fbpx
في الذكرى الثانية عشرة لرحيله .. الشيخ العصامي عمر قاسم العيسائي(1919-2008م) … (3)
شارك الخبر

كتب – د. علي صالح الخلاقي
عوامل نجاحه
«مغامر جسور، وذكاء متوقد» يضاف إليهما «الكثير من الحظ».. شيخ الصفقات الناجحة والرائد في الأعمال التجارية والعقارية، والأهم من ذلك أنه مجموعة من الصفات التي يجمع أصدقاء رجل الأعمال عمر قاسم العيسائي على أنها المعطيات الأساسية التي أسهمت في نجاحه. فقد كان ذكياً، وحَسِن الحظ، إلى جانب كونه عصامياً بدأ من الصفر، وكان النجاح حافزه الأكبر أكثر من هدف تكوين ثروة كبرى وهو ما يدل عليه جوابه لأحد الصحافيين السعودين حين سأله عن حجم ثروته الفعلية فأجابه بعد تفكير وبابتسامة هادئة قائلاً:” لا أدري على وجه الدقّة”.
اتسم بصدق تعامله وحسن نواياه, واختار من فيهم الذكاء وكسب احترام وثقة الكثير, ولم يكن أنانيا مع كل من تعامل معه, وكان نجاحه التجاري وبصيرته الثاقبة في مجال الاستثمارات حافزاً قوياً للعديد من رجال الأعمال والتجار والصناعيين الذين دخلوا معه في شراكات ناجحة غالباً، وباعثاً لشركات أخرى عالمية ناجحة قررت أن تمنحه صفة الوكيل والممثل في السوق السعودي من أقصى شرق اليابان إلى أميركا وأوروبا. ووجد في ولاة الأمر افتخارهم بمن له طموح وتوجه اقتصادي ينال منه الوطن خيراً وشجعه ذلك على البحث عن المهارات وأحب الخير للوطن وللناس أجمعين. ولأنه كان نموذجاً للصدق والوفاء وحب الخير وشرف الكلمة في كل معاملاته التي كان يعامل فيها الله قبل الناس، فقد رزقه الله من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب. وأن شاء الله فأن صالح أعماله ستبقى في عقبه، طالما أدركوا سر نجاحه وساروا على منواله.
حبه للخير والبِّر والإحسان
اقترن اسم الشيخ عمر قاسم العيسائي بالبر والإحسان والعطاء السخي النابع من أصالته وحبه للخير، لذلك نراه أمامنا حاضراً متألقاً في كل موضع ومكان ترك فيه أثراً يخلده.. إنه نهر عطاءٍ دافق ينهل من منبعه الفقير والمحتاج واليتيم والأرملة، وسيظل هذا النبع في سيرة أبناءه من بعده، الذين لن يكونون إلا خير خلف لخير سلف.
ترك الشيخ عمر سجلا ناصعاً في صفحات عمل الخير وتميز بأياديه البيضاء وعطائه المنقطع النظير وكرمه الواسع فقد ظل بيته مفتوحاً لجميع من يؤمّه  ففي ديوانه تجد رجل الدين والعالم والبسيط والكبير والصغير, وكان حنانه دائماً على أقاربه وأصدقائه, ومشهود له بمساعدة الفقراء والمحتاجين. وكان يفتح صدره للناس ويستمع لهمومهم، وحينما يعرف عن حالات تحتاج للمساعدة يقدم لها المساعدات حتى دون أن يصل إليه أصحابها.
كان ذلك ديدنه منذ بداياته في عدن,  ففي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، كان يقيم موائد الخير للفقراء القادمين من التهائم والجبال كأنما هي موائد المن والسلوى، وكان المحتاجون يذهبون إليها زرافات ووحدانا من مسجد الشيخ عبدالله إلى مستقر الشيخ عمر على بعد أمتار قليلة منه وينتظرون «حق الله»، وكان حقاً مضموناً مصانا لا سؤال فيه ولا جواب .
ومن صور تواضعه  وحبه للخير أنه لم ينسَ الفقراء والمحتاجين بعد إن مَنّ الله عليه من فضله وتنامت ثرواته وأملاكه, حتى أنه فضّل البقاء في منزله الأثير إلى نفسه في أحد الأحياء الشعبية الفقيرة بجدة الأم الحنون ورفض الانتقال إلى قصر آخر أكثر أناقة رغم امتلاكه للكثير من البيوت والعقارات في شمال جدة ومناطقها الأكثر فخامة. ولسبب ظل يعلنه لكل من يسأله قائلا «أفضل أن أبقى في المكان الذي سكنته وعرفت أناسه، وأن أكون بجوار الفقراء والمساكين لأحس بهم وبمعاناتهم»( ). ومثل هذه القناعات لا تنبع إلا من وجدان رجل أعمال آمن بأن الحياة رسالة وأمانة في عنقه.
إنَّه وبحق رجل الخير والبر والإحسان, فقد أسس إدارات متخصصة بأعمال الخير، اتجهت بنشاطاتها الخيرية إلى تلك المجالات التي يمكن من خلالها  معالجة مشكلة الفقر بشكل جذري، بحيث يتمكن الفقير من الحصول على عمل يعيل أسرته، ويرفع كرامته، ويكسب منه المال (بعرق الجبين), دون حاجة للاستجداء أو الاعتماد على الغير. واشتهر بمبادراته الخيرية العديدة التي أثمرت بناء المستشفيات والمدارس والمساجد..الخ.
وفي مجال التعليم، أنفق وبسخاء على تعليم مئات الطلاب المتفوقين في الخارج لنيل شهادة البكالوريوس أو الماجستير, منطلقاً من إدراكه لقيمة التعليم في بناء الإنسان والأوطان، وحينما استضاف الطلاب الدارسين على  نفـقـتــه فـي لـنـدن, كان من ضمن ما قاله بالمختصر المفيد:” يا  أولادي  تعلموا  فـفـي العلــم منجاة وخيراً كبيراً لكم ولأولادكم من بعدكم, وإذا كان أحدنا قد نجح بلا علم فما ذلك إلاَّ صدفة, لهذا لا تخيــبوا ظننا فيكم, تعلموا واجتهدوا لتحقـقـوا النجاح في حياتكم”( )0
 وفي هذا السياق نذكر بكل تقدير واعتزاز صنيعه الطيب وبصماته الجلية في تأسيس وتجهيز كلية التربية يافع عام 1998م, وهو الصرح الجامعي الذي نقل التعليم الجامعي إلى يافع لأول مرة وأتاح الفرصة لمئات من طلبتنا وطالباتنا الحصول على تعليميهم الجامعي بجانب بيوتهم وبالقرب من أهلهم, وفضلا عن ذلك تكفله بتقديم إعانة مالية للطلاب شهريا ولا زالت مستمرة تساعدهم على مواجهة أعباء الدراسة الجامعية, وتفيض قلوبهم  بالدعاء له, وقد تخرج من الكلية مئات الطلاب والطالبات, ومنهم من يعمل في حقل التعليم في المدارس المختلفة ومنهم المعيدين والمدرسين في كلية التربية يافع.
بالنسبة لنا في هيئة تدريس كلية التربية – يافع, لن ننسى أن تأسيس هذا المنبر الأكاديمي الرفيع قد ارتبط باسم هذا الشيخ الفاضل, الذي لولا دعمه السخي لظل حلماً صعب المنال. ولا زلنا نتذكر تلك الأريحية التي تفاعل بها مع اللجنة المشكلة حينها لمتابعة تأسيس الكلية والتي كُلفت حينها للتواصل مع كبار رجال الأعمال من أبناء المنطقة في الداخل والخارج. ولا زالت كلماته ترن في وجدان أعضاء اللجنة حين تم الاتصال تلفونياً به شخصياً لمعرفة مدى استعداده لدعم هذه الفكرة وحجم وطبيعة الدعم الذي سيقدمه,  فجاء رد الشيخ عمر قاطعاً, حينما قال عبر الهاتف: “أن تأسيس منبر جامعي في يافع هو الحلم الذي أحلمه دائماً وأنا على استعداد لدعم إنشاء مثل هذا الصرح العلمي من الريال إلى المليار”. وهو ما كان فعلاً, فقد تحمل لوحده كامل التكاليف التي شملتها الدراسة الخاصة لإنشاء الكلية والتي بلغت حينها 72 مليون ريال, بما يعادل اثنين مليون سعودي حينها . وبدلاً من أن تتواصل اللجنة مع رجال الأعمال الآخرين, شكرتهم على تجاوبهم وأبلغتهم بأن الشيخ عمر قد أخذ على عاتقه مهمة تقديم كامل التكاليف المطلوبة. وعلى الفور سارعت اللجنة لتحقيق حلم الشيخ وحلم كل أبناء المنطقة على أرض الواقع وبتعاون لا يُنسى من قبل رئيس جامعة عدن حينها الدكتور صالح علي باصرة وزير التعليم العالي آنذاك, ومدير عام مديرية لبعوس – يافع حينها صالح عبادي عبدالكريم, ولكم هي الكلمات والأشعار التي قيلت عند الافتتاح, وستظل تقال بعد الرحيل, لأن صنيعه ذلك لا يُنسى, بل يظل متجدداً ما بقي هذا المنبر الجامعي مصنعاً لتخريج الأجيال المتسلحة بالعلم والمعرفة, وعرفاناً بإسهاماته تلك  فإن القاعة الرئيسية في كلية التربية يافع تحمل اسم الشيخ عمر قاسم العيسائي( ).
ولكم هي أفضال هذا الشيخ كبيرة, ليس فقط في تشييد هذا الصرح العلمي الذي جعل إمكانية مواصلة التعليم الجامعي متاحة لمئات من الطلاب الذين لم يكن بمقدور أسرهم جميعاً تحمل أعباء الانتقال للدراسة الجامعية في المدن, بل وفي دعمه المستمر لطلاب الكلية بمبالغ شهرية تساعدهم على مواجهة أعباء الدراسة الجامعية. ويمتد دعمه إلى بناء وترميم عدد من المدارس, كما يدعم عدداً ليس بالقليل من الجمعيات الخيرية في منطقة يافع وغيرها من مناطق اليمن.
 وفي المجال الصحي تكفل الشيخ عمر قاسم العيسائي بعلاج عدد كبير من المرضى الحاصلين على تقارير رسمية أو ممن قصدوه مباشره دون سابق معرفة وبدون وسيط, كما بني المستشفيات والمدارس والمساجد والأوقاف, ولم يسبق إن دخل عليه صاحب حاجة إلا وكانت مقضية, وظل بيته مفتوحاً دائما لكل سائل ومحروم فكان من دخل عنده خرج مبتسما فرحا ثلج الصدر, فكان إن أعطى أكرم وزاد ولم ينقص, وكرس حياته ليكون اليد التي تعطي قبل أن تُسأل وبعد أن تعطي لا تذكر مَنْ وكم أعطت، وظل سنداً لكل محتاج.
فكم من الفقراء والجياع الذين أطعمهم والصائمين الذين أفطرهم والعراة الذين ألبسهم ومن برد الشتاء أدفأهم، والمرضى الذين تكفل بنفقات علاجهم والطلبة الذين ضمن لهم دراستهم على نفقته الخاصة والشباب الذين دفع نفقات استكمال نصف دينهم والسجناء والمعسرين الذين دفع دَيْنَهم والحجاج العاجزين لاستكمال ركن من أركان دينهم والعطشان الذي ساعده في حفر بئر الماء فأروى عطشه والعجزة الذين وفر دوراً سكنية لإيوائهم وعابري السبيل الذين سهل ومهد طريقهم والمصلين في بيوت الله التي عمرها ابتغاء مرضاة الله وطاعته وكم من كتاب الله الذي طبعه على نفقته الخاصة, وكم هم أولئك الذين مدد لهم يد العون عبر دولهم أو ساعدهم عبر الجمعيات الخيرية حينما تعرضوا للكوراث الطبيعية، فكان من المبادرين في إغاثتهم, وكم من النساء اللواتي قدّم لهنَّ مكائن الخياطة ليعشن عيشة شريفة ومن الرياضة والرياضيين الذينكان مشجعاً وعوناً لهم على الدوام والأطفال الفقراء الذي ألبسهم الملابس الجديدة ورسم البسمة على وجوههم في يوم عيدهم والتلاميذ الفقراء المتوجهين إلى مدارسهم بداية كل عام دراسي جديد حاملين الحقائب والكتب والأقلام المدفوع ثمنها على نفقته الخاصة( ).
ويظل الشيخ عمر قاسم في ذاكرة الأجيال, رجل الاستقامة والأريحية والفضل, وأحد الوجهاء الذين استطاعوا أن يحفروا أسماءهم في جدار الخير  في البلد العزيز بلد النقاء والصفاء , بلاد الحرمين الشريفين وفي كثير من بقاع العالم، وكان طوال حياته أحد الفاعلين الذين لا يركنون الى الدعة والى أخذ الامور على بساطتها اذا ما كانت متعلقة بقضايا الناس البسطاء الذين لهم عنده اهتماماً كبيراً فلا يهدأ له بال إلاَّ إذا قام بما يرضيه من جهد وعمل وقدم وبذل المال بسخاء وجود لمن هو مستحق له.
*********
(من الورقة المقدمة إلى ندوة “ظاهرة الهجرة اليافعية عبر التاريخ – تحت عنوان شخصيات مهاجرة, التي عقدت في قاعة الشيخ عمر قاسم العيسائي بكلية التربية يافع يوم 24سبتمبر2019م ونظمها مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر)..
يتبع غداً الجزء الرابع …
أخبار ذات صله