fbpx
الثلاثاء العظيم في عدن

عجّت ساحة الشابات – أو ساحة العروض – في عدن الثلاثاء الماضي بجمع غفير من مواطني جنوب اليمن ملئوا الساحة وتدفقوا إلى الشوارع والأزقة المتفرعة منها؛ ذلك في الذكرى الـ19 لإعلان فك الارتباط بين جنوب اليمن وشماله أو بين «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» التي سميت في الإعلان بـ«جمهورية اليمن الديمقراطية», وبين «الجمهورية العربية اليمنية», بعيد الحرب الطاحنة التي اندلعت في 27 أبريل 1994 ضد الجنوب والحزب الاشتراكي اليمني, ولم يكن من نتاجها إلا كل تراجع على كافة الأصعدة.

 

الجمع المهرجاني العرمرمي, الأضخم حتى الآن, سُمي بـ«مليونية فك الارتباط», ولا يعني ذلك أن مليون فرد حضروا الساحة, بل كان العدد في تقديري يتراوح بين نصف مليون, يزيد أو ينقص قليلًا, وذلك عدد ضخم جدًا بالقياس على تعداد سكان الجنوب. ومعظم – إن لم يكن جميع – الحاضرين, وبكل تأكيد, وأتحدث من وحي واقع أعيشه ومن صدى حضور الفعالية, يطالبون بـ«فك الارتباط», وسواء كان ذلك عن استيعاب أو بدونه, أو عن استراتيجية أو بدونها, إلا أنه المطلب الذي جاء كردة فعل وصار يوصف بالمصيري, وظل يتعمق كل يوم أكثر فأكثر منذ سنوات, من قبل الجنوبيين تجاه الوحدة التي خُلقت مشوهة من يومها الأول, وجاءت على الشعب اليمني بلاء من لحظتها الأولى, وتحققت على مركب الخيارات الطارئة والمنافذ المنقذة لنظامي الدولتين آنئذ, وجلس على كراسي قيادتها الكثير ممن تنقصهم الخبرات والكفاءات والقدرة على قيادة تحول تاريخي كبير في ذلك المنعطف, في حين لم يُسمع للقلة التي كانت تتمتع بحس مغاير غير عاطفي, هذا إضافة إلى مجموعة المتغيرات الإقليمية والدولية.

 

ولم يكن هناك أي داعٍ أن تسأل من حضر الثلاثاء العظيم: ماذا تريد؟ فالسؤال في غير موضعه, عند الغالبية العظمى, طالما الإجابة تبدو ناصعة كالشمس التي كانت تشوي المكان وكانت تُجابه بالصبر والقدرة على التحمل, وما عليك إلا أن تستمع للهدير الصاخب المزلزل المطالب باستعادة «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» كحل أخير للقضية الجنوبية مثله مثل البتر في حالة المرض المستعصي الذي فشلت كل الخيارات في استئصاله دون اللجوء إلا الخيار النهائي.وظل الحشد يتوافد على الساحة من شرايين محافظات جنوب اليمن على مدار يومين, والبعض منهم قدم في الـ19 من الشهر, وكان الإعداد, على ضخامته, مهمًا لمراكمة الرسائل السياسية من قبل تيار فك الارتباط, وإضافةً إلى مليونيات (أقصد الاسم لا العدد وليس هذا تقليل منها طالما كانت ولا تزال بمئات الآلاف) سابقة انطلقت منذ نهاية العام المنصرم من عدن.وهي رسائل شديدة الأهمية للداخل والخارج, وملخصها أن هذا العدد البشري الهائل الذي خرج من أجل مطلب «فك الارتباط» من المستحيل أن يخبو عن مطلبه وقد كسر كل الحواجز المانعة, وبعد أن قدم الكثير من التضحيات ابتداءً من العام 2007, وأعوام سابقة كانت شرارتها قد انطلقت بعد حرب صيف 1994؛ الحرب التي ظنت منظومة صالح أنها أخمدت الجنوب من خلالها, وهنا يحضرني قول البردّوني «الإخضاع قد يخمد الظاهرة» لكنه «يقوّي أسبابها».

 

ومعروف أن الجناح الأكثر تأثيرًا في الجنوب هو الجناح الداعي إلى «فك الارتباط» والذي يتزعمه نائب الرئيس الأسبق – أو كما يُسمى في الجنوب بالرئيس الجنوبي – الأستاذ علي سالم البيض, وعلى غراره, أي البيض, فكل من كان في الساحة وفي ساحات أخرى في جغرافية جنوب اليمن, قد كان من دعاة الوحدة بالأمس القريب, نهاية الثمانينات وإشراقة التسعينيات, وها هو, هذا الكل, اليوم قد غير قناعته جذريًا, وكل هذا نتيجة الظلم والإجحاف والقهر الذي نتج عن صيف 1994, بل وصل الأمر حد النفور من الهوية اليمنية عن وعي وبدونه عند الكثير من المواطنين.

 

وحين فشلت الوحدة وتحولت من السلم إلى الحرب من الحب إلى الكراهية, كانت أن فشلت في الجنوب والشمال على حد سواء, ومنظومة الحكم الدموية التي قادت البلاد من مجهول إلا آخر بعد 94, على قاعدتها التي انطلقت بها نهاية السبعينيات في اليمن الشمالي, قد قضت على أحلام 25 مليون نسمة وليس على آمال سكان محافظات جنوب اليمن وحسب, مع أن المقارنة هنا يجب توضيحها والإضافة إليها بأن الجنوب فَقَدَ دولة كان يعتد بها قياسًا بدولة القبيلة والعسكر والشيوخ في الشمال, وبالتالي فقد ذاق المعاناة أكثر وأدهى وأمر, وحقق تراجعًا ملحوظًا في كل المجالات التي سجل بها تقدمًا كبيرًا خلال 23 عامًا قبل العام 1990, لدرجة لا تعد المقارنة مجدية من هذه الناحية, مع أن الوضع المأساوي للمواطنين في شمال اليمن هو الأسوأ والأبشع بمقاسات عالمية.

 

وعودة إلى الساحة, فلقد كانت الجماهير مؤتلفة غير مختلفة في المطلب الأساسي, وكذلك في مطالب كثيرة غيره, ولا يفرقها إلا تفرق قياداتها في دول الشتات أو في الداخل. وهنا مناسبة للحديث عن هذه القيادات التي تجاوز معظمها العقد السابع من العمر, وهي في ذات الظهور وممارسة العمل السياسي منذ أول حكومة عرفتها «ج.ي.د.ش» نهاية ستينيات القرن العشرين بعد رحيل الاستعمار البريطاني.

 

وتلك القيادات كانت قد تشظت بالأمس, وشرخت الأرضية الصلبة التي كانت واقفة عليها وكانت تمثل خلاصة عقدين من الزمن وخلاصات لعقود أسبق, وجنت الويلات كثيرًا من هذه الثغرات, والجرم الأكبر أنه بعد كل هذه السنوات التي قضتها تأكل المعاناة جراء ذلك الماضي لم تعد إلى الواجهة مجددًا لتوحد جهودها من أجل هدفها الواحد بلون جديد يجترح المخارج لمعالجة الحاضر والتقدم نحو المستقبل, بل عادت لتكبل حاضر الشباب والصف الثاني والثالث من قيادات الحراك الجنوبي بالخلافات التي لا طائل منها وبمزيد من التوتر وخدش اللوحات الجميلة التي ما برح الحراك الجنوبي السلمي – الذي كان وسيظل سلميًا – يقدمها كل يوم منذ 6 سنوات في 6 محافظات وقدم من أجل مستقبله ومطالبه الغالي والنفيس, ولم يبخل حتى بالأرواح والدماء.

 

وبين قيادات تستضيفها دول الشتات, وأخرى عادت إلى الداخل وانضمت للحوار الوطني (غير الشامل), وثالثة في الداخل وترفض أي مخرج للقضية غير مخرج «فك الارتباط» تخبط الشارع الجنوبي كثيرًا, وما كانت سماه وفقًا لذلك إلا «كلما صفت غيمت» مع كل البهاء الذي يتميز به. ومن الملاحظ أن الشارع الجنوبي الذي استطاع تقديم كل شيء يملكه من أجل قضيته, لم يستطع – أو لعله فشل ولا أستطيع القول إنه لم يرد بعد – حتى اللحظة فرز قيادات جديدة بديلة تملك القرار الأول وتحقق إدارة التنوع الداخلي [ولا أقصد الوحدة الداخلية الاندماجية التي تجاوزها الحاضر], فظل – على عظمته وضخامته – تابعًا لقيادات فشلت جميعها – دون استثناء – في الماضي, وهي لا تزال تدير حاضرها بكثير من أدواتها القديمة.

 

بل إننا نلحظ تقبل الشعب في جنوب اليمن لعناصر, أصبحت اليوم قيادية, كانت بالأمس القريب معروفة التوجه والوظيفة, ووجوه بارزة منها لم تستطع اليوم أن تقدم حتى رسالة إعلامية ذكية ودبلوماسية أمام الداخل قبل الخارج, حتى تحولت ساحة القضية الجنوبية, في هذه الجزئية, جاذبة لكل من فقد مصالحه الخاصة, ولمن كان يداري ويتحين ميلان كفة الميزان, لا لمن أحس في ماضية ولا يزال اليوم بواجبه الوطني تجاه شعبه ووطنه وقضيته, ولعل لهذا الأمر موروث في التاريخ السياسي اليمني في الجنوب والشمال, وما كان ليكون لولا اختلال المقاييس التي فتحت الباب أمام الجميع فكان أن اندس ضمن الداخلين انتهازيون يتصدر كثير منهم الواجهة.

 

وفي هذا الصدد, فإنه من دون الانتباه لهذه المسألة فإن المستقبل لن يكون في معزل عن الماضي, بل لن يكون هناك تغيير يسمح لنا بالمقارنة, وسيبدو التاريخ كما لو كان عقيمًا. هذا الشعب الذي يتدفق اليوم بمئات الآلاف في مدينة عدن قادمًا من محافظات جنوب اليمن لن يكون باستطاعته أن يعيش الغد الذي يعلق عليه الأماني اليوم إن استمرت حالة التهييج الشعبي غير المستوعبة للمتطلبات الضرورية من أجل المستقبل الاستراتيجي, فكما كان بالأمس لاهثًا خلف العاطفة, سيبدو اليوم كذلك, وإن كان له أن يحقق ما يريد, فإن الأمر سيظل إن استمر على هذه الحالة كالسراب الذي يحسبه الظمآن أمل الحياة.

 

ومن دون التقليل من أهمية الهبة الشعبية العارمة, فإنها من علمت الربيع العربي معنى النضال السلمي وهز عروش المستبدين, غير أن الاندفاع الشعبي العفوي لا يكفي, لا يكفي أبدًا, فإن كان اندفاعًا عفويًا فسيأتي من يحوله بسهولة لمطاوعة مسار آخر غير ظاهر في الأفق وسيبديه القادم حين لا تنفع معه المراجعة والتصحيح إلا بثورة أخرى, وإن كان مطلب الأمس «وحدة» ومطلب اليوم «فك ارتباط», فلا أدري أي شاطئ سترسو عليه سفينة الغد: أهو «وحدة» من جديد أم تقسيم المقسم, والإيغال في العودة لتاريخ كنا نظن أن اليمنيين تجاوزوه في منتصف القرن العشرين؟

 

وعلى قيادة الحراك الجنوبي, تيار فك الارتباط على وجه التحديد, أن تنقي صفها من المنتفعين والانتهازيين والمستبدين الجدد حيث الاستبداد يظهر ويطفو من خلال عدم القبول بالآخر والتملك من الآن بقضية شعب ووطن بحجم «جمهوري اليمن الديمقراطية الشعبية», كما يظهر من خلال حصر مسار النضال وتطويقه, كما على الحراك الجنوبي أن لا يظل هو الآخر رهن علاعلة الجنوب وعبادلته (كما هو حال شمال الشمال المقبوض عليه من قِبَل العلاعلة والعبادلة), وإن لم يكن كل «علي» «علي», وليدفع باتجاه فرز القيادات والطاقات الجديدة من الصف الثاني والذي يليه, ولتبق كل السبل متاحة, وستبقى السبيل الأكثر أهمية: إيجاد استقرار استراتيجي بعيد الأمد, وستبقى الخيارات مفتوحة أيضًا ومنها ما يتردد صداه الآن أكثر من أي خيار آخر: دولتان لشعب واحد. ولنتذكر أن الأرض التي يرسو عليها النضال من أجل القضية الجنوبية لا تقع في كوكب المريخ, بل في جزيرة العرب حيث الأعداء كثر والأصدقاء أيضًا.

 

ولا يظن أحد أن من شأن فرز قيادات جديدة اللعب بالقضية على وتر الخبرة والكفاءة, على اعتبار أن الزعامات الجنوبية الشائخة هي الأكثر خبرة وكفاءة ورمزية, وذلك القول غير صحيح «ليس فقط لأنه يجافي سنّة التطور وإنما لأنه يجافي الحقيقة», كما يقول الرئيس الراحل جمال عبدالناصر, وهو غير صحيح أيضًا قياسًا بالماضي الذي لا أنقّب عنه هنا إلا من أجل استكشاف كم كانت الأخطاء التي قدمت عليها تلك القيادات كارثية وكبيرة على واقع الأمس واليوم معًا, ولا شك أن المستقبل ستصله بعض الترددات والموجات للأسف, ولا يفترض مع هذا وذاك إقصاء كل القديم, فمسار الزمن حلقات تتواصل لرفد سنة التطور, فالذي أخفق في قيادة مرحلة الأمس – وله لا شك كمجموع بعض النجاحات حينها – عليه اليوم أن يترك المجال للأجيال التي أعقبته وأصبحت تشكل القوة الحقيقية لترميم المسار وإصلاحه وربما تغييره بمسار آخر مختلف غير منقطع.

 

ولن تكون فوق كلمة الهدير الشعبي, غير العفوي, أي كلمة.. وعلينا هنا أن نتذكر ما قاله الرائي الكبير عبدالله البردوني: «السخط وحده على أي وضع لا يكوّن سببًا جامعًا لإنهائه دون تبني بديل أفضل, قد يكون السخط ثورة دائمة, ولكن تحويله إلى وسيلة تغييرية يحتم رؤية الغاية من خلال الوسائل», ومن دون استيعاب ذلك: فكما انتكست الوحدة من يومها الأول سينتكس أي حل وخيار مستقبلي وستُكتب خاتمته من وهلته الأولى.

 

nashwanalothmani@hotmail.com

 
*بالتزامن مع يومية “الشارع”.