fbpx
الديمقراطية بين النعرة والشطط (الحلقة الثالثة)
لا يمكن للمراقب الحصيف ان لا يلحظ وجود ملامح ثقافية وسيكولوجية خاصة لشعب الجنوب العربي مميزاتها العشق اللامتناهي للحرية والاصالة التي تضرب بأطنابها في اعماق التاريخ.. امر طبيعي ان لكل شعب مميزاته وهويته الخاصة التي تتشكل من عدد من العوامل التاريخية والثقافية والاجتماعية,  فالشعوب التي تعشق الحرية يكون لديها استعداد للتضحية وكذلك تتميز بالصدق والأمانة.
اظن ان من ابرز العوامل التي اكسبت شعب الجنوب العربي هذه الملامح هو عدم خضوعه ومقاومته الشديدة للحملات الاستعمارية المختلفة, فالاستعمار عادة ما يمتهن الكرامة ويدمر الشخصية الحضارية لأي شعب.. لقد قاوم شعب الجنوب العربي الغزوات الحبشية والفارسة والبرتغالية والتركية والزيدية ولم يخضع لكل محاولات التمدد في الجنوب التي سعت اليها تلك الحملات بعد ان تمكنت من احتلال مناطق اليمن لردح من الزمن وعبثت بكل المقومات الحضارية والثقافية والنفسية لليمنيين وخاصة في المناطق السهلية والساحلية. ولم يسلم اليمن الشافعي او اليمن الأسفل من حملات القبائل الزيدية المتكررة والمتلاحقة بما رافقها من عنف واضطهاد واستعباد امتدت لأكثر من الف عام.  ورغم ان الجنوب استعمر من قبل البريطانيين لمدة 129 عاما  الا ان مشيخات وسلطنات وإمارات الجنوب العربي عاشت فترة حكم ذاتي حرص الانجليز على عدم التدخل في شئونها واحترام عادات وتقاليد وعقيدة شعب الجنوب.
هكذا على من يفكر في إدارة وحكم الجنوب ان يأخذ بعين الاعتبار وجود مثل هذه القيم فالوحدة اليمنية التي مثلت حصان طروادة لحملة جديدة لقبائل اليمن الأعلى مثلت نموذج لا يمكن وصفها سوى بالبشعة فشلت في السيطرة على الجنوب واخضاعه نتيجة تجاهلها لخصوصيات شعب الجنوب وقيمه وظنت ان الجنوب لن يكون افضل من تهامة او تعز فاطلقت العنان لممارساتها الوحشية التي لا تشبه سوى ما قامت به الحملة الحبشية على اليمن مع الفوارق الزمنية فلو قدر لهذا الغزو ان يستمر عشرون عاما آخر فإن جيل ممسوخ لا يملك أي قيم إنسانيه او حضارية كان قادما لامحالة.
بالإضافة الى قيم الإباء والاعتزاز بالأصالة والثقافة والعروبة تحتل القيم الدينية مساحة واسعة في وجدان وثقافة المجتمع الجنوبي وتمتلك المؤسسات الدينية السياسية  ثقل اقتصادي ومالي كبير ناهيك عن وجود تأثير كبير للتنظيمات والتيارات الدينية السياسية الدولية المختلفة.  فمثلما عانت  من الإرهاب بلدان كمصر و تونس وليبيا ودول الجوار في الجزيرة والخليج جميعها بدون استثناء فان الجنوب أيضا سيعاني وطأة العمل التخريبي والإرهاب ومقاومة التطور أكثر من غيره.
 
على الرغم من ان الجنوب لا تتوافر فيه الأرضية الخصبة لانتشار مثل هذه التيارات الإرهابية المنحرفة نتيجة لما عرف عن شعب الجنوب من وسطية واعتدال في التدين بالإضافة الى التجانس المذهبي الا ان الحشد الدولي لجماعة الاخوان المسلمين بدعم عدد من الدول لهذه الجماعة ومعها فرق الإرهاب والموت التي تربط بها ارتباط وثيقا تعد بمثابة حرب عدوانية لا يمكن التقليل من خطرها وقدرتها على استغلال الدين لتنفيذ اجندتها السياسية التي لن تكون بدون ادنى شك داعمة لأي عمل ديمقراطي.
 
ينقسم الإسلاميون بين مؤيد للديمقراطية وداعيا للتفاعل مع قيم التنوير الحديثة والانسانية وبين مؤيد لبعضها ومتحفظ عن البعض الاخر بينما هناك تيارات تعتبر الديمقراطية كفرا وشرك يجب مقاومته وإزالته.
يمثل الرعيل الأول من جيل الرواد الذين ذهبوا في بعثات الى أوروبا  او تعرفوا عليها وابرزهم الشيخ الازهري رفاعة رافع الطهطاوي الذي تأثر بمبادئ الثورة الفرنسية وأفكار رواد التنوير الاوربيين ودعا الى الانفتاح على هذه الأفكار مع الاحتفاظ بالقيم الاسلامية الاصيلة وتبعه كوكبه من الرواد مثل خير الدين التونسي وعبدالرحمن الكواكبي وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم. هؤلاء رأوا بان القيم الاوربية الليبرالية الحديثة تتوافق مع المبادئ الإسلامية وخاصة تلك التي تدعو للمساواة وحقوق الإنسان والحرية والعدالة.
كانت النهضة الحضارية في مصر التي قادها محمد علي باشا اوائل القرن التاسع عشر قد تعرضت للمؤامرات الاستعمارية الاوربية والتي أدت الى اجهاض مشروعه في بنا الدولة المصرية الحديثة كمنارة للعالم الإسلامي ثم احتل الأوروبيون البلدان العربية في افريقيا واسيا انتكس معه عصر التنوير والإصلاح السياسي والديني الذي قادة الرواد ودخل العرب في ظلام دامس. ولج العرب والمسلمون مرحلة جديدة عنوانها التخلف الحضاري وبروز الأفكار الدينية المتعصبة والانغلاق ومعاداة الحرية واستمر حال  الامة في التدحرج نحو الهاوية التي وصلنا الى قعرها اليوم.
مع وجود هذا الانكسار الحضاري والديني برزت محاولات للاجتهاد لعدد من المفكرين الاسلامين في بداية القرن العشرين فكان لصدور كتاب “الإسلام واصول الحكم” (1925) للشيخ الأزهري الشهير علي عبدالرزاق صاحب درجة العالمية وخريج جامعة أكسفورد أيضا اثر كبير اثبت فيه بالبرهان الشرعي ان السلطة امر دنيوي وان لا خلافة في الإسلام, فتعرض كتابه لانتقادات شديدة من قبل شيوخ الازهر وغيرهم.
ومن هؤلاء الذين يستحقون الوقوف امام افكارهم عند البحث في مسألة فهم الديمقراطية وامكانيات تنشئتها في مجتمعنا هو المفكر الجزائري مالك بن نبي احد ابرز رواد النهضة الإسلامية الفكرية في القرن العشرين ويعده البعض امتداد حقيقيا لعبقرية ابن خلدون الفكرية.
يقدم المفكر مالك بن نبي رؤية اكثر دقة وتفصيل لمفهوم الديمقراطية وعلاقتها بالإسلام تمكن من ابراز القيم الإسلامية التي حث عليها القرآن الكريم وبرهن على تطابقها مع الدعوات العصرية للحرية بل وذهب لأبعد من ذلك في اثبات قدرة القيم الإسلامية على تجاوز سلبيات ومثالب الديمقراطية والقيم الغربية فهو يراها تتجسد من خلال عناصرها الثلاثة التالية:
 1-  الديمقراطية باعتبارها شعورا نحو الأنا.
2 الديمقراطية باعتبارها شعورا نحو الآخر.
 3 مجموعة الشروط الاجتماعية السياسية اللازمة لتكوين هذا الشعور في الفرد وتنميته. (كتاب القضايا الكبرى مالك بن نبي).
أيضا هو لا يرى الديمقراطية كنصوص دستورية وانتخابات وتبادل للسلطة فقط بقدر ماهي مشاعر نحو الانا والأخر حرص الاسلام على غرسها في وجدان الانسان بالإضافة الى مجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين هذا الشعور.
المفكر الإسلامي مالك بن نبي لا يرفض الديمقراطية الغربية بل أراد ان يقول ان الإسلام سبق المتنورين الأوربيين وغيرهم اليها بقرون عدة مع الفرق بان الديمقراطية الإسلامية تحقق شروط الحرية الفعلية. ويذهب بن نبي الى ان الاسلام “ يأتي بنموذج يعطي للإنسان قيمة أسمى تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية، لأنها القيمة التي منحها الله للإنسان، وهي قيمة التكريم، تكريما يفوق الحقوق السياسية، أو الضمانات الاجتماعية، فهذا التكريم شرط أساسي لتغيير نفسية الفرد طبقا للشعور الديمقراطي نحو الأنا ونحو الآخر” ويستطرد بن نبي ان الديمقراطية الإسلامية ”  تُعْنَى أولابتلقيحالإنسان وتحصينه من النزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي، وبتصفية نفسه منها, أما الديمقراطية العلمانية فإنها تمنح الإنسان أولا الحقوق والضمانات الاجتماعية، ولكنها تتركه عرضة لأن يكون ضحية مؤامرات لمنافع معينة، ولتكتلات مصالح خاصة كبرى، أو خاضعا لدكتاتورية طبقية، أنها ديمقراطية لم تخلص نفسه من دوافع العبودية والاستعباد. ” نفس المرجع (نفس المرجع).
  على النقيض يقف أصحاب نظرية الحاكمية ممثلة ب سيد قطب الذي اقتبس هذه النظرية من المفكر الباكستاني أبو علاء المودودي و تنص هذ النظرية على ان لا حكم الا لله وان العبودية لله وحده وان المجتمعات الراهنة كلها مجتمعات جاهلية تشبه تلك التي سبقت ظهور الإسلام “الجاهلية الأولى” وان  الله مصدر السلطة وليس الشعب او الحزب وان من يستمد حكمه من عاداته وتقاليده ومن شرائعه فهو مشرك ويعبد دون الله. وفي نظر سيد قطب وفقا لتأويله الخاص للآية القرآنية “لا حكم الا لله” ونظرية الحاكمية حتى اولئك الذين يؤمنون بالله ويصلون ويصومون ويدينون لشرائعهم مشركون لانهم لا يدينون  لله . ثم قسم سيد قطب العالم كله الى دار حرب ودار اسلام  فالشعوب التي لا تدين لفكره القائم على التأويل الخاص به وفقا لنظريته حول الحاكمية هم  دار حرب . والديمقراطية وفقا لنظرية الحاكمية هي العبودية للشعب ولدون الله لذا فأصحابها مشركون.
 هنا تبدو الإجابة جلية بالنسبة للسؤال اللغز الذي يحير البعض عندما يرى انتحاريين يهتفون باسم الله اكبر ثم يفجرون انفسهم بين الأبرياء من الأطفال وداخل المساجد  بين المؤمنين وبين من لا يدينون بغير الإسلام  لان هؤلاء وفقا لنظرية الحاكمية مشركون ويعبدون غير الله ولابد من ازالة هذا الشرك وما يقوم به الانتحاريون هو تكليف شرعي لازم وفقا لنظرية الحاكمية وتأويل سيد قطب للقرآن.
لا شيء يمكن ان نقوله هنا سوى ان هؤلاء صاروا يعبدون سيد قطب واستبدلوا القرآن بكتاب “معالم في الطريق” وبأحاديث للإمام البخاري منسوبة للرسول ولا يلتفتوا الى القرآن الذي ينص صراحة على حرية الاعتقاد في اكثر من موضع. ويذهب هؤلاء الضالون الى ترديد الحديث الذي ينص على ” ستنقسم امتي الى اثنان وسبعون فرقة جميعها في النار عدى واحدة منها” , وهي ما يطلقون عليها ب “الفرقة لناجية”  لذا فان كل فرقة منهم تعتبر نفسها “الناجية” وما عداهم مشركون ومرتدون وجب قتلهم عملا بحديث البخاري “من ارتد عن دينه فاقتلوه”.
كتابه معالم في الطريق هو الدليل  النظري لجماعة الاخوان المسلمين والتنظيمات المتطرفة المنبثقة منها كالجهاد والقاعدة وداعش وانصار الشريعة وغيرها من الجماعات التكفيرية التي تحتضنها جماعة الاخوان المسلمين يضع تكليف واضح امام كل من ينتمي الى هذه الجماعات بمواجهة كل من لا يدين لتأويلهم المشوه للإسلام بشتى السبل.
اذا كانت المعركة على اشدها في كل من مصر والامارات العربية المتحدة وسبقتها الى ذلك الجزائر وبلدان عربية وإسلامية أخرى كثيرة فإن الجنوب العربي ونتيجة لوقوعه في قبضة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين والفرق التكفيرية الإرهابية التي تتبعه لمدة ليست قصيرة يخوض اليوم معركة مسلحة حامية الوطيس لن تنته سوى باستئصال هذه الجماعات الضالة وفكرها المنحرف حتى يسود الامن والسلم الاجتماعي كشرط لازم للتنمية الشاملة وإشاعة الممارسات الديمقراطية وقيم الحرية والعدالة  وتحرير الدين من اهواء المؤولين و قبضة المتاجرون به.
موقع التجمع الديمقراطي الجنوبي – تاج*