fbpx
التربية والتعليم في اليمن قبل الحرب وأثناءها

 

الحديث عن التربية والتعليم في اليمن أو في غيرها، حديث شائك وذو شجون، فما أصعب أن يختزل في مقالة كهذه، ولكننا سنذكر، لعل الذكرى تنفع ذوي الشأن على كثرتهم، أنهم المجتمع كله من دون استثناء، ولعل التفاوت يأتي في حجم الأمانة التي يتحملها هذا أو ذاك فيما يخص هذه القضية.
إمكانات مهدورة حكومية وأهلية في سبيل التعليم، لكنها لا تنسجم مع مخرجاته اليوم، فمع تقديرنا لكل ما يبذل في هذا الحقل، إلا أن النتائج تبدو مخيبة للآمال وبائسة، وتثير الخوف والقلق على مستقبل الأمة، ولسنا محتاجين إلى نسب وأرقام، فقد باتت الظاهرة حقيقة مرة يعرفها القاصي قبل الداني، والمواطن العادي قبل المسؤول أو المختص، لقد جاء الكم على حساب النوع، كما يجيء الغثاء على حساب الماء الذي يمكث في الأرض وينفع الناس، وليست إمكانات الأهالي والدولة هي التي تهدر فقط، ولكن الأعمار أيضاً تحترق أعواماً وراء أعوام، في سبيل التحصيل التربوي والعلمي المنشود دونما نتائج مشرفة، تكون جزاء وعزاء مقابل هذه الأعمار المنذورة، التي هي أغلى من أي رأس مال. ولا داعي هنا، أن نحصي الشهور والسنين العديدة، التي نجد الطالب بعدها لا يستطيع أن يكتب جملة صحيحة أو يقرأها، فضلاً عن أن يركبها أو يحللها، كيف مرت هذه السنوات العجاف على مثل هذا الطالب؟ وهل كان التعليم خلالها أحلاماً أم كوابيس؟ بل هل كان داخل المدرسة أم خارجها؟ وكيف تجاوز مثل هذا الطالب كل هذه السنين بنجاح، وحمل في يمينه الشهادات التي تثبت نجاحه، وأحياناً تفوقه، مشفوعة بمباركات المدراء والمربين؟ وعما قليل سيفدو هذا معلماً يعلم الأجيال الجهل، وينسج الليل في عيون التلاميذ، وتجده يطمح إلى ما هو أرفع من هذا، بعد أن استسهل الأمر ووجد الطريق ممهداً، وعرف كيف يشق طريقه في زمن اللامبالاة واللامسوؤلية واللامحاسبة… زمن الغفلة والفساد والغش.
مع الملاحظ أن أجيال اليوم تتمتع بذكاء كبير من حيث الملكة والاستعداد في النفوس، لكن المشكلة تكمن في التعليم نفسه، من حيث مناهجه وطرائقه ومفرداته وشروطه ومتطلباته، ومن حيث وضع المتعلم نفسه اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً، وقبل ذلك كله، وضع المعلم الذي يعد حجر الزاوية في العملية التعليمية برمتها.
تسهر الأم وتحرم نفسها، ويكدح الأب ويتشرد في سبيل تعليم ابنه أو ابنته خلال أعوام طويلة، ليكتشفا في الأخير، أنهما كانا يحرثان في البحر، لا سيما والأسعار لا ترحم، والحكومة تسحب يدها رويداً رويداً من الخدمات الضرورية، ومنها التعليم، وكثيراً ما تجد الأم ابنها النظيف الذي ودعته صباحاً إلى المدرسة، يعود آخر النهار وهو ملبد بالطين والماء، لأن معلميه قد أمروه وزملاءه أن يكنسوا الصفوف، ومع هذا يطالبها بالرسوم وبأجر الباص وبحق ورق الامتحان وبغير ذلك من البدع التربوية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا أبرئ الجامعات مما آل إليه الوضع التربوي والعلمي في البلاد، فهي تحمل أوزارها وأوزاراً مع أوزارها، فدورة التعليم مثل دورة المياه، فطلاب الجامعات قدموا من الثانويات، ومدرسوا الثانويات والتعليم الأساسي هم من خريجي الجامعات، فالقضية ذات جوانب كثيرة، ولكن الحكومة ممثلة بوزارة التربية والتعليم، تتحمل الجزء الأكبر من وزر هذه القضية أمام الله والتاريخ والوطن، بوصفها الجهة المسؤولة التنفيذية المباشرة، ولا أنسى أن أشير إلى أن الجامعات تتحمل مسؤولية قبول الأعداد الهائلة من الطلاب، حسب املاءات سياسية، مع أن أكثر هذه الأعداد ليست جديرة بالدراسة الجامعية، ولا ترتقي إلى مستواها، لأنها عادة تكون للصفوة من الطلاب، فليست المسألة مسألة نقل آلي من مرحلة إلى أخرى وصولاً إلى الدراسات العليا، على أن الذين لا يصلحون للدراسة الجامعية يصلحون في مجالات الحياة الأخرى، وما أكثرها، لو أن هناك تخطيطاً وتنمية ورخاء اقتصادياً وفرص عمل. لقد ساعد الإحباط واليأس من إمكانية وجود عمل بعد التخرج، في صناعة هذا المستوى الرديء الذي وصل إليه التعليم اليوم، لقد صدق الشاعر عبدالكريم الرازحي حين قال: «أعطونا المدارس والجامعات، وأخذوا الوظائف. أعطونا العلامات الممتازة في الامتحانات، وأخذوا المنح والامتيازات».
كل هذا كان في ظل الظروف الاعتيادية، أما وقد دخلت البلاد في حرب عبثية مدمرة منذ ثلاث سنوات (وأكثر)، فإن التعليم قد أضحى أول ضحايا هذه الحرب، لقد أطلقت عليه الحرب رصاصة الرحمة، إلا ما رحم ربي هنا أو هناك، فهنالك حكومة انقلابية في صنعاء، جندت الأطفال وزجت بهم في المعارك المحرقة، وحولت عدداً من المدارس إلى معسكرات وثكنات للجند، وقطعت الرواتب على المعلمين والموظفين وأساتذة الجامعات وغيرهم، وشرعت بتدريس مقرراتها المذهبية العقيمة،
وهنالك حكومة في عدن، تسمي نفسها بالشرعية، لم تهتم بالخدمات جميعاً، فما بالك بالتعليم، فاضطراب الأحوال بوجه عام، أدى إلى اضطراب التعليم، فغلاء المعيشة وأزمات الكهرباء والبترول والاضطرابات الأمنية، وتأخير الرواتب هنا، وانقطاعها هناك، أثرت سلباً على التعليم الذي لم يكن متعافياً من قبل.
إننا نودع أطفالنا صباح كل يوم إلى مدارسهم، تشيعهم نظراتنا وحبنا وخوفنا، ودعواتنا وكلنا ثقة بقداسة الرسالة التي تنهض بها المدرسة وبجدارتها على ذلك، فالخوف كل الخوف أن تهتز هذه الثقة أو أن تنكسر كما ينكسر الزجاج، فليس بعد هذا إلا الطوفان.
اللهم احفظ وافتح وسدد وبارك وأعن، إنك سميع مجيب.