.

   وأهم تلك السياسات والإجراءات الاقتصادية، التي جرى تطبيقها في الجنوب منذ تسيُّد وسيطرة الجناح المتطرف على السلطة في يونيو1969 م، قد تمثلت في الآتي:

1. قانون التأميم رقم(37) لعام (1969م): الذي بموجبه جرى تأميم الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية والخدمية الخاصة ـ أكانت محلية أو أجنبية ـ وتحويلها إلى مؤسسات تملكها الدولة، بل وتقوم بإدارتها أيضا. كما قامتْ الدولة بتأسيس العديد من المؤسسات الحكومية الأخرى.

   وبعيداً عن تفاصيل ما حدث فيما يخص هذه التجربة، فإنَّ أهم ما يميزها هو الآتي:

1. اتسمتْ كلُّ من تجربتي التأميم وقيام القطاع العام، بالنقل الحرفي لتجارب الآخرين. بما يعني إهمال خصوصية الواقع المستقبِّل لهذه التجارب.

2. جرى تطبيق كل ما نُقل على كل الأنشطة الاقتصادية، التي كانت موجودة في مرحلة ما قيل الاستقلال. بمعنى أنه لم يُستفد من المؤسسات الناجحة السابقة، ولم يُحافظ عليها.

3. استندتْ تلك التجربة الاقتصادية على النظرة الإيديولوجية فقط، وابتعدتْ كثيراً عن النظرة الاقتصادية.

4. لم يتم الفصل بين جانبي الملكية والإدارة للمؤسسات الاقتصادية، بل كانت الدولة هي التي تملك وتدير تلك المؤسسات. وقد نتج عن ذلك: انتشار الفساد، وسوء الإدارة، والمحسوبية، وغيرها من الأمراض الإدارية الأخرى.

5. كان اهتمام الدولة منحازاً بشكل أكثر إلى الجانب الاجتماعي، وجرى بالمقابل إهمال الجانب الاقتصادي، مما أدى إلى تعرُّض معظم تلك المؤسسات للخسارة الاقتصادية الفادحة، وذلك بسبب انعدام الحوافز الاقتصادية في نشاط تلك المؤسسات، مما أدَّى في المحصلة الأخيرة إلى تعاظم الأعباء المالية على الميزانية العامة للدولة، وكان ذلك بسبب الدعم المالي الذي تقدمه الدولة لتلك المؤسسات.

2. قانون تأميم المساكن:

   كانت تجربة تأميم المساكن التي أقدمتْ عليها الدولة، أكثر سوءاً من تجربة تأميم المؤسسات الاقتصادية. ويرجع ذلك إلى الأسباب الآتية:

1. إنَّ البنية السكنية التي خُضعتْ لقانون تأميم المساكن ـ التي جرى توزيعها بموجب هذا القانون ـ كانت متواضعة جداً، أكان من حيث الكم أو الكيف.

2. في الوقت الذي أراد القانون أن يحل مشكلة حاجة البعض إلى المسكن، فإنَّه قد عمل في الوقت نفسه إلى حرمان البعض الآخر من المسكن الخاص بهم. بما يعني أنَّ القانون، قد افتقد إلى تحقيق العدالة.

3. إنَّ القانون قد نصَّ على توزيع المساكن المؤممة على مَنْ استهدفهم القانون، على أساس أسلوب الانتفاع بكلِّ مبنى. والذي يعني بالضبط تأجير تلك المباني المؤممة على المنتفعين بها، شرط حق بقاء ملكية هذه المباني بيد الدولة. وقد ترتَّب على تطبيق هذا الأسلوب نتيجتين أساسيتين:

أولاً: إهمال المنتفعين لتلك المساكن، وذلك بسبب شعورهم ـ من ناحية أولى ـ أنَّ المباني لا تعود ملكيتها إليهم. ومن ناحية ثانية، لأنَّ القانون قد ضمن مسئولية الدولة ـ ممثلة بوزارة الإسكان ـ على إجراء أية إصلاحات، أو ترميمات يطلبها الشخص المنتفع بالمسكن.

ثانياً: وبسبب النتيجة السابقة، فقد برزت النتيجة الأخرى المتمثلة في تحمُّل الدولة أعباء مالية كبيرة، كان من الممكن التخلص منها، إذا ما عملتْ الدولة على تمليك تلك المساكن الموزعة مباشرة.

4. إنَّ الإجراءات والتدابير الخاطئة التي تضمنتها تطبيقات القانون، أدتْ بالضرورة إلى نتائج خاطئة عديدة، أهمها مطالبة الملاَّك الأساسين بإعادة مبانيهم المؤممة والموزعة إليهم أو تعويضهم، بما يعني بروز مشكلة غير متوقعة، ولكنها بحاجة إلى حل.

3. قانون الإصلاح الزراعي، ومصادرة الأراضي الزراعية:

   يحتل هذا القانون المرتبة الثانية بعد(قانون التأميم)، إن لم يكن مساوياً له من حيث الأهمية والنتائج المترتبة عليه.

   ودون الخوض في تفاصيل هذا القانون، فإنَّ ما يعنينا هي السمات العامة لهذا القانون، وكذا النتائج المترتبة على تطبيقه.

   فمن حيث سماته العامة، فإنَّ أهمها:

1. لجأ قانون الإصلاح الزراعي رقم(37) لسنة(1970) إلى توصيفات إيديولوجية تعسفية، فيما يخص تقسيم المجتمع الريفي طبقياً، حيث قُسَِم الفلاحين إلى طبقتين: مَّلاك الأراضي، وهم الإقطاعيون في جانب، والمحرومين من وسائل الإنتاج الزراعية وأهمها الأرض،في الجانب الآخر. وعلى أساس ذلك، كان شعار ” الأرض لمن يفلحها “ حاضراً وبقوة. ومن المؤكد بأنه قد جرى استدعاء الإصلاح الزراعي ـ باعتباره سياسة موجهة، لمعالجة المشاكل الخاصة بالقطاع الزراعي بشكل خاص، والمجتمع الريفي بشكل عام ـ من تلك التجارب التي جرى تطبيقها في البلدان الاشتراكية، دون النظر إلى  خصوصية الواقع المحلي.

2. لم يفَّرق القانون بين الأراضي الزراعية، التي تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة، وبين الأراضي التي تم الحصول عليها بطريقة مشروعة(الشراء)، أو بواسطة العمل العائلي والشخصي.

3. بعد مصادرة الأراضي، اعتبرتْ جميع الأراضي المصادرة ملكاً للدولة، واعتبر الفلاحين بمثابة منتفعين. فكان من نتائج ذلك، قتل نزعة التملك عند الفلاحين، وبالتالي عدم اهتمامهم بالأرض. ناهيك عن ضآلة مساحة الأرض الموزعة على أولئك المنتفعين.

4. وجود قصور كبير في تحديد سقف ملكية الأرض، حيث حددتْ بـ (3و8) هكتاراً في الأراضي المروية و(6 و16 ) هكتاراً في الأراضي البعلية، حيث ألزم القانون تسليم الأراضي الفائضة عن هذا السقف إلى الدولة.

5. اهتم القانون بالجانب الاجتماعي من السياسة الزراعية، وهو الجانب الخاص بإعادة توزيع الأراضي الزراعية، وأهمل من جانب آخر الجزء الاقتصادي منها. أي جانب تطوير وتحسين البنية التحتية للقطاع الزراعي.

6. حدد القانون تعويض الأراضي المستولى عليها، والأراضي الزائدة عن الحد الأعلى للملكية، كما حدد دفع التعويض خلال(25) سنة، وأن يكون التعويض بالتقسيط. كما حدد القانون ثمناً للأراضي بغرض الانتفاع، يساوي مبلغ التعويض، الذي يفترض أن تدفعه الدولة لمالكي الأراضي. إلاَّ أن كلا الاستحقاقين لم ينفذا.

7. برغم أن المشَّرع قد أوكل تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي (المصادرة، والاستيلاء، والتوزيع) إلى هيئة حكومية، هي اللجنة المركزية للإصلاح الزراعي، إلاَّ أنَّ ما حدث في الواقع كان عكس ذلك تماماً. حيث جرى تنفيذ القانون بواسطة الانتفاضات الفلاحية واللجان الفلاحية. وكانت الانتفاضات الفلاحية، هي أسوأ خطأ وقع فيه النظام السياسي الحاكم في الجنوب في الفترة المذكورة، وذلك للأسباب الآتية:

1. حيث مثلتْ الانتفاضات استمراراً لاستدعاء وتقليد التجارب الثورية في الخارج، ولكن بطريقة أسوأ مما حدث في البلدان الأصلية، التي  طبَّقتْ فيها الإصلاحات الزراعية والانتفاضات الفلاحية تلك.

2. وعوضاً عن استخدام العمل السياسي بين الفلاحين، بهدف إقناعهم بصحة سياسة وإجراءات الإصلاح الزراعي، جرى اللجوء إلى استخدام العنف ضد من جرى تصنيفهم كإقطاعيين.

3. وبدلاً من الدولة ومؤسساتها المعنية، سمحتْ السلطة للفلاحين والعمال الزراعيين بأن يقوموا بتنفيذ القانون، بواسطة تلك الانتفاضات التي حدثتْ في 7 اكتو بر 1970 م. وقد نتج عن تلك الانتفاضات الفلاحية حوادث مأساوية، حيث تعرَّض بعض ملاَّك الأراضي، للضرب والاهانات من جانب المشتركين في المسيرات والتظاهرات، التي صاحبتْ تلك الانتفاضات الفلاحية. كما جرى سجن البعض الآخر من أولئك المَّلاك.

8. جرى تكوين التعاونيات الزراعية الخدمية بطريقة اوامرية، مع أن السمة الأساسية للعمل التعاوني، أن يكون طوعياً واختيارياً. ولذلك كان ذلك سبباً رئيسياً أدى إلى تعثر التجربة التعاونية، ومن ثم فشلها.

9. يمكن تكرار ما قلناه في تكوين التعاونيات، على ما حدث عند تكوين مزارع الدولة.

10.إنَّ مجمل الأخطاء المذكورة، كانت سبباً أساسيا في أن يفقد أولئك الفلاحون والعمال الزراعيون، كلَّ ما تحصلوا عليه في تلك الظروف التاريخية والسياسية، وذلك عند أول تغيير سياسي. وهو ما حدث لهم بالضبط عند قيام الوحدة الاندماجية في مايو 1990م. حيث فقد أولئك الفلاحين كلَّ شيءٍ، وبطريقة مهينة.

رابعاً: مواصلة نهج تصفية الرموز القيادية الجنوبية:

   كانت قد بدأت عملية مؤامرة ونهج تصفية الرموز القيادية الجنوبية، منذ انقلاب 22 يونيو1969، الذي ظهر وكأنه انقلاباً(أبيضاً)، أي غير دموي، ولكنه كان مأساويا. فمنه وبه بدأتْ إزاحة القيادات الجنوبية من أمام(العنصر اليمني)، الذي بدأتْ رموزه تتكاثر كالفطر في المؤسسات الحزبية، والمنظمات الجماهيرية ومؤسسات الدولة. وكانت التصفية الجسدية للصف القيادي الأول(الرئيس قحطان محمد الشعبي ورفاقه)، هي البداية. ثم تلتها موجة التصفيات الجسدية التي حدثتْ بعد ذلك مباشرة، واستمرتْ حتى منتصف سبعينيات القرن الفارط. وهي الأحداث التي يُشار إليها في الأدب السياسي، تارةً بـ ” أحداث السبعينيات”، وتارةً أخرى بـ ” مرحلة السبعينات”. وقد قضى فيها طابور طويل من الجنوبيين، لأسباب وذرائع مختلفة. كما أنَّ الكثيرين من الجنوبيين تركوا(جنوبهم) قسراً، طمعاً في النجاة من الوقوع في ماكينة الموت المنصوبة لهم.

   وبدون الخوض في تفاصيل ما حدث، يمكننا أن نرسم أهم ملامح الفترة المذكورة، وما رافقها من أحداث، وذلك على النحو الآتي:

1. إنَّ مَنْ أدار ونفذ تلك الأحداث وبامتياز، هو(العنصر اليمني)، وذلك من خلال(جهاز أمن الثورة)، الذي تحوَّل لاحقاً إلى(وزارة أمن الدولة). وكذا من خلال المحاكمات الصورية المتمثلة في(محاكم أمن الثورة). وهي بالأساس محاكم استثنائية.

2. من المؤكد بأنَّ معظم ضحايا تلك الفترة ـ إنْ لم يكن جميعهم ـ هم جنوبيون.

3. لقد تعمدَّ المنفذون لتلك الأحداث، استخدام العنف ضد ضحاياهم، وذلك بدءاً من استخدام التعذيب البشع، وانتهاءاً بالتصفية الجسدية(الإعدام)، أكان خارج نطاق القانون، أو بواسطة المحاكمات الصورية.

4. لقد سيق ضحايا تلك المرحلة إلى قدرهم ذاك، بواسطة حبك العديد من الاتهامات المفبركة لهم، وذلك من قبيل معاداة(الثورة)، أو(التجربة الوطنية الديمقراطية)، أو حتى لقناعاتهم السياسية المخالفة لتوجهات الحزب الحاكم، وغيرها من الذرائع.

5. لقد كان الهدف الحقيقي والمستتر من وراء تلك الأعمال الدموية، هو الهدف الرئيسي ذاته الذي تبنَّاه(العنصر اليمني)، فيما يخص تصفية تاريخ وهوية الجنوب. وقد تجلَّى ذلك من خلال المظاهر الآتية:

1. الإجهاز على أكبر قدر من القيادات الجنوبية المؤثرة.

2. بث الخوف والذعر في البقية، ودفعهم للهروب خارج الجنوب.

3. تعميق الهوة بين مختلف مكونات شعب الجنوب، على اعتبار أنَّ كلَّ ما كان يحدث في تلك الفترة، هو من عمل السلطة التي كانت تظهر للرأي العام، باعتبارها جنوبية. إلاَّ أنها من حيث المضمون والنتيجة كانت من فعل(العنصر اليمني)، التي كانت عناصره ورموزه هي الممسك الفعلي بمقود النظام السياسي، ومؤسساته المؤثرة.

خامسا: انقلاب 26 يونيو1978م:

   من المؤكد بأنَّ هذا الانقلاب، هو حلقة من سلسلة الأفعال المتعاقبة، التي استهدفت تاريخ وهوية الجنوب. وباعتباره عملاً مباشراً، فقد استهدف هذا الانقلاب مواصلة تصفية القيادات الجنوبية. وكما كان الهدف واضحاً، كذلك كان الفاعل والمستفيد معروفين. وقد تمثلا في جهة واحدة، هي(العنصر اليمني). وبقيتْ الذرائع التي استخدمت في ذلك الانقلاب، هي المتغيِّرة فقط.

   ومن أجل تحقيق الهدف الرئيسي، كان لابد من خلق تباعد وتنافر بين صفوف النخبة الجنوبية. وذلك من خلال زرع الشكوك، وإشاعة عدم ثقة البعض تجاه البعض الآخر. وبدلاً من “القبلية” و“العشائريه”، جرى توليد “المناطقيه “. وباعتبار أنَّ النظام السياسي الذي كان يمسك بزمام السلطة حينئذ، لم يكن يؤمن بالتقسيم المناطقي للمجتمع، باعتبار إن ذلك يتعارض مع أسس فكر “الاشتراكية العلمية”، الذي يمثل النهج الفلسفي والسياسي لذلك النظام السياسي. وبغض النظر عن حقيقة إعمال وتأثير ذلك الفكر في الواقع المعاش. وبغض النظر حتى عن تناسب وتوافق ذلك الفكر مع ذلك الواقع السياسي والاجتماعي. ولإخفاء نزعة “المناطقيه “، جرى الهروب ـ كما هي العادة ـ إلى الإيديولوجيا، حيث جرى إلباس حدث انقلاب 26 يونيو1978 م، باعتباره صراعاً بين ” تيار يساري انتهازي مغامر” في جهة، و” تيار يساري حقيقي “ في الجهة الأخرى.

   وبالالتفات إلى ما يتضمنه توصيف “التيار الأول “، نجد أنَّ هذا التيار يشكِّل حالة ” متخلفة “، بل و” مدمرة “ على مستوى كلٍّ من الفكر السياسي والممارسة العملية. وأنَّ “التيار الثاني” يشكِّل الحالة المعاكسة تماماً. وعليه فقد جرى تحميل تلك القيادات السياسية ـ التي اتهمت بقيادة “التيار الأول ” ـ كلَّ السلبيات والأخطاء، والخطايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي حدثت في الجنوب منذ الاستقلال حتى ساعة وقوع حدث هذا الانقلاب. ويعني ذلك بالمقابل، أنه جرى إهمال حقيقة جوهرية مفادها: أنَّ النظام السياسي حينئذ، كان يستند إلى سلطة الحزب الواحد، الذي تتولى قيادته رسم السياسات المختلفة، الملزمة تنفيذها من جانب السلطة التنفيذية، الممثلة بالحكومة ومؤسساتها المختلفة. ويعني ذلك بالضرورة، أنَّ مسئولية ما حدث من سلبيات وأخطاء، تقع على كاهل كل أولئك الذين كان بيدهم اتخاذ القرار السياسي، بقطع النظر عن المكان الذي كانوا فيه، أكانوا في قيادة الحزب، أو قيادة الدولة.

   وبعيداً عن تفاصيل ما حدث في عشية ويوم 26 يونيو 1978 م، فإنَّ ما حدث في ذلك التاريخ، ليس سوى عملية انقلاب عسكري في إطار النظام السياسي ذاته، ولكنه استهدف التخلص من رأس الدولة، المتمثل في رئيس مجلس الرئاسة، بالإضافة إلى بعض القيادات الحزبية والحكومية القريبة جداً من رئيس الدولة. وقد اشتهر ذلك الانقلاب بـ “أحداث سالمين”. و(سالمين) هي كنية رئيس الجمهورية سالم ربيع علي، الذي تولى رئاسة دولة الجنوب للفترة (1969ـ 1978م). وقد اعدم الرجل مع آخرين من أتباعه في يوم 26 يونيو1978 م، عقب محاكمة صورية وهزلية، متجاوزة تماماً كلَّ الأسس القانونية. بل هي غير مستندة إلى أي قانون.

   ومن الأهمية بمكان التمييز من جهة، بين الأسباب الحقيقية المؤدية إلى عملية الانقلاب على رئيس الدولة، ومن ثم إعدامه، وبين الذرائع التي جرى اختلاقها للوصول إلى النتيجة ذاتها، وهي التخلص من رأس الدولة، أي الرئيس (سالمين) من جهة ثانية.

   أما بالنسبة إلى الأسباب، فإنَّ لها علاقة بمجموعة كبيرة من الأحداث السياسية المتتابعة، التي حدثت على امتداد الفترة الزمنية المذكورة أعلاه، أو حتى كامل الفترة منذ الاستقلال الوطني للجنوب، وحتى وقوع هذا الحدث المأساوي.

   وقبل الدخول في تفاصيل تلك الأسباب، ينبغي التأكيد على حقيقتين أساسيتين:

الأولى: إنَّ تلك القيادات السياسية ـ وفي مقدمتها رئيس الدولة ـ الذين جرى استهدافهم وتصفيتهم جسدياً في انقلاب يونيو 1978، هم جزء من بنية النظام السياسي، وأنَّ رئيس الدولة يتحمل كغيره جزءاً من مسؤولية تلك الأخطاء، التي حدثت في الفترة السياسية الذكورة، بما فيها تلك الأحداث المأساوية.

الثانية: إن رأس الدولة ممثلاً بالرئيس(سالمين)، قد بدأ بمراجعة سلوكه ومواقفه الفكرية والعملية، والتي تعني بالأساس أنَّ الرجل، قد بدأ بإجراء مراجعة نقدية للنهج النظري والسياسي للنظام السياسي برمته. وذلك انطلاقاً من كونه رئيساً للدولة.

   وعليه، ومن خلال النظر في المسألة الثانية، يمكن معرفة الأسباب الحقيقية التي أدَّتْ إلى قيام الطرف المعارض للرئيس(سالمين)، بتنفيذ عملية الانقلاب ضده. وأهم تلك الأسباب:

الأول: شعور الرئيس(سالمين)بالعبء والخطر الكبير، الذي صار يمثله(العنصر اليمني)، أكان بنموذجه القديم، الذي تواجد في الجنوب في الفترة الزمنية الممتدة حتى يوم الاستقلال الوطني للجنوب، أو بنموذجه الجديد، أي أولئك الذين وفدوا إلى الجنوب منذ الاستقلال، لأسباب وذرائع مختلفة، يوحدَّها جميعاً تاريخ مزيَّف ومظلِّل. إلاَّ أنَّ مشكلة ومأساة الجنوبيين، أنَّ انتباههم للأخطار التي تهدد تاريخهم وهويتهم، غالباً ما يكون متأخراً، أو بعد فوات الأوان. وبرغم ذلك فقد خلقتْ حالة التململ والامتعاض، التي أبداها(سالمين) تجاه هذا الواقع حالة أخرى مقابلة لها، تمثلَّتْ في بروز عملية استنفار واصطفاف كبيرين ضد(سالمين)، تزعمَّها وأدارها(العنصر اليمني) بإتقان واقتدار غير مسبوقين.

الثاني: إثر انقلاب 22يونيو1969م، أقدم التنظيم السياسي الجبهة القومية ـ وهو الحزب الحاكم حينئذٍ ـ على الانفتاح على بعض الأحزاب السياسية في الجنوب، كما استبعدتْ أحزاب أخرى من المشاركة السياسية، ناهيك عن حالات القمع السياسي التي لحقتْ بالعديد من التنظيمات السياسية والشخصيات الوطنية.

   ومن الأحزاب التي سُمح لها بالنشاط السياسي، ” منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي ” ، المرتبطة بالنظام السوري، و ” حزب الاتحاد الشعب الديمقراطي “، المرتبط بعلاقات جيدة بالاتحاد السوفيتي(سابقاً)، وبما كان يمثله ـ الأخير ـ من وزن دولي كبير في تلك الفترة التاريخية.

   والأهم من عملية المشاركة تلك ـ برغم رمزيتها ـ هي عملية الحوارات التي بدأت بين التنظيم السياسي(الجبهة القومية) من جانب، والحزبين المذكورين من جهة أخرى، وذلك حول ما أطلق عليها ” حل مشكلة العمل الوطني الديمقراطي “ في الجنوب، التي انتهتْ في فبراير 1975، بعقد المؤتمر التأسيسي لـ ” التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية “، الذي تمتْ فيه عملية ترتيب الأوضاع التنظيمية القيادية والقاعدية للحزبين المذكورين في إطار “التنظيم السياسي الجبهة القومية”. أي أنَّ العملية أخذتْ طابع إذابة هذين الحزبين في “الجبهة القومية “، وهو ما يعني بكل بساطة، العمل على تقوية “الشمولية “ كنهج سياسي. فبدلاً من وجود ثلاثة أحزاب، تمَّ الاستعاضة عنها بحزب واحد، وهو ما يعني في المضمون والجوهر، منع وحضر التعددية الحزبية. وهو ما يعني أيضا عملية استنساخ لتجربة العمل السياسي الحزبي في “المعسكر الاشتراكي” .

   وبغض النظر عن تفاصيل ما حدث في كواليس تلك الحوارات، التي أفضتْ إلى قيام “التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية“، فإنَّ جانباً كبيراً من أسباب مكونات “الأزمة”، التي صاحبت تلك العملية قد ألصقتْ بالرئيس(سالمين) دون غيره من القيادات والرموز والشخصيات السياسية، التي كانت متربعة على قمة هرم السلطة، وعلى وجه الخصوص في الجبهة القومية.

   وبغض النظر عن صحة ما ذُكِر من عدمه، لذا يبدو مفهوماً تماماً عملية الاصطفاف والمؤازرة منجانب معظم من كانوا ينضوون في إطار(حزب الطليعة الشعبية)و(حزب اتحاد الشعب الديمقراطي)، ضد تيار الرئيس (سالمين) في خضم ذلك الصراع، الذي قاد إلى الانقلاب المذكور، وبحيث يمكن النظر إليها، وكأنها عملية ثأر ضد(سالمين)، خاصة إذا علمنا أن(العنصر اليمني) كان يشكِّل الجزء الأكبر من تركيبة الحزبين المذكورين، وخاصة على المستوى القيادي.

الثالث: بعد انتهاء عملية الصراع الذي انتهى إلى توحيد فصائل العمل الوطني في إطار “التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية “، في المؤتمر الذي عقد في 5 فبراير 1975، بدأت عملية صراع أخرى أقوى واعنف داخل النخبة السياسية، حول إمكانية وواقعية تشكيل ” حزب طليعي من طراز جديد “. والذي يعني أساسا “حزب شيوعي”، على طراز الأحزاب الشيوعية الحاكمة في البلدان الاشتراكية. وفي خضم ذلك الصراع، انقسمتْ النخبة السياسية إلى تيارين. الأول تزعمه الرئيس (سالمين). والأخر تزعمه عبد الفتاح إسماعيل. التيار الأول كان متحفظاً على الفكرة، أما الآخر فقد كان متحمساً لها.

   وبغض النظر عما قيل أو نُقِل، فيما يخص تفاصيل ذلك الخلاف، وبالتالي تفنيد حجج كل طرف، فإنَّ الأهم في الموضوع، هو استرجاع الملامح الحقيقية لكلٍّ من التنظيم السياسي الموحد “الجبهة القومية”، وهو الحزب الحاكم في (الجنوب) حتى أكتوبر 1978، والحزب الاشتراكي اليمني، الذي أسس على أنقاض الأول، أو بالأصح الذي خلفه وورثه.

1. فمن حيث البنية التنظيمية لكلا الحزبين، فإنَّ البنية التنظيمية لـ “الحزب الاشتراكي اليمني “، هي ذاتها التي كانت متوافرة في “التنظيم “. فمثلاً كل الذين كانوا يشكلون عضوية الأول، هم أنفسهم من شكل بنية أو تركيب “الحزب “.

2. ومن حيث الأسس والقواعد التنظيمية، فقد كانت هي ذاتها. وذلك من حيث التسلسل الهرمي(مكتب سياسي حتى لجان المنظمات القاعدية)،والعكس صحيح.

3. ومن حيث الأسس النظرية “الايدولوجيا ” فهي ذاتها، حيث أخذ كلٌّ من “التنظيم ” و”الحزب” بنظرية “الاشتراكية العلمية “، وهي النظرية ذاتها المعمول بها في الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، التي كانت تحكم في مختلف البلدان الاشتراكية في تلك الحقبة التاريخية.

4. ومن حيث القيادات ” في “التنظيم ” و”الحزب “، فإنَّ الذين شكلوا القيادات العليا في ” الحزب “، هم أنفسهم من كانوا متربعين على قيادة “التنظيم “. وإذا حدث أي توسع أو زيادة، فقد كان باتجاه الكم وليس الكيف.

   والسؤال هو، أين تكمن الأزمة حول مسالة “الحزب الطليعي”، إذا كانت لا توجد اختلافات جوهرية بين “التنظيم السياسي الموحد ” و “الحزب الاشتراكي اليمني “.

   إنَّ الإجابة على هذا السؤال، تتركز حول ثلاثة أسباب أساسية، شكَّلت تحفظات(تيار سالمين) على تأسيس “الحزب الطليعي من طراز جديد” في الجنوب، وهي:

الأول: الإشارة إلى أنَّ “الحزب الطليعي “، هو في المضمون والشكل ” حزب شيوعي ” كسائر تلك الأحزاب الحاكمة في مختلف البلدان الاشتراكية، أو غيرها من الأحزاب التي تحمل التسمية ذاتها.

الثاني: كما أنَّ تسمية الحزب الجديد بـ “الحزب الاشتراكي اليمني”، كانت سبباً في وجود تلك التحفظات. فمن حيث صفة “الاشتراكي “ ، فإنَّ ذلك يثير إشكالية وحساسية لدى الأنظمة السياسية العربية، خاصة المحيطة بـ (الجنوب) تجاه التجربة الوطنية في الجنوب. أما من حيث إلحاق صفة “اليمني “ باسم الحزب، فقد فهم منه أنَّ هذه الصفة، ستنزع عن الجنوب أية هوية مستقلة لصالح(اليمن)، حتى لو كانت تلك الهوية المستقلة ” نسبية “، وليست كاملة، كما هي متجلية في “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”.

الثالث: هو الشعور بالخطورة المتزايدة من “العنصر اليمني”، المرتبطة بتأسيس (الحزب الطليعي)، وخاصة إذا تذكَّرنا أنَّ هذا الحزب، سيشمل أغلبية الأحزاب السياسية الموجودة في (الجمهورية العربية اليمنية). وهي أحزاب مؤيدة للنظام السياسي في الجنوب، ومتأثرة فيه. وهو ما يعني بالضرورة غلبة “العنصر اليمني” ، للوصول إلى تصفية ما تبقى من القيادات الجنوبية.

الرابع: أما السبب الرابع للانقلاب على (سالمين) ـ وهو أهمها ـ فهو رغبة الرئيس(سالمين) في إجراء مراجعة للنهج السياسي والأيديولوجي المتبع حينئذ في(دولة الجنوب). وكان الهدف الأساسي والمباشر من تلك المراجعة، هو إخراج النظام السياسي في الجنوب من عزلته العربية والإسلامية، جراء النهج السياسي المتطرف الذي ساد منذ انقلاب 22 يونيو 1969 م، والذي كان (سالمين)أحد قادته، إنْ لم يكن أهمهم. ويعني ذلك أنَّ الرجل قد ندم على مشاركته في كلَّ ما علق بـ (دولة الجنوب) من أخطاء وسلبيات، على امتداد الفترة الزمنية التي تولَّى خلالها رئاسة الدولة. ومع أن “الندم “ الذي يقود غالباً إلى “نقد الذات “، ومن ثم إلى المراجعة وتصحيح الأخطاء، يعتبر نزعة إنسانية نبيلة، إلاَّ أنَّ هذه النزعة النبيلة قد قوبلت بالرفض القاطع، وتجييش الرأي العام على(الرئيس سالمين). بل ولم يكتفِ الرافضون المتشددون بإزاحته من السلطة، بل وذهبوا إلى إعدامه ورفاقه، وبقية الحكاية معروفة.

   أما الذرائع التي على أساسها نُفذ انقلاب يونيو 1978 م ضد الرئيس(سالمين)، فيمكن ذكر أهمها:

1. بالاستناد إلى موقع(سالمين) ـ باعتباره رئيساً للدولة ـ فقد حُمِّل الرجل وزر معظم الأخطاء والسلبيات، التي اقترفتْ أثناء فترة توليه رئاسة الدولة، مع أن الرجل لم يكن سوى واحداً من صف قيادي طويل وواسع، كان يتولى حكم (الجنوب)، ناهيك عن أن قيادة الحزب هي المسئولة عن وضع سياسة الدولة، بل وتنفيذها، باعتبار أنَّ قيادة الحزب كانت تشكِّل معظم قوام الحكومة، وما عداها من مؤسسات الدولة والمنظمات الجماهيرية.

2. اتهام الرجل بالانعزالية والمغامرة والانتهازية، برغم أنَّ هذه الصفات كانت متوافرة عند الغالبية العظمى من تلك القيادات، التي تربعت على قيادة الحزب والدولة، بسبب أن النظام السياسي أساسا كان يتسم بهذه الصفات.

3. اُعتبر(سالمين) مسئولاً عن النقل الحرفي، للعديد من تجارب البلدان الاشتراكية، مثل التأميم، والانتفاضات الفلاحية، وتأسيس الحركة التعاونية ومزارع الدولة، وغيرها من التجارب التي جرى تطبيقها في(الجنوب).

4. أما الذريعة الكبرى والمباشرة، التي جرى استغلالها ضد الرجل، فكانت حادثة “مقتل الرئيس أحمد الغشمي”، الذي خلف إبراهيم محمد الحمدي في رئاسة الجمهورية العربية اليمنية. حيث أُتهم (سالمين) بتدبير عملية اغتيال “الغشمي” ، وذلك انتقاماً لمقتل (إبراهيم الحمدي)، الذي أُتهم بها(الغشمي). وقد استند الذين اتهموا واعدموا (سالمين) إلى تلك العلاقة الطيبة، التي نشأتْ بين الحمدي وسالمين. ويبقى (سالمين) بريئا من تلك الجريمة، وسيظل البحث عن الجاني الحقيقي مستمراً، حتى يتم نشر كل الوثائق الخاصة بهذه المسالة للرأي العام، وحتى تجرى محاكمة عادلة وعلنية.

   ومع أنَّ انقلاب يونيو 1978م، يأتي في سياق استمرار المؤامرة المستهدِّفة تاريخ وهوية الجنوب، التي يعتبر تصفية القيادات الجنوبية، حلقة هامة من سلسلة أهداف كثيرة. إلاَّ أنه من الأهمية بمكان التأكيد هنا على وجود بعض الملامح الخاصة بهذا الحدث:

 1. كان انقلاب 26 يونيو أكثر دموية، وذلك من حيث عدد الشخصيات الجنوبية التي سقطت في الحدث، وذلك مقارنة مع أولئك الذين سقطوا في انقلاب 22 يونيو 69م.

2. برغم أنَّ الايدولوجيا كانت حاضرة في الانقلابين، إلاَّ أنها كانت أكثر حضوراً في انقلاب 26 يونيو 1978، وذلك من حيث العدد الهائل الذين دخلوا المعتقلات والسجون، أو من حيث العدد الهائل الذين فقدوا وظائفهم، بسبب تهمة انتمائهم إلى(تيار سالمين). وهي تهمة تقع داخل نسق الإيديولوجيا أساساً، وليس خارجها على الإطلاق.

3. كان تأثير تداعيات انقلاب يونيو 1978م أكثر اتساعاً؛ وذلك من حيث الامتداد الزمني مقارنة بتداعيات انقلاب يونيو 1969م. حيث استمرت تداعيات يونيو 1987 حتى بداية إرهاصات أحداث 13 يناير 1986م .

4. أفضى انقلاب يونيو 1978م إلى تقوية(العنصر اليمني)، وحضور عناصره في مختلف مواقع اتخاذ القرار داخل الحزب والدولة، بل ووجدت وحدات عسكرية خاصة بـ (العنصر اليمني). وهي تلك الوحدات التي كانت تتبع(الجبهة الوطنية)، و(حزب الوحدة الشعبية).

5. إنَّ حالة الانقسام التي حدثت داخل النخبة السياسية، وعلى صعيد المجتمع بسبب انقلاب يونيو 1978م، كانت أكبر مما هي في انقلاب يونيو1969م. وهو ما يعني اتساع الهوة بين الجنوبيين. لأنَّ حالة الانقسام في الحالتين حدثت بين الجنوبيين فقط، كما هي حالات الانقسام التي سبقتْ ولحقتْ أيضا.

 

 

 

سادساً: حدث 13 يناير1986م:

   جرى تدوين حدث 13 يناير1986م في الأدب السياسي، باعتباره ذروة الأحداث المأساوية التي حدثتْ في الجنوب، منذ الحصول على الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م. وهو كذلك حقاً. ويرجع ذلك إلى حدة التصادم الذي انطوى عليه الحدث، وكذلك بسبب النتائج السلبية المترتبة عن  الحدث ذاته.

أولاً: إرهاصات حدث 13 يناير 1986م:

   لكل حدث ما إرهاصاته الخاصة به، والممهدة له في الوقت نفسه. وبقدر عنفوان حدث يناير، كذلك كانت إرهاصاته الممهدة له، وذلك من حيث كثرتها وقوتها كذلك. ومن الممكن تلخيصها في العناصر الاتيه:

1. حادثة إبعاد عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو:

   عقب انقلاب يونيو 1978م، الذي كانت أهم نتائجه إعدام رئيس الدولة، جرتْ عملية إعادة ترتيب لرئاسة الدولة، حيث عُينِّ ألامين العام للحزب عبد الفتاح إسماعيل رئيساً لمجلس الرئاسة. وقد احتل عبد الفتاح إسماعيل هذا المركز، تقليداً بما هو معمول به في الدول الاشتراكية، حيث يتولى سكرتير الحزب الشيوعي هناك رئاسة الدولة. إلاَّ أنه بعد فترة وجيزة من هذا الحدث، برزت أزمة سياسية داخل النخبة السياسية(قيادة الحزب والدولة)، جرى توصيفها بعدم قدرة عبد الفتاح إسماعيل، وعجزه عن القيام بواجباته الموكلة إليه، باعتباره أمينا عاماً للحزب ورئيسا للدولة في آنٍ واحد.

   وبغض النظر عن تفاصيل مجريات تلك الأزمة، فإنَّ حلها قد أفضى إلى اتخاذ قرار سياسي توافقي، بين الأجنحة المساهمة في تلك الأزمة، قضى بإبعاد عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو.

   وباختصار شديد، فقد أدتْ تلك الأزمة إلى مجموعة من النتائج أهمها:

1. حيث استعاد الجنوبيون موقع رئاسة الدولة، وذلك بإسناد هذا الموقع الى الشخصية الجنوبية علي ناصر محمد، الذي كان يشغل وقتئذ موقع رئيس الحكومة.

2.كما أضاع الجنوبيون فرصة ذهبية، وذلك عندما لم يتمكنوا من استغلال تلك الأزمة، باتجاه الحد من نفوذ(العنصر اليمني) في الحزب والدولة من ناحية، ومن ثم العمل لرص صفوف النخبة الجنوبية، وتقوية أواصر العلاقات فيما بينها، من ناحية ثانية. وعوضاً عن ذلك، فقد انشغل الجنوبيون في الانقسام، بين مؤيد لقرار إبعاد عبد الفتاح إسماعيل، ومعارض لذلك الإبعاد.

3. برغم أن تلك الأزمة قد ظهرت من حيث الشكل، باعتبارها خلاف حول أسلوب إدارة الدولة، إلاَّ أنها في الحقيقة والجوهر، كانت تعبيراً عن الصراع بين هويتين:الهوية الجنوبية صاحبة الأرض من جهة، والهوية اليمنية الغازية من جهة أخرى. إلاَّ أنه من المؤسف له أيضاً، فقد استطاع(العنصر اليمني) أن يبقي الأزمة، باعتبارها صراعاً إيديولوجياً، وبما يعني بالضرورة بقاء الأزمة مفتوحة.

2. استمرار انقسام الجنوبيين على أنفسهم:

   برغم قرار إبعاد عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو، إلاَّ أنَّ ذلك قد نتج عنه حالة انقسام بين صفوف الجنوبيين، بما يعني انزياح الكثيرين لصالح عبد الفتاح إسماعيل، حيث وقفوا إلى جانبه بقوة وشراسة.

   ومع انه من المؤكد بأنَّ أولئك الذين اتخذوا ذلك الموقف، كانوا تحت تأثير الايدولوجيا، إلاَّ أنَّ  الخطأ الأكبر كانت هي الطريقة، التي اتبعتْ لدفع أولئك لتصحيح موقفهم، وإثنائهم عن مناصرة عبد الفتاح إسماعيل.

   وأقل ما يمكننا أن نوصف بها تلك الطريقة، بأنها كانت قاسية ودموية. حيث توزعت بين؛ الفصل من الحزب، أو الأبعاد من بعض الهيئات القيادية للحزب أو الوظيفة، أو الإبعاد إلى خارج البلاد، وصولاً إلى الإعدام، كما هي في حالتي محمد صالح مطيع، وحسين محمد قماطه.

3. وثيقة الإصلاحات الاقتصادية:

   قدمت قيادة الحزب في ظل تولَّي علي ناصر محمد برنامجاً إصلاحياً، حاولتْ فيه أن تلامس العديد من الاخطاء والسلبيات المتفشية في الواقع من جانب، وأن ترسم فيه أهم الملامح التصحيحية لذلك الواقع، وأن تضع المخارج الممكنة من ذلك الواقع المتردي، باتجاه آفاق رحبة تهدف الى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، ورفع مستوى الدخل القومي وتحسِّن دخول الأفراد. إلا أنه وبدلاً من أن تلتف القيادات الجنوبية، وتتوحد حول ذلك البرنامج من أجل تنفيذه، فقد تحوَّل ذلك البرنامج إلى عامل تفتيت وتمزيق للنخبة الجنوبية، وأنقسم الجنوبيون إلى مؤيد للبرنامج ومعارض له. ويمكن تفسير ذلك بالآتي:

1. لقد استطاع(العنصر اليمني) أن يعيد حشد طاقاته، من خلال قيامه بعملية تشويه مركزة لذلك البرنامج، باعتباره برنامجا(يميناً). أي باستخدامهم الإيديولوجيا لتفتيت وحدة الجنوبيين، كما هو معتاد في كل صراع ضد الهوية الجنوبية.

2. كما استغل(العنصر اليمني) نزعة المناطقيه، وذلك بهدف تأجيج الصراع بين الجنوبيين.

3. بسبب إحساس جزء كبير ـ من الجنوبيين ـ ممن وقفوا ضد ذلك البرنامج بالغبن والمرارة، مما اعتقدوا أنه استحواذ من جانب الطرف الآخر على الجزء الأكبر والهام، من المراكز والوظائف القيادية الأساسية في الحزب والدولة، وكذلك في المؤسسات العسكرية والأمنية. وهذا له علاقة بإهمال التركيبة الاجتماعية للمجتمع الجنوبي. حيث تحوَّل ذلك الإحساس إلى موقف رافض، لكلِّ ما يصدر عن الطرف الأخر، وبغض النظر عن توافر درجة الصواب من عدمه.

4. عودة عبد الفتاح إسماعيل:

   في سياق التحضير للمؤتمر العام الثالث للحزب، وفي خضم ازدياد التجاذب السياسي بين طرفي النزاع داخل الحزب، فضَّل أحد الطرفين الاستعانة بـ(العنصر اليمني) ضد الطرف الآخر، وذلك من خلال المطالبة بعودة عبد الفتاح إسماعيل من موسكو، مما يعني بالضرورة تأجيج الخصومة واتساع التباعد بين الجنوبيين، وذلك بسبب عاملين اثنين:

الأول: تمثل في تمترس كل طرف من طرفي النزاع من الجنوبيين خلف أطروحاته وقناعاته.

الثاني: هو دخول(العنصر اليمني) في هذا الصراع  بشكل مباشر.

   وفي الحقيقة فقد شكَّلتْ عودة عبد الفتاح إسماعيل، أكبر خطأ تاريخي وسياسي سقط فيه الجنوبيون. وهو ما يماثل خطأ تسمية دولة الجنوب المستقلة بـ(جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، وكذلك خطأ إضافة صفة(اليمني)إلى اسم(الحزب الاشتراكي). وقد تبيَّن بوضوح فداحة خطأ عودة عبد الفتاح إسماعيل، وذلك عند النظر بتمعن في مجريات التحضير للمؤتمر، أو سير أعماله، أو نتائجه. والأهم من ذلك كله التمعُّن في حدث 13 يناير1986م، والنتائج المترتبة عن ذلك الحدث المأساوي.

5. التحضير للمؤتمر العام الثالث للحزب، والنتائج المترتبة عنه:

   شكلَّتْ مجموعة الإرهاصات المذكورة آنفاً، عوامل أو مقدمات أساسية للأزمة الخاصة بمجريات التحضير لهذا المؤتمر. كما ألقتْ بظلالها على النتائج المترتبة عن المؤتمر. وقد تجلَّى ذلك من خلال الوقائع الآتية:

1. اتساع عملية الاستقطاب لصالح طرفي النزاع. بحيث انتقل الانقسام من صفوف النخبة السياسية العليا في الحزب، ليشمل مؤسسات الدولة والمنظمات الجماهيرية، والمؤسسات العسكرية والأمنية. والأهم من ذلك كله، أنَّ الانقسام قد شمل أيضاً المجتمع في جميع محافظات الجنوب. وهذا هو الأسوأ.

2. وعوضاً عن الاهتمام بتصحيح وتطوير مختلف السياسات، ذات العلاقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، فقد اقتصر اهتمام الفرقاء في ذلك المؤتمر، على حرص كل طرف للحصول على الجزء الأكبر من الكعكة، التي تعني الحصول على المراكز القيادية الأساسية في الحزب والدولة، وبما يحقق التحكم في صنع القرارات الحاكمة، في الحزب والدولة والمجتمع لصالح هذا الطرف أو ذاك.

3. ومن أجل الحصول على النتيجة المذكورة آنفا، فقد قرر الطرفان استخدام القوة لفرض إرادتهما ورغبتهما، وذلك بدلاً من الخضوع للتقاليد التنظيمية المتعارف عليها.

4. من المؤسف والمحزن، أنَّ الاهتمام بترتيب وضع عبدالفتالح إسماعيل ـ أكان في إطار هيئة رئاسة المؤتمر، أو في إطار القيادة الحزب الجديدة التي سينتخبها المؤتمر ـ كانت هي المسألة الأساسية التي طغتْ على مجريات المؤتمر. والمقصود هنا الاهتمام بإعادته كأمين عام للحزب.

5. وكانت أهم تجليَّات المؤتمر العام الثالث، هي النتائج التي أفرزتها أعمال المؤتمر، حيث تحولََّتْ تلك النتائج إلى سبب هام ومباشر، للأزمة التي فجَّرتْ حدث 13 يناير1986م.

ثانيا: سمات حدث 13 يناير:

   لقد اتسم حدث 13 يناير، بالمقارنة مع مختلف الأحداث السابقة له، بعددٍ من الخصائص:

1. فمن حيث الحدِّة، فقد تمِّيز هذا الحدث بأنه الأكثر دموية. وذلك بسبب العدد الهائل من الضحايا، الذين سقطوا من طرفي الصراع. والمأساة أنَّ جلهمَّ جنوبيون، إنْ لم يكونوا جميعهم جنوبيين. وقد أتتْ هذه النتيجة القاسية بسبب استخدام كل أنواع الأسلحة؛ من البندقية حتى الطائرة، والمدفعية، وسلاح البحرية والمدرعات وما في حكمها.

2. ومن حيث استخدام الإيديولوجيا، فقد كانت حاضرة بقوة كما كانت حاضرة في الأحداث السابقة.  وكما هو حال كل حدث، فإنَّ الطرف المنتصر هو من يقوم باستخدام مفردات الايدولوجيا لصالحه،  ولغير صالح خصمه.

3. ومن السمات الخاصة لحدث 13 يناير، هو أنَّ حدة الانقسام الاجتماعي الذي نتج عنه، كان واسعاً. فإذا كان الانقسام في مختلف الأحداث السياسية السابقة، كان مقصوراً في النخبة السياسية المرتبطة بـ(الحزب)، فإنَّ الانقسام الناتج عن حدث يناير، فد شمل الحزب والدولة والمنظمات الجماهيرية، والمؤسسات العسكرية والأمنية، كما شمل المجتمع الجنوبي في مختلف مناطقه.

4. غالبا ما كانت الانقسامات السابقة، تفرز أغلبية منتصرة وأقلية مهزومة. أما في حدث يناير، فمكننا القول بأن الفرز كان متعادلاً تقريبا، أو قريباً من ذلك.

5. بينما تميزت الأحداث السابقة بمحدودية الخسارة بين القيادات السياسية الجنوبية، فإن الخسارة في حدث يناير كانت فادحة جداً. أكان من حيث الذين سقطوا في الحدث نفسه، أو الذين نزحوا إلى الخارج، باعتبار أن ذلك كان من نتائج الحدث ذاته.

6. ومن حيث نتائج الحدث المترتبة على قوة الدولة، وتماسك نظامها السياسي، فيمكن القول بأنَّ المسألة أخذتْ جانبين:

الأول: بالنظر إلى كلِّ السمات السابقة الذكر، يمكننا التأكيد بأن حدث 13 يناير، قد أدى بشكل مباشر إلى إضعاف قوة دولة الجنوب، وهشاشة نظامها السياسي. بحيث صار مكشوفاً كلياً على الخارج، وخاصة على نظام الجمهورية العربية اليمنية.

الثاني: كما إن مجمل السمات والنتائج المترتبة على هذا الحدث، قد أدَّتْ بالنتيجة إلى تقوية نظام الجمهورية العربية اليمنية. بحيث عمل هذا النظام، على استغلال الحدث ونتائجه لصالحه، وذلك من خلال استخدام قضية النازحين الجنوبيين في اتجاهين:

الأول: من خلال الحصول على الأموال من كثير من الدول العربية والأجنبية.

والثاني: من خلال استخدام النازحين كعامل تهديد للجنوب.

   وبسبب هذا الحدث، تحَّول نظام الجمهورية العربية اليمنية من “عدو تاريخي” للجنوب، إلى ” نظام إنساني “ متعاطف مع شعب الجنوب. وهذا من سخرية الأقدار.

7. ضعف النخبة السياسية الجنوبية، وعدم قدرتها على اتخاذ القرارات الصحيحة والمتوازنة، وأهمها التغلب على ما ترتب على حدث يناير من نتائج سلبية.

ثالثا: النتائج المترتبة على حدث 13 يناير 198م:

   لقد نتجت عن هذا الحدث المأساوي جملة من النتائج السلبية، التي تحولَّتْ أساسا إلى مقدمات رئيسية للسقوط المهين والنهائي، للنظام السياسي في الجنوب في المخطط اللعين الذي رسمه(العنصر اليمني)، لتصفية الهوية الجنوبية وإذابتها في(الهوية  اليمنية). وهو ما حدث عندما جرى استدراج الجنوبيين الى(الوحدة الاندماجية). وهذه النتائج هي:

1. من المؤكد بأنَّ سمات الحدث المذكورة سابقا، قد مثلَّتْ جزءاً هاماً من نتائج الحدث ذاته. أي أنَّ السمات قد تحولّتْ إلى نتائج أيضا.

2. في الوقت الذي خرج الجنوبيون من هذا الحدث، مهدودي القوة وضعفاء بسبب كثرة الخسائر التي تكبدوها، فقد عمل هذا الحدث على تقوية شوكة(العنصر اليمني). أي أنهم صاروا أكثر قوة من ذي قبل.

3. لقد أدَّى هذا الحدث إلى تقوية الإيديولوجيا والمخيال التاريخي الزائف والمظلِّل، الخاص بوجود هوية يمنية واحدة، و(الوحدة)باعتبارها الحل السحري والوحيد لحل مختلف المشاكل، التي جرى اختصار أسبابها في وجود(التجزئة). كما حرى بالمقابل التغافل المتعمد عن الأسباب الكامنة في جوهر النظام السياسي، وآليات الحكم المتبعة غير الديمقراطية، باعتبارها السبب الأساسي لمشكلات أنظمة الحكم في دولتي الجنوب والجمهورية العربية اليمنية.

4. في الوقت الذي أدَّى حدث 13 يناير إلى إضعاف دولة الجنوب ونظامها السياسي، فإنها بالمقابل قد انعكست ايجابياً على النظام السياسي في الجمهورية العربية اليمنية، حيث أدت الى تقويته.

5. كما جرى استغلال الحدث ونتائجه من جانب الجمهورية العربية اليمنية في تهديد(الجنوب) وغزوه عسكرياً، إذا لم يتحرك النظام السياسي في الجنوب باتجاه الوحدة الفورية.

   وإجمالاً يمكن القول بأنَّ حدث 13 يناير 1986م؛ من حيث هو فعل مأساوي، ومن حيث وقائعه التفصيلية، ومن حيث سماته المتعددة، ومن حيث نتائجه، قد ظل مسيطراً على الواقع السياسي والاجتماعي في الجنوب، حتى قيام الوحدة الاندماجية بين كلِّ من (الجنوب) والجمهورية العربية اليمنية، في إطار كيان “الجمهورية اليمنية ” في 22 مايو1990م.