fbpx
عندما يتشابه البقر*

مناقشة مع الدكتور محمد صالح المسفر

د. عيدروس نصر

من الأمور المؤسفة أن يجد المرء نفسَهُ مضطراً للمرة الثانية وخلال أقل من شهرين إلى تفنيد أقوال وتلفُّظات صادرة عن شخصية أكاديمية كان الكثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، يرون فيها صورة للباحث العلمي المعتمد منهاجية التقصي والتحليل والمقارنة وفحص المقدمات للوصول إلى النتائج  واستخدام مفردات البرهان والإيضاح والنقد الهادف، كقامة علمية مترفعة في خطابها، دقيقة في مفرداتها، متحررة من النوازع والانفعالات، متجردة من إصدار الأحكام المسبقة، رصينة في استخدام المفردات، مبتعدة عن لغة الشتم وقواميس الجاهلين والمتجاهلين.

من أعنيه هنا هو الصديق الأكاديمي القطري الدكتور محمد صالح المسفر الذي كتب منذ يومين مقالة في جريدة “الشرق” القطرية بعنوان “تشابه علينا البقر في اليمن فأصبحنا في حيرة” تناول فيه الكثير من المشاكل المتعلقة بالوضع المعقد والملتبس في اليمن، وخص الجنوب والقضية الجنوبية والمجلس الانتقالي الجنوبي بنصيب الأسد من مقذوفاته، وجاءت مقالته مكتظة بالسطحية مستعجلة في طريقة التناول وعشوائية على طريقة المبتدئين في التعامل مع منشورات خدمة التواصل الاجتماعي “فيسبوك” الذين يسميهم اليمنيون بـ”المفسبكين”.

لست مستاءً من أن يصدر عن الدكتور المسفر أو من سواه موقفٌ مخالفٌ لما أراه إزاء القضايا التي توقف عندها أو سواها من القضايا،  فتلك طبيعة الأشياء وهذا حق التميز والاختلاف في الرأي والموقف، لكن ما آسف له هو أن يصدر الرجل أحكاماً جزافيةً عشوائية وأن يسوِّق الاتهامات على عواهنها بدون أي براهين أو قرائن مقنعة عما يقوله سوى مجموعة من الشتائم والسباب ومفردات القذف التي يلجأ إليها الأيديولوجيون المتعصبون عندما يفشلون في مواجهة الحقائق الناصعة.

يصرُّ الدكتور المسفر على أن قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي تستمد مشروعها من المشروع الصهيوني، “هكذا مرةً واحدة”  من خلال المشابهة الغريبة والمجحفة بين مشروع الإدارة الذاتية التي أعلن عنها المجلس الانتقالي الجنوبي والمشروع الصهيوني في قصة روابط المدن المعروفة في التاريخ الصهيوني مختتما حديثه “عجين سياسي والخباز صهيوني اسرائيلي يعيش في عاصمة خليجيية”، وتلك في الحقيقة مقارنة ظالمة وجائرة ومستفزة وبلا معنى لأنها ببساطة لا تقدم أي وجه للشبه بين المشبَّه والمشبَّه به ولا تقوم إلا على مجرد غضب الكاتب وسخطه على طرفي المشابهة.

ويحاول الدكتور محمد التأكيد أن قادة المجلس الانتقالي الجنوبي “يبيعون وطنهم بحفنة دولارات” وأنهم “عبدة الدولار” و”خدماً لمصلحة آخرين” وهي أقاويل وتلفُّظات لا تستحق المناقشة لأنها من قاموس “المفسبكين” وتجار الكلام، لكن ما يمكن قوله في هذا المقام هو إن المشكلة لدى بعض إخوتنا الأكاديميين والمثقفين في بعض الدول الخليجية (وهم قلّة قليلة لحسن الحظ) ومنهم أخونا الكريم د. محمد المسفر، تكمن في أنهم ينظرون إلى بقية المثقفين والسياسيين العرب من أبناء البلدان غير الغنية على إنهم لا يكتبون ولا يعبرون عن آرائهم ومواقفهم السياسية إلا طمعا في المال الذي من الله به على أشقائنا الخليجيين، وإنهم يفعلون ما يفعلون تبعا لرغبات صاحب المال أو الجاه المقصود، ولإن كان أمثال هؤلاء موجودين (وهم أيضاً قلة قليلة لحسن الحظّ) فإنهم ينشطون حتى في البلدان الغنية، إلَّا إن من يتناولهم د المسفر في منشوره لم يكونوا قط من هذه الطينة ولن يكونوا، فالشعب الجنوبي الذي يقودونه ويعبرون عنه له قضية عمرها أكثر من ثلاثة عقود، قدم من أجلها آلاف الشهداء وهؤلاء القادة الذين يتهمهم دكتورنا العزيز بالصهيونية وبيع الوطن وخدمة الآخرين، إنما جاءوا إما من ميادين النضال السلمي عندما كانوا يواجهون الرصاص بصدورهم العارية، أو من متارس مواجهة المشروع الفارسي والجماعات الإرهابية في مختلف محافظات الجنوب التي كان يمكن أن يكونوا فيها شهداء مثل الكثير من رفاقهم، ولم يأتوا من صوالين الاستعراضات الحزبية وفيترينات الزينة السياسية كما يتصور أخونا الكريم.

 أما قوله بأن قادة المجلس الانتقالي الجنوبي لفظتهم أحزابهم أو من الفاشلين عند توليهم مهمات في إطار الحكومة الشرعية، فهو كلام لا إثبات له من الناحية العملية ولا دليل عليه من الناحية العلمية، لأن الدكتور العزيز لم يقل لنا ما هي معايير النجاح والفشل التي اعتمدها في إصدار هذا الحكم المرتجل بلا دليل أو برهان.

فعلى افتراض أن هؤلاء فشلوا في عملهم عندما كانوا محافظين أو وزراء في الحكومة الشرعية (وهو ما لم يحصل أبداً) فإن السؤال هو: هل فشلوا كأفراد وهل كان بقية زملائهم من الوزراء والمحافظين وحتى من رئاسة الوزراء ومؤسسة رئاسة الجمهورية اليمنية أكثر نجاحاً منهم؟ أم إن الفشل كان وما يزال سمة دائمة لمؤسسة السلطة (الشرعية) التي كانوا يعملون فيها وخرجوا منها طوعاً، وبالمناسبة فإن كل القرائن تقول أن المحافظات والوزارات التي خدم فيها هؤلاء في ظل أصعب الظروف وأشدها تعقيداً ليست اليوم أفضل حالاً مما كانت عليه عندما كانوا يخدمون فيها بعد أن استلموها وهي كتلٌ من الخراب والدمار، ولعلم دكتورنا العزيز مرةً أخرى لا أحد من هؤلاء الزملاء طُرِدَ من حزبه أو اتُّخذ بحقه إجراء عقابي لا من قبل الأحزاب ولا من قبل الحكومة، لكنهم غادروا وظائفهم برغباتهم وتخلَّى البعض منهم عن مواقعهم الحزبية تعفُّفاً وزُهداً وانحيازاً لخيارات شعبهم وتضحيةً بجميع الامتيازات والمغريات الوظيفية التي يتهافت عليها الآخرون تهافتاً.

وأختتم بملاحظات ثلاث للصديق العزيز د. المسفر:

·                    إن الإصرار على أن القضية الجنوبية ومن ثم المجلس الانتقالي الجنوبي صناعة إماراتية ليس جديداً وللأسف هو تكرار ببغاوي لهذيانات بدأت قديما عندما كان أعداء الجنوب من غزاة 1994م يقولون إن  الثورة الجنوبية تدعمها إيران، لكن أصحابها تخلوا عنها عندما برهن الجنوبيون أنهم الوحيدون الذين هزموا المشروع الإيراني في اليمن، وإذا ما كان هناك نشطاء وسياسيون إماراتيون وسعوديون يدعمون حق الشعب الجنوبي في تقرير مصيره فإننا سنسجل لهم هذا ديناً في أعناق جيلنا والأجيال اللاحقة ولا نخجل منه أو نتنكر له، بل إننا ندعو كل دول العالم وفي مقدمتها أشقاءنا في دول الخليج العربية أن تحذو حذو هؤلاء، لكن ليعلم من لم يعلم بعد أن  حبنا واحترامنا وتقديرنا لدولة الإمارات ومعها المملكة العربية السعودية الشقيقتين هو لمواقفهما ودعمهما لنضالنا ومساندتهما لنا في دحر العدوان على شعبنا وأرضنا في العام 2015م وما بعد، وليس لأي سبب آخر، أما مطلب الجنوبيين بحقهم التاريخي في استعادة دولتهم وتقرير مصيرهم، فقد أعلنوه على رؤوس الأشهاد عندما كان الكل ما يزال يعتبر اجتياح الجنوب وتدمير دولته وإباحة قتل نسائه وأطفاله  من قبل عصابات 7/7 واجباً دينياً ومطلباً قومياً ومشروعاً إسلامياً.

·                    عندما قال بنو إسرائيل لنبي الله موسى “ادْعُ لنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ” إنما كانوا يطلبو منه أن يوصف لهم بدقة نوع وشكل ولون البقرة التي طلب الله منهم أن يذبحوها وعندما استجلوا الحقيقة “قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ” وهكذا فقد فعلوا ما أمرهم الله به دون أن يحتاجوا لشهادات أكاديمية ودون أن يكونوا أساتذة جامعيين، ولم ينوحوا ولم يتباكوا ولم يلعنوا سواهم كما يفعل صديقنا العزيز د. المسفر.

·                    وأخيراً يحرص الدكتور المسفر على أن لا يذكُرَ المجلس الانتقالي الجنوبي إلا ويضيف له صفة “الانفصالي” معتقداً أنه بهذا يوجه للمجلس  شتيمةً من الشتائم المعتادة، ولا يعلم أنه بذلك إنما يبعث رسالة طمأنةٍ للجنوبيين فحواها أن من يقودكم هو كيانٌ وفيٌ لتطلعاتكم مواكبٌ لآمالكم ولا يقف على الضد من مطالبكم المشروعة، وأظنه (أي د. المسفر) يجهل أن مفردة “انفصالي” هي عنصر مفاخرة عند الجنوبيين وأن عكسها هو الشتيمة، لأن هذا العكس قد  اقترن بكل سلوك منحرف وكل صفةٍ من صفات السلب والنهب والعجرفة والغرور واللصوصية والإجرام والإرهاب والتزييف والادعاء الباطل، حتى صار من كانوا ذات يوم “وحدويين حقيقيين” بالمعنى السامي للكلمة يخجلون عندما ينعتهم أحدٌ بالوحدوية، فشكرا للدكتور العزيز لهذا الحرص وهذا الإصرار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*   من صفحة الكاتب على فيس بوك