fbpx
قول وشور في الذكرى الثالثة للعاصفة!

د.قاسم المحبشي

( ليس هناك ما هو اصعب من التفكير والتوقع والحكم في مدارات العاصفة ومآلاتها المُحتملة)

ظهر اليوم اتصل بي صديق عزيز وطلب مني المشاركة في ندوة نقاشية يقيماها (مركز دراسات استراتيجية) في عدن عن الذكرى الثالثة لانطلاق عاصفة الحزم، المسارات والمألات والتوقعات، شكرته على دعوته الكريمة واعتذرت عن المشاركة لعدة أسباب منها: عدم اقتناعي بأهلية المركز المهنية الأكاديمية إذ بحسب علمي يدير المركز بعض الشباب الإعلاميين الطموحين الذين يفتقدون التأهيل العلمي العالي في العلوم الاستراتيجية والسياسية والفكرية، وهذا لا يجوز في الأعراف الأكاديمية، مع احترامي العميق لشخوصهم الكريمة، وأنا لا أشجع التعامل مع مراكز الدراسات على نمط إدارة الجمعيات والمنظمات الأهلية والمدنية المنتشرة في البلاد بأعداد مضطردة بالألاف إذ بلغ عددها في اليمن أكثر من عشرة الف منظمة وجمعية مسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية. وربما يعود السبب الأخر الى خبرتي المتواضعة من عدم جدوى الندوات والورش والمؤتمرات النقاشية في معظم البلدان العربية التي لازالت حكوماتها التقليدية تديرها بطرق عشوائية وهوشلية بعيدا عن العلم والعلوم الحديثة، ولا أحد ينصت لاراء المتخصصين والمثقفين أو يعيرها أي وزن واهمية في الأحوال الطبيعية، فكيف سيكون الأمر ونحن في مهب العاصفة؟ ولست مستعدا لبذل المزيد من الجهد في التفكير والبحث والدراسة والقلق فيما لا طائل منه، أما العامل الأخير في عزوفي عن المشاركة في ندوة الذكرى الثالثة للعاصفة الى الاحباط الذي أشعر به من عبثها بعد أن فقدت معناها اللغوي والاصطلاحي البسيط، إذ لا يمكنني بوصفي أكاديميا يحترم عقله الحدث عن عاصفة تطوي عامها الثالث دون أن تنجز أي هدف واضح من أهدافها المعلنة في لحظة انطلاقها. لاسيما وأنني قد كتبت ونشرت رأيي وموقفي من الحرب والعاصفة منذ البداية محذرا مما يمكن أن تسفر عنه من كوارث فادحة إذ ما تركت تمضي على عواهنها بدون خطة محكمة وضوابط صارمة واهداف محددة بوضوح ودقة متناهية وخيارات بديلة فاعلة في حالات الفشل المحتملة على الدوام في أمور كهذه.فماذا يمكن لي أن أقوله في الذكرى الثالثة لانطلاق عاصفة الحزم؟! لاسيما وقد كتبت ونشرت كل ما يمكنني قوله حول الأزمة اليمنية وتداعياتها المحتملة ومن ذلك الدراسة المقدمة في ورشة (اليمن الى أين؟) بمركز الشرق للدراسات في دبي وهو مركز لصناعة القرار في مجلس التعاون الخليجي كما علمت في الورشة المنعقدة في فندق موفينبيك بدبي بتاريخ ١٨/مارس/٢٠١٥م أي قبيل انطلاق عاصفة الحزم بأسبوع فقط، دراسة بعنوان( رؤية اليمن من داخل النفق وفِي أوسع الأفق) نشرتها في عدد من الصحف والمواقع. ، واتذكر أنني والزملاء القادمين من عدن كنا على قناعة شديدة بان كل المؤشرات التي تتنضد في صنعاء حينذاك كانت تدل دلالة قاطعة بان الحرب هي الخيار الوحيد ليس لأنني نحب الحرب ونريدها ولكن لمعرفتنا بحقيقة القوى الانقلابية الفاعلة والمهيمنة في صنعاء اليمنية ورهاناتها الاستراتيجية في ظل ضعف القوى والنخب اليمنية الحديثة والتقليدية التي يفترض أن تكون مناوئة للحركة الحوثية الطائفية المدعومة من إيران. كنت أردد ((أن الحرب قادمة وأن عدن والجنوب سوف تحارب ولن ترضخ ابدا لغزوة شمالية جديدة لاسيما ونحن نعلم وكل العالم يعرف أن شعب الجنوب منذ عام 1994م وهو في ثورة مقاومة سلمية للاحتلال الشمالي التكفيري الغاشم ويستحيل أن يتقبل فكرة أي غزوة شمالية جديدة تحت أية راية أو ذريعة! وكل هدفه من التوق للحرب والمقاومة هو الخلاص من براثن هذه الوحدة القاتلة وتحرير السيادة المغتصبة بالقوة العسكرية الفجة كنا نلح على المجتمعين بالورشة بضرورة فهم ذلك وكان بعض الزملاء والزميلات يبتسمون غير مصدقين ما نقوله حد الصراخ احيانا! ورغم ذلك سارت العربة بغير ما كان يشتهي السائق! اذ لم تمض ساعات قليلة على نهاية ورشتنا الموقرة حتى اندلعت نيران الحرب في عدن بين عصابات الامن المركزي الشمالية والمقاومة الجنوبية في خور مكسر كان ذلك في 19 مارس إذا لم تخني الذاكرة! وأتذكر إن الاستاذ المشرف على الورشة اتصل بي ليلتها قائلا: (قاسم نشبت الحرب في عدن كما توقعتم) فأجبته: استاذنا العزيز نحن أهل اليمن وأدرى بشعابها” واعتقد لو أن الحكام في دول مجلس التعاون الخليجي والتحالف العربي تمعنوا في الأوراق المقدمة في ورشة اليمن الى أين وأخذوها على محمل الجد والحرص لما وقعنا واياهم في هذا الورطة الكارثية التي ستترك جراحات وآثار غائرة في الاجساد والنفوس، لن تندم بسهولة!
أما اليوم وقد وقعت الواقعة وعصفت العاصفة وطالت الحرب والتدمير والخراب كل ديار اليمن السعيدة بجهلها وفساد نخبها السياسية جنوبا وشمالا، فماذا يمكن توقعه وكيف يمكن للمرء توقع مالات الحرب والعاصفة الآن وقد دخلت عامها الرابع؟! ولا مهرب لنا من التفكير والتوقع طالما ونحن هنا نعيش المأساة بكل مرارتها المباشرة فكيف يمكن أن تكون الرياح القادمة؟
اعتقد بإن ثمة أشياء كثيرة قد تغيرت في اليمن في نهر السنوات الأربع المنصرمة، إذ جرت مياه ودماء واحداث كبيرة من خلف ظهور الجميع وجرفتنا معها. ويمكن الاشارة الى أبرزها بالآتي:
اولا: انتهت الجمهورية اليمنية بوصفها كذلك، وباتت اليمن دول فاشلة ليس لها سيادة ذاتية في العرف الدولي، ومن ثم فأمرها بأيدي قوى فاعلة خارجية دولية واقليمية.
ثانيا: فشل الشرعية اليمنية في استعادة الأمر في صنعاء والقضاء على القوى الانقلابية فيها.
ثالثا: فشلت القوى الانقلابية في السيطرة على اليمن بالحرب وإعلان نفسها قوة الأمر الواقع البديلة للشرعية الهاربة.
رابعا: فشلت عاصفة الحزم في تحقيق أهدافها المعلنة في بداية انطلاقها، إذ بدلا من تدمير قوة المليشيات الحوثية الموالية لإيران، ساعدت العاصفة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على تقوية وتمكين القوة الحوثية الطائفية الفتية من احكام السيطرة على كل مقدارات القوة في العاصمة اليمنية والتخلص من حليفها المراوغ علي عبدالله صالح، الذي استنجد بالتحالف العربي فخذله! فضلا عن هيمنت المليشيات الحوثية على معظم المحافظات الشمالية ما عدا مآرب الصحراوية التي يتم تخليقها بوصفها مركز قوة سنية موازي ومعارض لقوة صنعاء الحوثية، الى حين يتم الاتفاق.
خامسا: تحولت القضية الجنوبية الى واقع جنوبي بقدرة المقاومة الجنوبية المدعومة من التحالف العربي على تحرير المحافظات الجنوبية من قوى الغزو الانقلابية الشمالية الخالصة.
سادسا: اقتنعت المملكة العربية السعودية- وهي بالمناسبة أهم طرف فاعل في اليمن منذ نشؤها قبل مئة عام، بحكم الجوار والحدود ورهانات صراع القوى والمصالح بالمعايير العربية الخائبة- اقتنعت بعدم القدرة على حسم الأمر مع الحوثية بالضربات الجوية، ومن ثم فهي تبحث بالضرورة عن بدائل لحل الأزمة بما يضمن لها تحقيق مصالحها الاستراتيجية في اليمن بعد الحرب.
سابعا: ربما توصلت جميع الاطراف الفاعلة الدولية والإقليمية والمحلية في الأزمة اليمنية الى قناعة بعدم جدوى الحل العسكري وضرورة البحث عن بدائل آخري دبلوماسية وسياسية وتفاوضية ممكنة.
ثامنا: هناك مشاورات عديدة بين المملكة العربية السعودية والمليشيات الحوثية ربما تفضي الى تقارب وجهات النظر وتقديم التنازلات بما يحفظ مصالح كل طرف من الأطراف بتقديم ضمانات أساسية ودولية هي:
١- تعهد المليشيات الحوثية بالاندماج الكامل في المجال السياسي العربي الخليجي والاستغناء عن حليفتها المذهبية إيران.
٢- تجريد المليشيات الحوثية من السلاح الثقيل لاسيما الصواريخ البالستية طويلة المدى ومنصات إطلاقاها بما لا يهدد مصالح المملكة ومجالها الحيوي.
٣- انسحاب المليشيات الحوثية من حدود المملكة السعودية لمسافة تتراوح بين ٢٠ الى ٣٠كم في الأراضي اليمنية وجعلها منطقة منزوعة السلاح.
٤- تشكيل حكومة توافقية برئاسة شخصية توافقية من مختلف القوى المتنازعة في الحرب بحصص متناسبة ويكون للحوثي حصة متفق عليها.
٥- تعهد المملكة العربية السعودية ودول التحالف العربي المشتركة بالحرب بالتعويض عن أضرار الحرب والعاصفة وترميم المؤسسات ودعم الحكومة في تسيير ادارتها للبلاد.
٦- تعهد سلطنة عمان بوصفها الضامن الرئيسي من طرف الحوثي بشروط جزائية ملزمة بشهادة دولية في حالة الاخلال بالاتفاق.
٧- والضمان الكبير المهم هو الإقرار بواقع الجنوب الجديد بوصفه مجالاً سياسيا مستقلا عن صنعاء وهيمنتها، وبقاءها تحت رعاية دول التحالف العربي واعادة تشكيله وتأهيله بما يجعله قادر على ادارة نفسه وحماية وتأمين مصالح المملكة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية وطرق الملاحة الدولية. أما كيف يتم تأهيل الجنوب وكيف تتم ادارته بعد الانتهاء من أمر ترتيب وتوضيب الشمال، فهذه مسألة يصعب البث فيها الآن، بيد أن المؤشرات تدل على منح دولة الامارات العربية المتحدة- وهي الذرع الأيمن للمملكة العربية السعودية – منحها الاشراف والإدارة المباشرة لترتيب أوضاع المناطق الجنوبية المحررة على نار هادئة وربما كان دعم المجلس الانتقالي الجنوبي والجمعية الوطنية احد المؤشرات عن استحقاقات المرحلة القادمة، وبحسب رؤية أحد الاصدقاء الاعزاء صديق محامي خبير في فك شفرات رموز السياسية اليمنية، إذ يرى أن الجنوب لم يعد قضية جنوبية بل بات واقعا جنوبيا وطرفا مرهوب الجانب في المشهد اليمني الجديد وربما يمنح دوره الفاعل في حلحلة الأزمة والخروج بها الى نهاياتها المنطقية.
8- ربما كان استمرار عاصفة الحزم على النحو التي سارت عليه حتى الآن دون أن تتمكن من احداث نقلة إيجابية في المناطق المحررة في الجنوب ودون أن تتمكن من تحقيق أهدافها في الشمال، هو الاستراتيجية الخفية لدول التحالف العربية المثيرة للحيرة والقلق والإحباط عند جميع المناصرين والمعارضين، إذ من المحير موقف كل من السعودية والامارات من حرب الإصلاح وحزب المؤتمر الشعبي العام الذي يتم أحياءه من جديد بدعم اماراتي سخي، في مقابل دعم سعودي قطري للإصلاح في مارب ومناطق أخرى.
9- ربما حان الوقت الآن لأطلاق (عملية إعادة الأمل) الموعودة في اليمن والبدء برفع الأنقاض وترميم ما هدمته الحرب وتطبيع الحياة بما يجعل الناس يفكرون بالمستقبل ويضمدون جراحهم، أما استمرار الأمور على ماهي عليه من سوء وتدري فينذر بكارثة وشيكة يصعب توقع مالاتها المحتملة، فليس بالحروب وحدها تعيش الشعوب! وكلما ضاقت على الناس فرص الحياة الكريمة في أرضهم كلما اتسعت لديهم فرص الموت الذميمة!
وهكذا هي الحروب وما بعدها تجب ما كان قبلها! تلك قاعدة عرفية وقانونية وشرعية أساسية في تاريخ الصراعات السياسية للمجتمعات البشرية! وفي الحروب لا شرعية سوى شرعية المنتصر أما إذا كان المنتصر في الحرب هو المقاوم والمدافع وليس البادي المهاجم والغازي كما هو حال الجنوب بهذه الحرب وهو فضلا عن ذلك صاحب الأرض والحق فشرعيته هي أكثر عدلاً ورسوخًا وثباتاً من إي شرعية محتملة آخرى وليس هناك من يجرؤ على التشكيك بها أو منازعته إياها! واعتراض الشرعية اليمنية على المجلس الانتقالي الجنوبي هو موقف متوقع منها في تبرير حضورها ومسايرة رغبات وأهوى بعد القوى التي تتحكم بقراراتها ولكنه زفرة الرمق الأخير ولا يمتلك إي قوة قانونية أو عسكرية ملزمة، بل مناشدة أخلاقية وحفظ ماء الوجه. وهناك تفاصيل كثيرة لا قيمة لإيرادها وكل ما يهمنا هو أن تنتهي هذه الحرب العبثية ويحل السلام في كل ربوع اليمن جنوبا وشمالا وتستأنف عملية اعادة الأمل والتنمية، قبل أن تحل الكارثة.
وفي الختام اليكم حكاية صندوق بأندورا والأمل التي تشبه حكاية اليمن: صندوق بأندورا في الميثولوجيا الإغريقية هو صندوق كانت تملكه باندورا وكان مليئا بكل الشرور كالجشع والغرور والافتراء والكذب والحسد والوهن والرجاء. بعد سرقة بروميثيوس النار أمر زيوس ابنه هيفيستوس بخلق المرأة باندورا كجزء من العقوبة للبشرية. وتم إعطاء بأندورا الكثير من الهدايا من طرف أفروديت وهيرميز والكارايتات وهورى. لكن بروميثيوس حذر أخوه من أخذ أي هدية من زيوس حتى لا تكون طريقة انتقامية. لكن إبيميثوز لم يصغ لأخيه وتزوج من بأندورا التي كانت تملك صندوق الشرور الذي أهداها إياه زيوس، وفِي ليلة الدخلة فتح الصندوق وخرجت منه كل شرور بأندورا! وعندما خرجت كل الشرور حاولت بأندورا إغلاق صندوقها لكن يا للأسف بعد أن خرجت منه الشرور ويستحيل إرجاعها اليه. ولم يتبقى في قعر الصندوق إلا قيمة واحدة لم تخرج وهي الأمل. وهذا هو كل ما بقي لليمن؛ الأمل الذي ظل باقيا في قاع العربية السعيدة ولازال ولكنه لم يأتي أو يستعاد من أي مكان خارجها بل في الداخل ومن الداخل على الدوام، وما اضيق العيش لولا فسحة الأمل! وما أخطر البشر حينما يفقدون الأمل! لمن يفهم الاسرار السيكولوجية للإنسان ذلك الكائن المجهول!
تلك مجرد تكهنات في ظل غياب المعلومات والمعطيات الاساسية. غير أن المؤكد أن الحرب استنفدت كل طاقاتها الحيوية ولا خيارات تلوح الآن غير البحث عن مداخل ومقاربات بديلة للحرب والعاصفة، ومن هنا تحوم توقعاتنا المبنية على الممكنات المتبقية والمتاحة، وان كنت أنا غير راضيا بها ابدا. والله أعلم، وما بدى بدينا عليه!