fbpx
في معنى الثقافة والتربية والتعليم.

د . قاسم المحبشي

الثقافة مفهوم متشعب الإبعاد ومتنوع الدلالات، حيث تطلق كلمة الثقافة بالمعنى المجرد العام مقابل كلمة طبيعة، فهي العبقرية الإنسانية في تحرير وتطوير الطبيعة الإنسانية وغير الإنسانية واغنائها وجعلها أكثر متحضرة.وهي بهذا المعنى تعد قوة التاريخ الإبداعية بما تشتمل عليه من فن وعلم وأدب. وتدل كلمة الثقافة على انكباب الإنسان بصورة منهجية في تنمية قدراته العقلية والعاطفية والجسدية بالتربية والتعليم وممارسة وتدريب الفنون. وهناك مايربو على مئة وستين تعريفا صوريا لهذه الكلمة وثمة اتفاق عام على أن الثقافة تكتسب بالتربية والتعليم وتتيح للإنسان أن يتلاءم مع وسطه الطبيعي والاجتماعي وتتجلى في نظم وأنماط من التفكير والعلاقات والقيم والافعال والممارسات والسلوك والأشياء.
وأجود تعريف للثقافة هو تعريف الانجليزي ادوارد تايلور في كتابه “الثقافة البدائية” أواخر القرن التاسع عشر. حيث يصف الثقافة بأنها: “كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات والعادات والتقاليد التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع”.
وهناك تعريف للأمريكي روبرت بيرستد- في ستينات القرن العشرين حيث عرفها بقوله: ” أن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله، أو نتملكه كأعضاء في المجتمع ومن المعروف انه ليس كل إنسان متعلم هو بالضرورة إنسان مثقف، فما من شيء يتعارض مع الثقافة بمعناها التقني أكثر من الروح الكتبية والمدرسية، وليست الثقافة تكديس معارف فسحب، بل هي على حد تعبير (ادوارد هريو) “الثقافة هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء” وهذا هو التعريف الأنثربولوجي للثقافة.
ويرى فيلسوف العالم المعاصر، غاستون باشلار “إن الثقافة تتميز بجملة من السمات والخصائص هي:
1- التهيؤ: كما هو الحال في التربية الرياضية البدنية التي تتميز ليس بتعلم تمرين معين فحسب بل بجعل الجسم كله سليما ومرنا ومتهيئا فلاعب كرة القدم مثلا لا يكتفي بتدريب قدميه ورأسه فقط حتى يدخل المبارة بل لابد له أن يتدرب بكامل أعضاء جسده حتى يتمكن من دخول الميدان. وهذا ينطبق على كل الألعاب الأولمبية وفنون الرياضة المختلفة. وهكذا فان الثقافة هي ما يخول إنسانا القدرة على استخدام جميع الوسائل المكتسبة بالتربية والتعليم والمختبرة بالممارسة لمجابهة تحديات الحياة المختلفة والمتغيرة باستمرار والتصرف بحنكة ولباقة وسلاسة ورشاقة في مواجهة الأوضاع الجديدة ومشكلاتها المتجددة، فهي لذلك تعلمنا الفهم ومعرفة التصرف.
2- الاستيعاب: لأنني لا استطيع أن أتصرف بمعرفة ما إلا إذا تبنيتها وجسدتها في لغتي وصوري أنا، أي عندما تصبح مستوعبة مستبطنة ذاتياً وممتلكة في ذهني.
3- الشمول: القدرة على الربط العميق بين جملة المعارف المستوعبة بنسيج عضوي شامل تبعا لمبدأ موحد يكمن في الإنسان ذاته هو مبدأ الوعي النقدي الانعكاسي.
4- إمكانية التحول: أي القدرة على اكتساب معارف متنوعة ومختلفة والقدرة على استخدامها استخداما طبيعيا ومستوعبا، بهذا المعنى نفهم الثقافة باعتبارها ” فن استخدام المعرفة أكثر من كونها امتلاك للمعرفة بذاتها”.
وهذا ما قصده الفيلسوف مونتاني بقوله : ” لا تقدّم الثقافة لكل منا سوى مهمة واحدة هي: تحضير ولادة العالم والأديب والفيلسوف والفنان والفقيه والكاتب والحكيم فينا وحولنا والعمل من أجل تحسين الطبيعة الإنسانية.
إن الثقافة لا تعطينا على وجه خاص: تقنية أو فضيلة أو حتى معرفة، بل تمنحنا ما يؤلف الذكاء الدقيق أي القدرة على الحكم والتمييز.
الحكم: الذي يعني في العلم الذهن والمنهج ويدعى في الفن الذوق ويعبر عنه في الحياة العملية بالقدرة على التمييز وفي علم الأخلاق بالوضوح وهذا هو كل ما في استطاعتنا انتظاره من الثقافة وبدون هذا الكل لا وجود لشيء.
تجدر الأشارة الى إن ثمة علاقة متواشجة بين الثقافة والتربية والحضارة، فالفكر التربوي أيا كانت طبيعته ومنحاه- هو أداة الحضارة ووسيلتها في تخليد ذاتها وضمان انسيابها وتناقلها بين الأجيال، والحضارة هي ” الرحم الحي للفكر التربوي”.
ورغم أهمية الثقافة والحضارة تبقى التربية هي أهم أدواتها ووسائلها في التنمية المستدامة وهي بذلك أوسع نطاقا من التعلم والتعليم ذلك لأنها “تتناول الفرد في عمقه وفي سائر طبقات شخصيته وعاداته وانفعالاته وعواطفه وغرائزه الفطرية، إذ تتجه التربية إلى أعماق الذات الإنسانية وهي بذلك سابقة على كل تعلم ومرافقة لكل تعليم ومتصلة في عملية تنمية الإنسان وتثقيفه باستمرار من المهد إلى اللحد، ومن ثم فان التربية هي مهمة أستراتيجية وشاملة ومسئولية عامة تضطلع بها، الأسرة والدولة والمدرسة والمجتمع.
وغاية التربية هي تنشئة الإنسان، أما بواسطة الأسرة: مدرسة المشاعر الأولى. وأما بالتعليم. وليس التعليم سوى ذلك الفرع من التعلم الذي يهدف إلى تثقيف الإنسان وإكسابه القدرة على تكوين الأحكام الصحيحة في المجتمع والقدرة على السلوك والتصرف في مواجهة المواقف والممارسات اليومية في خضم الحياة الاجتماعية بافعال وانفعالات ومواقف حكيمة وحليمة وذكية وأكثر إنسانية.