fbpx
ذكرى إقامة الوحدة الاندماجية وذكرى إعلان فك الارتباط

 

في كل مناسبة سياسية أو اجتماعية أو دينية يراد تخليدها؛ نظرًا لأهميتها في تاريخ الشعوب والدول، تختلف أساليب إحيائها وطرق تمجيدها، فإذا كان الشعب والنظام متفقان على إحياء هذه الذكرى، فيكون ذلك بالاحتفالات، وإذا كان الشعب والنظام مختلفان فيعبّر ذلك بالرفض داخل الشعوب والمقاومة التي درجت عليها الشعوب كطرق سلمية للنضال ضد النظام، وفي الغالب يكون إحياء الذكرى عن طريق الحشد الجماهيري، والذي عبره تتولد المشاعر ويبرز الوجدان الجماعي، ليكون هذا الوجدان هو مجمل جبري موجب باتجاه نشوء الضمير العام ليس لأنه جمع لأجزاء، بل لأنه عنفوان يعيش بكلّه العام في كل ضمير خاص للمحتشدين، وهنا تتضح المشاعر بأنها عطاء وجداني شامل لروح الجمع.. وفي الحشد الجماهيري المقاوم، كما هو في حالة الحراك الجنوبي، يكون الحشد مستدقًا في النهاية باتجاه الرأس الهرمي، باحثًا عن قيادة تأتي تلقائيًّا كممثل للاصطفاف الحشدي المرصوف المشاعر تجاه معضلته الكبرى، هذه المشاعر والوجدان الجمعي لضمير الكل في المجتمع هي التي تولد الإرادة الجمعية، وهي التي تدفع الناس لتحديد موقف موحد ومشترك نتيجة لبروزها كرأي عام، إذ يتخذ الرأي العام شكله من المجتمع الذي ينبع منه، ويتأثر بما يحدث فيه من تفاعلات، ويعبّر الرأي العام عن اتجاهات وآراء الناس إزاء القضايا والمشكلات المعينة أو الذكرى المؤلمة أو ذكرى معبّرة عن اعتزاز بحدث أو إنجاز تاريخي معين تعبيرًا صريحًا يُتوج بالحشد والتظاهر، ورفع الشعارات المعبرة، وأحيانًا تكون عبارة عن سلوك مجتمعي يعبّر عن الموقف المعين.
إننا هذه الأيام أمام ذكريتين متضادتين في المعاني والأبعاد السياسية، وهما مناسبتان يتم الإعداد والحشد لهما في الجمهورية اليمنية، تمثلان: الحشد الذي يُعد له من قِبل النظام، والحشد الذي يُعد له من قِبل الحراك الجنوبي، وشتان بين الاثنين والبُعد التعبيري لهما، بُعد كما بين المشرق والمغرب، أحدهما ذكرى إعلان الوحدة الاندماجية في 22مايو عام1999م، والآخر ذكرى إعلان فك الارتباط في 21مايو عام1994م.
1- حشد النظام بمناسبة إعلان قيام الوحدة:
إن الحشد الذي يعد له النظام هو حشد ممهور بالمال، يدفع به النافذين في السلطة؛ لغرض تمجيد الوحدة اليمنية بمناسبة الذكرى 24 لقيامها، بعد أن تم سرقة قيم الوحدة من قِبل نظام سياسي يتباهى بمفخرة الوحدة، وقد قضى عليها في مهدها، نظام سياسي يستخدم أساليب التضليل والتزييف باسم قيم الوحدة، وهو لم يحاول أن يبدأ حتى بالاندماجات الوطنية خلال عقدين ونصف من الزمن، وهو عمر جيل كامل، بل مزّق كيان المجتمع الشمالي نفسه، بل بين الشمال والجنوب، ذلك النظام القديم هو النظام الجديد الذي يحكم اليوم، وهو بالتالي نظام البيئة الواحدة والعادات والتقاليد البالية، هو نظام القبيلة المتسامي على الدولة والمتغول عليها وعلى سلطتها، وهو النظام العتيق الجديد الذي افترس الوحدة بين عشية وضحاها، وكرس بديلاً عنها الانتماءات القبلية الطائفية والمذهبية والمناطقية، واستبدل سلطة وعادات القبيلة وسلطانها بديلاً لمؤسسات ووظائف الدولة، ورسّخ بناء أجهزتها الأمنية والعسكرية كسلطة قمعية لحماية مصالح ومكانة القبيلة.. نظام سخّر موارد الدولة لرموز القبيلة وأصحاب الولاء، وصنع منهم طبقة طفيلية تتحكم بمفاصل اقتصاد الدولة وبالتالي نخرها، نظام جعل من الفساد عنوان الحكم، نظام صنع الإفقار والتهميش وإهدار الثروات ونهب الموارد، نظام أنتج الحرمان في الحقوق والحريات الأساسية، وخلق هيمنة السلطة الفئوية والعشائرية فوق سلطة المؤسسات والقانون والدستور، نظام خلق امتهان دولة المواطنة وولّد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وعمل على تسيير الناس بدافع الحاجة الاقتصادية لهم ولمعيشتهم الملحّة ولأسرهم؛ لخلق التبعية والانقياد للسلطة المتغولة ضد الفرد والمواطن البسيط، نظام صنع الانسدادات تجاه أي تغيير أو تحديث أو تجذير للوضع الحالي، نظام صنع المعاناة للناس، وتلاعب بالعصبيات المذهبية فأوجد التناحرات، وخلق أزمة الثقة في المواطنة المتساوية وعلاقات التعايش الاجتماعي، وأفرز تنميطًا للرعية متقابلة ومتضادة وإقصائية، وصنع من القوة بديلاً للقانون، ومن التفسّخ القيمي عوائد سارية ومُثلى، ومن القهر حالة مفروضة على المجتمع بكامله.. وأهم منتج في سلطة القبيلة هي التعامل مع الإرهاب وحمايته وتشجيع عناصره (القاعدة)، واستخدامهم لأغراض شتى، كي يتم بواسطتهم القضاء على خصومهم، وذلك عبر استخدام هذه العناصر للتصفيات الجسدية السياسية، لطالما كان الخصم عندهم هو الجنوب الذي توحدوا معه وتنكروا له بالوحدة. وبالفعل تم استخدام هذه العناصر لإضعاف وتركيع الخصم، وهو المشهد السياسي المعروف بعد الوحدة مباشرة، (أو أن النظام عنده تبرير آخر)، ومن ثم تم استخدام هذه العناصر بإرسالها وتشجيعها وزراعتها في المحافظات الجنوبية؛ حتى يبقى الجنوب مزرعة للإرهاب كي يظل جريحًا وأسيرًا لا يستطيع الفكاك من وحدة الضم والإلحاق، يمتص دماءها أولئك الأشباح والنفر من الناس الذين يمتصون حتى دماء أبنائهم لكي تستمر حياتهم لوحدهم.
إن الوحدة التي يحشدون لها في مناسبة قيامها، بعد عقدين ونيّف من الزمن، قد لا يدرك الإنسان البسيط أن الوحدة مصلحة وقوة ونماء وتنمية وتطور يعود مردود ذلك لمصلحة المواطن، لكن في حالة الوحدة اليمنية كانت النتيجة عكسية؛ لِما قد يعطل فعل التأثير الانفعالي في الدفاع عنها.. إلا أن السلطة ورجال النفوذ والذين صادروا مصلحة الشعب من الوحدة لمصالحهم الخاصة يزيفون ويضللون بأن الوحدة ضرورة وقدر ومصير وفرض إلهي على الإنسان، فإن لم تكن فائدة الوحدة عاجلة فالثواب والأجر والعطاء حتمًا سيكون في الآخرة، باعتبار الوحدة فريضة من الله، وهكذا يتم التلفيق باسمها.. وعليه فلن يستطيع النظام أن يخلق وجدانًا وضميرًا جمعيًّا منفعلاً من أجل التعبير بالاحتشاد في هذه المناسبة، لكن ممكن أن يبذل النظام الكثير من المال من أجل إقامة فعاليات زيف ومظاهر فرائحية، لكنها محدودة الفعل والتأثير، يكون الغرض منها مقاومة الفعل الحراكي الجماهيري التلقائي بعنفوانه واندفاعه.
2- الحشد الجماهيري للحراك الجنوبي:
هو الحشد الجماهيري الذي يقيمه الحراك الجنوبي كعادته في كل المناسبات بالمليونيات، والتي تُمثّل جزءًا من قاعدته النضالية السلمية في ثورته التي انطلقت منذ العام 2007م, هذا الاحتشاد الجماهيري له مدلوله وأبعاده السياسية، وله أبعاده الاجتماعية النفسية التي تولدت من المعاناة من شقاء الإنسان ومن غدر الزمان فكونت رأيًا عامًّا يحمل الدوافع النضالية نحو الهدف الذي رسمه الحراك الجنوبي.. فلم يأتِ هذا الحراك الذي تحتشد فيه الجماهير في الساحات في كل المناسبات من فراغ, بل هو تعبير عن المواقف والإنجازات المؤثرة في تاريخ الجنوب؛ لأنها تحمل ذكريات تاريخ الدولة القوية القائمة الضابطة الحافظة لحق المواطن وكرامته حينها, هذه الجماهير التي احتشدت في اثنتي عشرة مليونية تُعبّر الجماهير فيها عن المأساة لضياع دولتهم خلال أربعة وعشرون عاماً, وضياع حق المواطن في الصحة التي كانت مجانية والتعليم النوعي المجاني, والاهتمام بالنشء الجديد. هذه المليونيات تأتي تعبيرًا عن هذا الضياع للإنسان في ظل انعدام الخدمات المختلفة من المياه، والتي كانت لا تنقطع على مدار الساعة في دولتهم الجنوبية, وكذلك الكهرباء المتواصلة والمستمرة، وكل الخدمات الضرورية الأخرى, واحترامًا لكرامة المواطن في ظل تلك الدولة التي ضاعت مع الوحدة كان يتم الإعلان عبر الوسائل الإعلامية بقناتيها المسموعة والمرئية عن الانقطاع الذي سيحدث في وقت محدد لساعة أو لعدد من الساعات لغرض الإصلاحات أو الإدخالات الجديدة في شبكة المياه أو الكهرباء أو الاتصالات, وهذه خدمات تقوم بها وتؤديها الدولة لصالح المواطن بثمن رمزي، ليس هذا فحسب، بل كل الخدمات التي توفِّر للإنسان الحياة الكريمة واستقرار العيش.
إن المليونيات الجنوبية الرافضة لهذا النظام تُقام بدوافع ذاتية وتلقائية في كل المناسبات التاريخية للجنوب تعبيرًا عن الألم لضياع حقوق المساواة والمواطنة, لا تمييز في المواطنة بين عبدٍ وسيّد، ولا شيخ أو رعوي، ولا كبير أو صغير, الكل لهم حق التملك والكسب، وحق العمل وحق الإبداع, أمام القانون في المعاملات والخدمات، وما إلى ذلك. كان الناس سواسية كأسنان المشط, وكانت الدولة الجنوبية ملزمة بتوفير العمل لكل فرد بعد التخرج من الدراسة, وملزمة بالقضاء على البطالة, وكان الناس يتعاونون مع أجهزة الدولة في كثير من القضايا التي تهم أمنهم وحياتهم, لذا كان الناس يُدافعون عن أنفسهم وعن دولتهم بدون وصاية ولا رقابة ولا فرض, كان القانون سيّد الكل، وكان الناس ينصاعون لكل التشريعات والقوانين والدستور.. كان الإنسان يشعر بقيمته ومكانته الاجتماعية والإنسانية في الحياة.. هذه المليونية في ذكرى فك الارتباط في 21 مايو هي الذكرى العشرون , مناسبة تأتي بحجم المطلب والحدث تعبيرًا عن افتقاد الجماهير للدولة الجنوبية التي ضاع معها كذلك حق المرأة, وفقدت قوانين من أكثر قوانين الأرض عدلاً لصالح المرأة من بين كل الدول, والتي قاربت وصية نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع حينما قال: اتقوا الله في النساء, واستوصوا في النساء خيرًا, والنساء شقائق الرجال، لكن إخواننا وأشقاءنا في الوحدة ضللوا علينا في الدين وحمّلوه ضدنا ما لا يحتمل من أجل ضياع دولة وحقوق، وما إلى ذلك, كي نعيش سويًّا في الظلام.. كل هذا والكثير غيره، هو الذي يدفع الشارع الجنوبي – اليوم – للتعبير عن رفضه لدولة جعلته يعيش كالغريق، لا يدري ما وسيلة إنقاذ حياته, لم يكن لديه غير التعبير السلمي لمقاومة الموت الذي فرضه عليه نظام آسن في التخلف والجهل والمرض, نظام حرم الشعب الجنوبي من الطموح الذي كان يتطلع إليه من خيرات الوحدة, وحرمه من دولته القوية التي كانت تحميه وترعاه، ولهذا فمطلبه الحالي يتجه به إلى كل العقلاء والمثقفين وأصحاب الرؤيا الصائبة من إخوانه في الجمهورية اليمنية لمدّ يد العون من أجل استعادة دولته، وتحقيق حلم المواطن الجنوبي في إعادة بناء دولته, وهو قادر على ذلك, وليس من طريق غير هذا أمام الشعب الجنوبي، ولا يبدو خلاف هذا المطلب في توجهاته الحالية؛ لأن الدولة الجنوبية القادمة ستعزز وتساعد على بناء دولة في الشمال. ولا نرى أي طريق غير هذا إلا طريق الخراب والدمار والدماء والمآسي للشمال والجنوب, ولا نعتقد أن العقلاء يرضون بهدم المعبد على رؤوس الجميع، حتى ولو رأى عكسيًّا المفتون من رجال الدين ومَنْ تبعهم والمتسلطون والنفعيون، أي إذا رأوا خلاف ذلك.
ولكن الله فعالٌ لما يريد