fbpx
ما ليس مرئيا في صراع “الحكومة” و “الحوثي”




خيار الحرب ليس من مصلحة الحكم وليس من مصلحة الحوثيين..
القوى المحيطة بالرئيس تتحصن بالرئيس وتدفعه لخيار بلا أي جدوى، فضلا عن كلفته الدموية العالية.. 

والحوثيون، من جانبهم، يتورطون كل يوم، أكثر فأكثر، في الالتزام للقبائل الزاحفة نحو صنعاء ردا على قاصمة الظهر التي لحقت بأوضاعها المعيشية؛ وليس استجابة لما يروق للخائفين وصفه بـ”مغامرة” حوثية.

القبائل المحيطة بصنعاء ضُربت في معيشتها بقسوة، وهذا ما لا تريد الحكومة أن تتعامل معه كحقيقة ولو لثانية واحدة:

على مدى العقد الأخير من الزمن، أو ما يتجاوزه بقليل؛ تحولت عديد مناطق قبلية إلى مناطق زراعية، تعتمد في رزقها على الزراعة وخصوصا زراعة “القات”.. هذه الزراعة (رغم كل مساوئها) شكلت مصلحة مستقرة للقبائل؛ والآن باتت هذه المصلحة، بفعل تحرير أسعار النفط، في حكم المنعدمة، حيث كلفة الري أصبحت، لدى غالبية المزارعين، أكبر من، أو تساوي، عائدات المحاصيل في أسوأ حال، أو لا تفي إلا بالزهيد وغير المغري من الأرباح، في أفضلها.

خلال معارك “حاشد” جمع الشيخ حسين الأحمر قبائله ليطلب منهم التجهز للحرب، فرد عليه معظمهم: “بانهب لك زلط، أما الحرب ما بانحارب”، وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يرد فيها قبائل الشيخ على الشيخ بأنهم سيدفعون له دعما ماليا للحرب، بدلا عن أن يحاربوا بأنفسهم، مع أن العادة جرت أن يستقوي الشيخ بقبيلته نظير ما يغريها به من عوائد مالية للحرب (الغنائم والفيد).

السبب في ذلك ليس حتى ما يقوله “الحوثيون” من كونه بفعل “المظالم التاريخية” للشيخ، وبفعل ضيق الناس بها (وإن صح هذا السبب بشكل جزئي)؛ بل السبب الأبرز اقتصادي محض، وهو أن “حاشد” باتت، بمعنى أو بآخر، مجتمعا زراعيا، لقد شهدت مناطق القبيلة خلال بضعة سنوات أخيرة حالة من الرفاه، على مستوى مديريات و قرى وعائلات وأسر عديدة، بفعل تحول معظم أهاليها إلى زراعة “القات”، ليصبحوا بذلك أكثر عناية بتحسين وتطوير مداخيلهم منه، من عنايتهم بعائدات الحرب.

ولم يكن مشائخ آل الأحمر يحسبون حساب هذا المستجد “الاقتصادي” الذي كان مع مرور الوقت يسمح بتسرب سيطرتهم على قبيلتهم من بين اصابعهم.. حتى وصل الحال إلى وقوف “القبيلي” أمامهم ليعرض عليهم المال بدل القتال لأجلهم.

القات “الغيلي” يدر ذهبا لمزارعيه في حاشد، لكنه فقط المنتج الأكثر شهرة، بينما كل مناطق القبيلة لديها أنواعها أيضا، ولديها انشغالها الرئيس بهذه الزراعة.

الصراع الشديد الذي دار في “خيوان”، وانتهى بانتصار خيوان والتحاقها بالحوثيين، كان سببه مناطق ووديان زراعية ينازعهم ملكيتها آل الأحمر مثل وادي “دنان”.
الصراع الدامي بين عذر والعصيمات، والذي انتهى بانتصار الأولى والتحاقها بالحوثيين، سببه أراض زراعية.
الصراع العنيف بين حرف سفيان وحاشد (آل الأحمر تحديدا) سببه أراض زراعية يستولي عليها الشيخ منذ عقود من الزمن.

الجذر الاقتصادي موجود بقوة على عمق، بل وفي سطح، الصراعات التي شهدتها البلاد خلال العامين الأخيرين، والتي فضل كثيرون قراءتها باعتبارها مجرد صراعات طائفية أو إقليمية.

في صعدة؛ الأمر أكثر وضوحا، فهذه محافظة زراعية بالمطلق، وبعد أن دمرت الحرب والأزمات الممتدة لعشر سنوات مضت، حياة سكان المحافظة وزراعتهم هناك، وفي الوقت الذي ما صدقوا فيه أن سيل التنكيل بهم وبمعيشتهم قد بدأ بالتوقف، وبدأت الأزمات بالانفراج حتى جاءت الجرعة.

لايمكن للمزارع الصعداوي فصل مستجد رفع سعر الديزل والبترول، عن سلسلة الإجراءت الحكومية البشعة ضده والممتدة إلى ما قبل الحكومة القائمة، وأبرزها إغلاق المنافذ الحدودية أمام محاصيله التي اعتاد على تصديرها إلى السوق السعودية. (حتى صخر الوجيه، خلال وزارته، أغلق منفذ علب تحت مبرر واهي هو “الصيانة” واستمر الإغلاق لسنوات وبح صوت الشهيد عبد الكريم جدبان وهو يثير القضية أمام البرلمان دون ان يلتفت له أحد، وقد أدى الإغلاق إلى ضرب مواسم بكاملها وإغراق المنطقة في فقر غير مبرر).

في الجوف؛ فإن المهنة الوحيدة لدى الأهالي، باتت هي الزراعة، والأمر معروف.

بالتحول بعيدا عن صعدة وحاشد والجوف، وبالاقتراب أكثر ناحية صنعاء: ما هي “همدان” إن لم تكن “القات” و مزارع “القات”؟ وماهي بني حشيش وخولان إن لم تكونا “العنب” و”الزبيب” و “القات”؟ وماهي بني مطر إن لم تكن الحبوب (من الشعير إلى الحلبة) و القات؟ وما هي الحيمة إن لم تكن كذلك أيضا؟.

وفي ذمار فإن الحدأ وعنس تحولا كتحول حاشد بل أعظم، وأسبق زمناً، من ناحية نمط الحياة الجديد الذي أدخلته على المجتمع هناك زراعة القات وتجارته، وتوريده حتى إلى السعودية.
وفي آنس، على المدخل الجنوبي للعاصمة، يكفي أن تطل على قاع جهران والقيعان الواسعة المجاورة له مثل قاع الحقل وغيره، من الحقول التي تزرع الخضروات، وتملكها قبائل.

بالخلاصة؛ القبائل المحيطة بالعاصمة مسها الضر مباشرة من سياسة تحرير أسعار النفط، إنها السياسة التي توشك على إعادة القبيلة نحو هويتها المحاربة ولم تكن قد غادرتها إلا بالكاد.
بينما القبائل الأبعد، والتي لم تتحرك حتى الآن، خصوصا منها ما تحول ناحية الزراعة بشكل كبير، كعديد قبائل في مأرب وبينها نهم القريبة من صنعاء، ستظل تراقب المشهد على حياد، وقطعا فإنها ستظل تصلي من أجل انتصار نظيراتها القبلية المحتشدة لإسقاط الجرعة.

ولكم أن تقيسوا على هذا المنوال، بقية مناطق ومحافظات اليمن الزراعية، إنها كتلة واسعة من المتضررين يصادف أن “القبيلي” الأقرب إلى مركز الحكم هو الأكثر قدرة، داخل هذه الكتلة، على الاحتجاج وقول “لا”.

****************
القبائل المخيمة على مداخلكم أيها السادة مدفوعة بوقود الخوف من الجوع، أكثر من اندفاعها بطاقة الولاء لـ”السيد”؛ إن “السيد” هنا ليس إلا النصير المناسب في الوقت المناسب، فقط.

ومن المخيب أنه، وبدلا من البحث عن حلول وسطى تستجيب لبعض مطالب القبائل المنتفضة وتجنب الخزينة العامة الإفلاس؛ تتجه صنعاء نحو الخيار الأكثر كلفة: الحرب.

ستكلف الحرب اليمنيين كثيرا، لكن هذا لا يُعد شيئا مقابل الكلفة التي يراها الطرف الآخر (القبائل) نتيجة “الجرعة”؛ أو هكذا ستحدث القبائل نفسها.
***********

إن المواجهة الآن هي بين “مجتمع” كامل هو المجتمع القبلي، مستعينا بالمظلة الحوثية، وبين الفساد المختطف للدولة والحكومة معا..

القبائل في خضم هذا كله تعرف خصمها جيدا: إنه محسن وجناحه، في الحكم والحكومة وفي العملية السياسية. وهذا تحديدا هو ما يجعل مطلب “الحوثي” إسقاط الحكومة، وتنفيذ مخرجات الحوار، إلى جانب طبعا إسقاط الجرعة؛ فالهدف ليس رأس الدولة عبد ربه منصور هادي، ولا الدولة نفسها… بالنسبة للحوثيين فإن هادي أو أي رئيس مكانه سيظل محكوما بخيارات الثنائي المستولي على كل شيء من بعد سقوط ثورة 2011 (التي بفعلها اكتسب حتى المؤتمر الشعبي حصانة حيال غضب القبائل، وبات كل شيء محسوبا على الإصلاح/محسن) وإذا سقطت الحكومة فإنه سقوط لورقة ثمينة من بين آخر أوراق هذا الثنائي.