fbpx
قراءة في ديوان مُنَمْنَمات حضرموت للشاعر الدكتور جنيد محمد الجنيد
شارك الخبر

كتب – أمين الميسري
لايختلف اثنان على أن الشاعر جنيد محمد  الجنيد يمثّل حالةً شعريةً استثنائيةً كبيرة بين مجايليه. فهو الشاعر- بين جيله- الّذي قدّم نموذجاً التزامياً للقصيدة الحديثة – في عدن( جنوب اليمن) – بكل معنى الالتزام. وهو الشاعر الّذي يحمل نَفسَاً طويلا،وبعداً عميقاً – كما نرى في قصيدته الطّويلة( تأوّهات للأمير السبئي) التي أصدرها في كتاب خاص. وهي مرثاة قيلت في المناضل الكبير عمر الجاوي.إن الشاعر جنيد – كما يحلو لمؤرّخي الأدب- من شعراء السبعينيات.لكن في الحقيقة- كما أزعم – أنّه شاعر ستيني،أي أنه يكتب بنفس قصيدة الستينيات،أقصد القصيدة التي كان لها بريقها ووهجها ومنهجيتها الالتزامية( من لغة وصورومعجم وتفعيلات مضبوطة،أي دون كسر عروضي، وغموض جميل ،وانسيابية وعفوية……….الخ.أمّا إذا قلّنا أنّه شاعر من جيل السبعينيات، فقد تجاوز هذا الجيل، وكان شاعرها الأوحد دون منازع على مستوى اليمن،كما أنّ له حضوراً كبيراً على مستوى الوطن العربي.ولد الشاعر في مدينة تريم، حضرموت سنة1955م.عضو اتحاد الأدباء والكتّاب العرب.عضو اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا.رئيس اتحاد وكتّاب الجنوب ،عدن.شارك في مؤتمرات وندوات ومهرجانات شعرية عربية وعالميّة.ترجم شعره إلى عدّة لغات منها: الانجليزية،الفرنسية، الألمانية،الايطالية، الأسبانية، الروسية، البلغارية، التركيّة.محاضر بقسم الرياضيات كلية التربية/عدن، جامعة عدن.دكتوراه في التربية: مناهج وطرائق تدريس الرياضيات – جامعة صوفيا – بلغاريا-1991م.صدر للشاعر الأعمال التالية:إكليل لامرأة قتبانية،دار الهمداني، عدن1984مأعراس الجذور 2000م.حوارية طائر الرماد2003م.تأوّهات للأمير السبئي،إصدار جامعة عدن2003م.منمنمات حضرموت 2013م.دمّون تبكي امرأ القيس (معد للطبع).حفيد الرعاة القدامى(معد للطبع).(راجع النبذة على غلاف الديوان).يضم ديوان(منمنمات حضرموت) تسع عشرة قصيدة، وزّعها الشاعر بعناية فائقة، كأنّها عقد فريد من اللؤلؤ والمرجان.هذا التوزيع مقصود عند الشاعر له أبعاده الدلالية،فهو يشكّل دلالة زمانية وحضارية . فالشاعر قسّم الديوان إلى أربعة أقسام: كل قسم يحتوي على عنوان رئيسي يضم مجموعة من القصائد على النحو التالي:القسم الأول جاء تحت عنوان( وَشْم المدن) ويضم القصائد التالية: المكلا /سيئون / الشِّحر / شبام/ دُوعَن /عِيْنَات.القسم الثاني جاء تحت عنوان(عبق المهد) ويضم القصائد التالية:ابتهالات المنازل الأولى/ نخلة الروح/ مهد البهاء/ المحضار.. مئذنة الأبد / ياورد.القسم الثالث جاء تحت عنوان(على الحصون أقتفي طللاً) ويضم القصائد التالية: الغُوَيْزي/ الرناد / ترصيع على رايتين/ همزة قَنَا.القسم الرابع جاء تحت عنوان( تجلّيات حضرميّة) ويضم القصائد التالية: حضرموت/ مدونات الحضرمي في هجرته شرقاَ/ القنيص/ توقيع حضرمي.يفتتح الشاعر ديوانه بقصيدة المكلاّ..المكلا عند الشاعر مدينته..عشقه الأبدي والأزلي. فهو يرسم مشاهد سينمائية بارعة، وصوراً متحركةً متعدّدة اللقطات والأبعاد. المشهد الأول: صور وصفية لمدينة المكلا، جماليتها وسحرها الخلاّب. فالشاعر يتساءل من أين الدخول إليها؟للمكلاّ حديثٌ مليءٌ بإغرائهاوالهوى باسطٌ لي جناحيهمن أين أدخل؟من جهة البحر..حيثُ سفائنُ عشقي ترسوعلى مرفأ السحر..يبهرني زهرُها اللؤلؤيُّالذي يتقطّر من واجهات البيوت..أدرّبُ نفسي كطيرٍ..أمرّ على الشرفاتِ..وألقي السلامَ..وأنقشُ حلميَ فوق الستائرِ عشقاًأبلّلُ قلبي..بما سكبتْه الجميلةُ في المزهرية عند الصّباحَوألتفُّ بين شعاع العيونالّتي وشْوشتْني بشيءفي المشهد الثاني: لقطة توضيحيّة مقرّبة،يؤكّد فيها الشاعر خصوصية ومكانة هذه المدينة،لايمرّ بها غير مَنْ عشقها ومَنْ أحبها.الشاعر هنا يتنفّس بطيب عطرها،وورودها:للمكلا دروبٌ خصوصيةٌلايمر بها غير عشاقهاوأنا في زقاق الهوى سائرٌأتنفّسُ بالطيب من كل فاتنةٍوردةٌ رشقتني بها..أدخلتني إلى غزل الخور..قلبي على الجسر..يسألُ.. كيف تقيسُ المياهُ حداثتهابالمعاني الرقيقة في الشكل..كيف نُطبّعُ أحلامنا البشرية..من قبلةٍ هيّأتنا مواعيد..في غزل الخورقلبي على الجسرعلّق قنديلهليضيء الكلام الذي يتحلّقُ حوليوأقتبسُ الكلمات التي تتوهّج من شاعرٍ..كي أقدّمها للنساء اللواتينقشنَ على الماء حنّاءهُنوسرن مع الماء زغردةًمن تهيىء وثبتها الآن؟وفي قصيدة(سيئون) منمنمة أخرى من منمنمات حضرموت، درّة فريدة لمدينة عريقة موغلة في التاريخ:على رجع طيفوقفتُوصاح بي القلبُ:هذي منازل أهل الهوىومقام الصبابة والوجد..هذي سفوح التي في مدارجهاتنبتُ الأغنيات بما يملأ الوتر المترنّمفوق مدارات فاتنة الروح ..سيئون.. سيئونهل أحدٌ قبل سمّى النساء بسيئون..هل أحدٌ قبل أعطى لها لقباً عالياً؟ترتديه، يليق بهاونقول لها:أنتِ سلطانةٌ لجميع النساء.وفي قصيدة (شبام) يقف التاريخ شامخاً لأقدم ناطحات سحاب في العالم:في مدائن دنيا العجائب..تعلنُ:إن المدائن منذ القديم شباموتدخل في ملكوت التراثوتشتمّ في عبق الطينإيوان صورتهاهنا الطين يستنطق الطينمن عبروا قبلُمن يعبرون هنا بعدُإن السماء يشكلها الحضرميّسماءٌ جديدة.وفي قصيدة(ابتهالات المنازل الأولى) معلّقة عصماء تتوسط عقد المنمنمات، وهي قصيدة عمودية على بحر البسيط. القصيدة تذكّرنا بمجد الشعر العربي الغابر. عدد أبياتها أربع وثمانون بيتاً، قالها الشاعر في مدينة تريم التاريخية، وهي مسقط رأس الشاعر:
غنّاءُ جئتك محمولا على زمنٍولوعة الوجد والأشواق تُضنينايشدني العمر.. هذا العشق خارطتيحملته حُلُماً يشدو أغانيناالقيتُ نفسي حنيناً في عواطفهامن أين أعبر كي أُلقي مراسينافي البال أشرعةٌ مدّتْ تذكّرهاوأبحرتُ في اتجاهٍ ظل يغريناوجّهتُ وجهي سلاماً(حُوطتنا)هنا الخشوع تحيّات المحبيناهنا منازلُ أجدادي الألى سكنوابهم تباهت على الدنيا مغانينا.
القصيدة تحفة الشاعر جنيد محمد الجنيد، وهي بحاجة إلى دراسة مستقلة، أرجو أن تتاح لي فرصة لدراستها مستقبلاً.وقصيدة(حضرموت) تبلغ قمّة الذروة عند الشاعر جنيد محمد الجنيد،فإذا كانت قصيدة (ابتهالات المنازل الأولى) جوهرة العقد في المنمنمات؛فإنّ قصيدة( حضرموت) قلبها النابض،وهي بحاجة- أيضاً- إلى دراسة مستقلة.قصيدة( حضرموت) هي التاريخ،والحضارة،والجغرافية، والمعالم الأثرية،الفنون، والجذور،والأخلاق . إنها منمنمة لتاريخها الذي لاينضب أبدا:القصيدة جاءت على تفعيلة الكامل:(متفاعلن):أمشي على الدرج المرصع باللغاتوما تقول مشاغل الفصحىأقصّ تحيّتيلمنمنمات القلبوالمعنى المخبّأ في ندى الصلصالوالجبال المزخرف بالصدىأمشي فتنفتحُ الحقول على رعاةٍسوّروا أجسادهم بالوشموارتسموا على طلل العصورعادٌ هنا عبرتفقف كي نطرق الزمن الذيبُنيت على أبعاده ذات العماد،أبراجها نضبت من التصفيق، غطّى الريحُ أيقوناتها، ظلّت تفتّشُفي ثقوب رمالهاعن جنةٍ طمست على مفتاحهاهل بئر برهوت العتيقةتستدلّ على انبثاق السرّفي من جاب في صحرائهاهل هندستها النار وامتزجتبقاياهم على كبريتهاعادٌ هنا عبرتوهودٌ قبره العملاقترجم مامضىمرّ السديم على خطى أطرافهوحكى عن الأحقافوالصفة القديمة والرياحوشارة العرب الأوائلوالجهات البائدة..كم صيغة عبرت هنالنطل من أفقٍ ويفهمنا الكلام الأوّليكم صيغة عبرتترتّب طيفنا المسكوب بين سلالمالماضي وحاضرنا البعيدكم صخرة فاض الحنين بجوفهافتفجّرت فينانرتّلُ ماءهااسماً تألق في النبوءة:حضرموت.
في القصيدة أربع حركات،أومقطوعات، في كل مقطوعة تأتي لازمة حضرموت.أما عن البنية العروضية في الديوان، فالحقيقة أن الدكتور الشاعر جنيد محمد الجنيد من أبرز شعراء الالتزام- كما قلت سابقاً- والمجدّدين في البنية العروضية. فعلى سبيل المثال استخدام الشاعر لتفعيلتين في البحر الواحد، خاصة عندما تصاب التفعيلة الأولى بالخزم ، وهو عند العروضيين( زيادة حرف في أول الجزء أو حرفين أو حروف من حروف المعاني).ففي قصيدة(المكلاّ) الشاعر بناها عروضياً على تفعيلة المتدارك(فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن ) خمس تفعيلات في السطر الأول:للمكلا حديثٌ مليءٌ بإغرائهاالسطر الثاني مدوّرعلى أربع تفعيلاتوالهوى باسطٌ لي جناحيه..فاعلن فاعلن فاعلن فاعالحقيقة أن القصيدة كلها على بحر المتدارك. لكن إذا أردناها على بحر المتقارب(فعولن)ستكون القصيدة على النحو التالي: أي من بداية السطر الأوّل حتى نهاية القصيدة:للمكلا حديثٌ مليءٌ بإغرائها_/ ب–/ب–/ب–/ب–/ب-فع/ فعولن/فعولن فعولن فعولن/فعوالتفعيلة الأولى(فع) مصابة بعلة الخزم،وهو زيادة حرف كما قلتُ سابقاً. فالقصيدة كلها تعطينا تفعيلة المتقارب، ولاننسى أنها مدوّرها. هذه النوعية استخدمها الشاعر الجنيد في قصائد أخرى كنتُ قد قرأتها من قبل.لقد جاءت قصائد الديوان على البحور التالية:المكلا= المتدارك والمتقاربسيئون= المتقاربالشحر= الكاملشبام= المتقاربدوعن= المتقاربعينات= المتقاربابتهالات المنازل الأولى = البسيطنخلة الروح= المتقاربمهد البهاء=الكاملالمحضار مئذنة الأبد=المتقاربياورد= المتقاربالغويزي= المتقاربالرناد=الرملترصيع على رايتين=المتداركهمزة قنا= المتداركحضرموت= الكاملمدونات الحضرمي في هجرته شرقا= الكامل القنيص= المتقاربتوقيع حضرمي= المتقارب.واضح جداً أن الشاعر استخدم خمسة بحور من بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي:استخدم المتقارب 10مراتاستخدم الكامل4مراتاستخدم المتدارك3مراتاستخدم البسيط مرة واحدةاستخدم الرمل مرة واحدة.القصيدة الشعرية عند الشاعر جنيد محمد الجنيد-كما اسلفت- قصيدة الالتزام ، والنموذج الشعري، هو بمنزلة رؤيا الشاعر.. الشاعر الذي يجسّد رؤىً متعددة، فالشاعر المبدع هو الذي يخرج لآلىء متنوعة من أعماق أعماق الوجدان،، فالشعر الذي يهزّ المشاعر، ويطرب الوجدان، ويحلّق في فضاء عال،هو أنموذج القصيدة الحالمة التي تعتز وتعتدّ في نفسها.إذن الجنيد حالة شعرية جنوبية لاتتكرر، يهندس الشعر وفق مفهوم ميتافيزيقي. إنه يفتح لغة جديدة، ولكنّها ترتكز على إرث وجذر يسكناه منذ أن وطأت قدماه أرض الشعر.. القصيدة عنده جمالية لها أبعاد سياسية ووطنية،ورثائية. الهم الأكبر عند الشاعر الجنيد هم الوطن، وهي القصيدة الأولى في أكثر أعماله الشعرية.أما عن اللغة، فإنها هي الأخرى لغة منتقاة من تفاصيل الحياة اليومية، ولكنّها لغة راقية هي الأخرى، تقدّم نموذجاً التزامياً، بعيداً عن الحوشي، والتّقعر.
أمين الميسري5نوفمبر2020م

أخبار ذات صله