fbpx
في الذكرى الثانية لرحيله: د.صالح علي باصرة..عنوانٌ للنجاح
د. علي صالح الخلاقي
حين يرحل عنا مؤرخ وأكاديمي ورجل دولة بحجم أ.د.صالح علي باصرة تكون خسارة الوطن كبيرة. ولمعرفة حجم هذه الخسارة التي لا تعوض يكفي أن نعرف أن العطاء والنجاح المثمر كان عنواناً بارزاً، ارتبط باسمه وبمسيرته العلمية والعملية في كل المناصب والمسئوليات الهامة التي تسنمها.
شخصياً تعرفت على الشخصية الأكاديمية أ.د.صالح علي باصرة (رحمه الله) مطلع التسعينات، وكان العلم والبحث العلمي مفتاح هذه العلاقة التي ترسخت بمرور الأيام، وعرفته بهمته العالية وحيويته وروحه الحضرمية الأصيلة التي تشعرك بالقرب منها. فحينما أكملت دراسة الماجستير في الصحافة الدولية عام1992م، زرته في مكتبه في مبنى إدارة الجامعة بمدينة الشعب، وكان يشغل حينها منصب نائب رئيس جامعة عدن لشئون البحث العلمي، فاستقبلني ببشاشته ورحابة صدره وكأننا أصدقاء قدماء، مع أنه اللقاء الأول الذي جمعني به وجها لوجه، فقد اتضح أنه يعرفني من خلال ظهوري الإعلامي في تلفزيون عدن ومن كتاباتي الصحفية منذ مطلع الثمانينات، وتبادلنا أطراف الحديث، وأبديت له رغبتي بمواصلة الدراسة العليا (الدكتوراة) والتفكير بالانتقال بعد التخرج للعمل بالجامعة وطلبت منه النصح في نوعية التخصص هل في الإعلام أم في التاريخ. وأتذكر أنه قال:” إذا واصلت الدكتوراة في التاريخ فيمكن استيعابك، أما في الإعلام فما زلنا نفكر بافتتاح قسم للإعلام في كلية الآداب”. وهكذا واصلت تخصصي عملا بنصيحته.كما أوضحت له أنني قد شرعت حينها بترجمة كتاب عن سقطرى لمؤلفه فيتالي ناؤمكين، “هناك حيث ولدت العنقاء”، وهو أول كتاب روسي له عن سقطرى صدر عام 1973م، وقد رحب باصرة بفكرة الترجمة وأبدى تشجيعه واستعداده، بعد استكمال ترجمته، لطباعته في مركز جامعة عدن للطباعة والنشر.
وفي إجازتي الشتوية فبراير 1994م سلمته النسخة المترجمة لكتاب (سقطرى..هناك حيث بُعثت العنقاء) جاهزة للنشر، ووعدني بطباعته ليتزامن صدور مع انعقاد الندوة الدولية العلمية الأولى حول جزيرة سقطرى (الحاضر والمستقبل) والمزمع انعقادها في رحاب الجامعة خلال الفترة من 24-28 مارس 1996م، كما طلب مني المشاركة فيها، وقد تمكنت من المشاركة فيها ببحثين، الأول بعنوان “سقطرى في صفحات التاريخ”. والثاني “الثقافة الروحية للسقطريين”. وخلال مشاركتي في الندوة، فوجئت بعدم صدور الكتاب، وعلمت من د.باصرة، وكان قد أصبح رئيساً للجامعة، أن النسخة الوحيدة للترجمة التي سلمتها له قد فُقدت بسبب الحرب والنهب الذي تعرضت له مرافق الجامعة وغيرها من مؤسسات الدولة في الجنوب بعد حرب صيف 94م..فتحسَّرت كثيراً لأنني لم احتاط بنسخة مصورة للاحتفاظ بها، لثقتي حينها أنها ستصدر بكتاب.. فما كان مني إلا أن شرعت فوراً بترجمة الكتاب مجدداً، وقبل تسليمه للطبع احتطت في هذه المرة بنسخة مصورة. وقد نُشر الكتاب لاحقاً عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر عام 1999م، وكنت حينها قد أصبحت عضواً في الهيئة التدريسية لكلية التربية -يافع التي افتتحها د.باصرة عام 1998م، وعُينت رئيسا لقسم الاجتماعيات (التاريخ والجغرافيا)، ثم نائباً لعميد الكلية للشئون الأكاديمية.
وتعززت علاقتنا، وكنا نلتقي في مكتبه أو في الفعاليات التي تقيمها الجامعة أو أثناء زياراته لكليتنا التي تدين له بتأسيسها في عهد رئاسته لجامعة عدن مع عدد من الكليات المماثلة في ردفان والضالع ولودر وطور الباحة. ودفع بكتابي الثاني المترجم عن الروسية “عادات وتقاليد حضرموت الغربية” للطبع، وصدر عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر عام 2002م.
وخلال ترجمتي لكتاب “السقطريون- دراسات إثنوغرافية-تاريخية”.لمؤلفه فيتالي ناؤمكين،
طلبت منه مساعدتي في السفر إلى سقطرى للتحقق من المسميات المحلية التي وردت كثيراً في فصول الكتاب بصيغتها الروسية، فوافق على الفور، فقد كان يجل البحث العلمي ويشجع ما له صلة بالبحث أو الترجمة لمثل هذه المؤلفات المفيده، وأعترف أن تشجيعه كان محفزاً لي لمواصلة تجربة التجربة التي أثمرت عن صدور تلك الأعمال الثلاثة.
لقد كان لجامعة عدن، التي ننتمي إليها، القسط الأكبر من النجاحات التي تحققت في عهد رئاسة باصرة لها، ولم يأتِ أحدٌ بمثلها حتى الآن..وهذا يسجل له، فهو ابن الجامعة تخرج منها في قسم التاريخ منتصف سبعينات القرن الماضي، ثم واصل دراسته العليا في ألمانيا وعاد إلى الجامعة ليتدرج في المسئوليات بدءاً من رئاسة قسم التاريخ في كلية التربية، ثم نائبا لرئيس الجامعة لشئون البحث العلمي، ثم رئيساً للجامعة في فترة عاصفة بعد حرب اجتياح الجنوب عام1994م ورغم انعكاساتها السلبية على مختلف المجالات، إلا أن باصرة تمكن بحصافته ورزانة فكره من الحفاظ على جامعة عدن وعدم جنوحها في غير وجهتها العلمية وجنبها ردات الفعل السياسية التي سمة لمن جاء خلفاً له. فلم يتدَنَّ أو يبتذل في المواقف السياسية والإدارية، وتعامل مع الأسرة الجامعية بشكل عام، ومع الجنوبيين الذي لم يتقبلوا الوضع بعد تلك الحرب المشئومة، وفقا للمعايير الأكاديمية بعيداً عن الانتقام الشخصي أو ردات الفعل الحمقاء التي يلجأ إليها البعض ممن يستقوون بمواقعهم القيادية.
ويُحسب لباصرة أنه وضع مصلحة الجامعة وتطويرها فوق أي اعتبار، وتمكن من توظيف ثقة الرئيس به في هذا الاتجاه بعيدا عن الثأر السياسي أو المصالح الشخصية أو المناطقية وهو ما جعلة شوكة ميزان في التعامل مع الجميع، وتمكن بعلاقاته ونشاطه وحضوره الفاعل من تحقيق نجاحات واضحة، حيث انتزع اعتمادات مالية للجامعة من ميزانة الدولة انتزاعاً، وشهدت جامعة عدن في عهده توسعاً غير مسبوق في منشآتها، سواء بتشييد مبانٍ حديث لبعض الكليات أو في تسوير أراضي وحرم الجامعة والكليات وأراضي الجمعية السكنية لمنتسبي الجامعة حتى لا يطالها النهب الذي استشرى حينها، وافتتاح العديد من الكليات الجديدة والمراكز المتخصصة والعناية الخاصة بالمكتبات وتزويدها بالكتب وبالوثائق المصورة في الداخل والخارج لكثير من المصادر والمراجع التاريخية ذات الصلة بتاريخنا الوطني والاهتمام بدار جامعة عدن وبالدوريات العلمية التي ازدهرت في عهده، ولم تعد تصدر الآن إلا في حالات نادرة وفترات متقطعة..
ونتذكر كيف كان الرئيس (عفاش) حينها يضرب به المثل في نقاوة يده من الفساد المستشري وفي دأبه على تحقيق النجاح من خلال توظيف الاعتمادات المالية في وجهتها الصحيحة، وكان أن تم نقله إلى رئاسة جامعة صنعاء، لعلها تلتمس بعض النجاحات على يده أسوة بجامعة عدن. ولأن النشاط سمة من سماته والنجاح عنوان له، فقد شهدت جامعة صنعاء هي الأخرى خلال سنوات تبوأه لرئاستها نجاحات متميزة مقارنة بمن سبقه، وهاكم شهادة واحد من أهلها هو أ.د.عبدالله أبوالغيث، الذي عدد أبرزها في مقاله:”ورحل الحضرمي النبيل الذي غزا صنعاء بإنجازاته) وأولها:استكمال تشجير الجامعة وتوسيع المساحات الخضراء، التي وجدها صحراء، ولم يرحل عن رئاسة الجامعة يتولى مهام وزير التعليم العالي إلا بعد أن أصبحت جنة بالفعل. وثانيها: توسيع المكتبات الجامعية وفي مقدمتها المكتبة المركزية ومكتبات الكليات، حيث خصص لها ميزانية كبيرة، ورفدها بأهم المصادر والمراجع التي كانت تفتقدها. فضلا عن موقفه الصارم والحازم من استعادة الكتب التي كانت قد نقلت من تلك المكتبات إلى بيوت بعض الأشخاص بمن فيهم العديد من أعضاء هيئة التدريس ومساعديهم في الجامعة، فقد تمكن من استعادة كل تلك الكتب أو خصم ثمنها مضاعفا ممن رفض إعادتها وتحجج بفقدانها.. وتلك خطوة لم تعرفها جامعة صنعاء لا من قبله ولا من بعده. وثالثها: تأسيسه لخمس دوريات علمية تتبع رئاسة الجامعة مباشرة، وتتولى مهام النشر العلمي إلى جانب الدوريات التي كانت تابعة لبعض كليات الجامعة، لكنها توقفت بعد رحيله عن الجامعة.المنجز الرابع: تمثل بالبوابات الأنيقة التي دعم إقامتها في جامعة صنعاء، حيث كان يردد بأن الجامعة يجب أن يتعرف عليها من يراها بمجرد رؤيته لسورها الخارجي، لذلك صممت تلك البوابات بشكل مميز..
ألم نقل أن باصرة عنوانٌ للنجاح أينما كان وفي أي موقع أو مسئولية تبوأها..ولعل الجميع يتذكر موقفه الشجاع وهو في منصب وزير التعليم العالي في فضح رموز الفساد ممن نهبوا أراضي الجنوب، حيث شكل تقرير (باصرة-هلال) ضربة لرموز نظام حرب 94م الذي حول الجنوب إلى ساحة نهب وفيد ، حتى أن التقرير وضع رئيس الجمهورية (عفاش) في موقف محرج لم يكن يتوقعه.
وبعد أن غادر باصرة منصبه الوزاري، عاد إلى عدن، ورفض كل العروض التي تلقاها بتبوء مناصب جديدة، واكتفى بتأسيس مركز الرشيد للتنوير والتدريب والدراسات الذي برز دوره في المشهد الثقافي العدني، خلال وقت قصير، ومثَّل ملتقى أسبوعياً للنخب الأكاديمية والثقافية لتداول الهم الثقافي والوطني. وأتذكر تشريفه لنا في حفل إشهار مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر، والشروع بعلاقة مشتركة بين مركزينا، حيث عقد لقاء تشاوري في 9يناير 2017م بين المركزين للاستفادة من تجربة وخبرة الاستاذ باصرة في الاعمال والنشاطات التي تخدم توثيق وتدوين ونشر تاريخ عدن وبقية المحافظات، وما زالت ترن في مسامعنا توجيهاته القيمة التي ضمنها كثيراً من الأفكار العملية لضمان النجاح انطلاقا من تجاربه كمؤرخ وكرئيس سابق لجامعة عدن ووزير سابق للتعليم العالي وأخيراً نشاطه المتقد في مركز الرشيد الذي حوله إلى منارة إشعاع علمي وثقافي وفتح مكتبته الثرية للباحثين والمهتمين.
رحم الله الفقيد المؤرخ والأكاديمي ورجل الدولة والإنسان صالح علي باصرة..الذي ترك بصمات وشواهد تذكرنا به وتجعله في الخالدين.
الصور بعدستي في حفل افتتاح كلية التربية يافع عام 1998م