fbpx
عشرة أيام بصحبة “عمران”الفدائي والإنسان4*

بقلم/د. عيدروس نصر ناصر.

قلت فيما مضى أن كل صفحة من صفحات كتاب “ذكريات “عمران” الفدائي والإنسان” تبعث رغبة إضافية في الاستمرار في متابعة ما سيليها، خصوصا تلك الفصول المكرسة للعمليات الفدائية والمغامرات السياسية والعسكرية وهذا بطبيعة الحال لا يقلل من أهمية محتويات بقية الفصول التي لا تخلو من مغامرات ومفاجآت تعبر عن تلك الروح الفدائية التي تمتع بها جيل عمران من حملة راية التغيير ومشاعل الحرية.

بعض العمليات الفدائية:

في فصله الثاني يستعرض الفدائي “عمران” عدداً من العمليات الفدائية التي قادها أو شارك فيها وكنت قد استعرضت بعضا من هذه العمليات المتميزة، في حلقة سابقة وقد علمت من زميلي د. محمد صالح فاضل الصلاحي، مؤلف الكتاب ونجل صاحب الذكريات بأنه مع والده يعملان على استدعاء ذكريات إضافية عن مواقف وعمليات أخرى كثيرة ستجري إضافتها إلى الطبعة القادمة من الكتاب، وكان قد طلب مني العديد من القراء من خلال تعليقاتهم وعبر بريدي الإلكتروني مزيدا من التناول لتلك العينات من المواقف والمغامرات النبيلة وهو ما دفعني إلى كتابة هذه الحلقة.

*   في عملية حافون جرى التخطيط بدقة متناهية كما في العمليات الأخرى، لكن ما يميز هذه العملية أنها جاءت وقد حقق القطاع الفدائي اختراقا مهما في جهازي الأمن والجيش البريطانيين بين أبناء البلد الذين قرروا التعاون مع الثورة بقيادة الجبهة القومية.

كان الهدف من العملية هو ضرب موقعين بريطانيين في عملية واحدة، الموقع الأول ويقع في منطقة حافون وهو موقع المترس المدور والواقع بالقرب من مبنى المخابرات البريطانية، والثاني مترس مدور آخر يقع في الطرف الآخر لشارع المعلا الرئيسي عند مفرق طريق العقبة كريتر، والعقبة دكة وكان موقع الفدائي عمران في هذا الموقع.

يشير عمران إلى عدد من المشاركين في العملية ومنهم إلى جانب عمران كل من: أحمد محمد دنبع، الفاطمي، وضابط البوليس صالح العمري الملقب “بالبانهيس”.

وفي توصيفه للعملية يقول عمران أنه تم نصب المدفع في المقبرة القريبة من منطقة الهدف، وجرى توزيع القناصين المكلفين بحماية المدفع وإعاقة أي دوريات قادمة وتأمين عملية الانسحاب بعد تنفيذ العملية.

يقول عمران: تم استهداف الموقعين بمدافع الهاون وبدقة وقد هرعت الدوريات تبحث عن مصدر النيران فاشتبكنا معهم بأسلحتنا الشخصية بغرض إعاقتهم، وفي تلك الأثناء تقدمت سيارة “فولكس فايجن” يقودها ضابط البوليس العمري “البانهيص”ببزته العسكرية وقد كان مسؤولا عن نقل وإخفاء المدفع وأسلحتنا الشخصية.

ويشرح عمران ما يتسبب به سوء الفهم من إرباك للخطة وكيف جرى التغلب على مخاطرها، فعند توقف السيارة (وربما بسبب فتح الغطاء الأمامي لإخفاء الأسلحة) ظن عمران أنها تعرضت للعطب مما جعله يكثف النيران على الدورية الإنجليزية، لكن السيارة أخذت المدفع والأسلحة الفردية وانطلقت وبقي عمران بمفرده في مواجهة الموقف، وهذا مخالف للخطة المرسومة للعملية، لذلك فقد اضطر اللجوء إلى إحدى العمارات والاختباء عند بعض الشباب المناصرين للجبهة القومية لكنه ـ كما يقول ـ كان قلقا من أي إزعاج قد يسببه لسكان العمارة بسبب وجود البندقية هناك، وهو ما دفعه إلى أن يطلب من زميله مسؤول القطاع الفدائي (أحمد دنبع) تدبير طريقة لسحب السلاح من العمارة وقد تم ذلك منتصف نفس الليلة ( أنظر الكتاب ص 131-132).

*    وعن عملية استهداف الأبراج، يشير عمران إلى إنه ونظرا لتزايد العمليات الفدائية الموجهة ضد المصالح البريطانية، قامت أجهزة الأمن الاستعمارية باستحداث أبراج مراقبة تهدف إلى فرض مزيد من الرصد والمراقبة لحركة الناس في مناطق عدن المختلفة، والتصرف مع أي تهديد للمواقع الاستعمارية، وقد شكلت تلك الأبراج مصدر قلق للقطاع الفدائي من حيث إعاقة التنقل الآمن للفدائيين قبل أو بعد تنفيذ عملياتهم، ولذلك فقد اتخذ قرار باستهداف ثلاثة من هذه الأبراج وفي وقت واحد.

يقول عمران: “طلب مني سالمين تحضير وتجهيز اللغم الأرضي رقم (7) والذي كنت قد حصلت عليه من عضو التنظيم الشعبي لجبهة التحرير صالح أحمد بن عاطف جابر والمخزون في أحد المخابئ الأرضية” وكان الهدف من اللغم هو زراعته في أحد الطرقات المؤدية إلى أحد هذه الأبراج، وما يميز هذه العملية أنها تستهدف ثلاثة مواقع متباعدة نسبيا، (جولة مصنع الغزل والنسيج، جولة عبد القوي، ومنطقة السيلة) وهو ما استدعى اشتراك مجاميع كبيرة من الفدائيين الموزعين بدقة متناهية بين منفذين وحماية المواقع وفرق مشاغلة الدوريات البريطانية لتأمين انسحاب الفدائيين بأمان.

في إطار استعراض هذه العملية يشير الفدائي عمران إلى السرية الصارمة التي تكتنف هذا النوع من العمليات، فليس من حق الفدائي أن يسأل إلا عن شركائه ومسؤوله ومهمته ومصدر السلاح وما إلى ذلك أما بقية التفاصيل فهي من حق القيادة وحدها، وكان الهدف من هذه السرية هو حماية الفدائيين من الملاحقة فيما لو تعرض أحدهم للأسر وتعرض للضغط والتعذيب ما قد يجبره على إفشاء الأسرار وتعريض رفاقه للخطر، ومع ذلك يشير عمران إلى عددٍ من الأسماء المشاركين في هذه العملية المركبة منهم: صالح ملقاط، سالم الناخبي، محمد صالح مطيع، وقائد الفرقة الرابعة سالمين.

وقد تولت فرقة عمران زراعة اللغم في الطريق بين البرجين (برج جولة الغزل والنسيج وبرج جولة عبد القوي) وقد تم تمويه اللغم بدفنه بالغبار وتغطيته ببعض الغمامة والحصى نظرا لصعوبة الحفر والدفن في تلك العجالة، كم قام الفدائيين بقطع الطريق على السيارات العمومية وعدم السماح إلا للسيارات البريطانية، وبعد ذلك كانت مهمة فرقة عمران بقيادة سالمين الاشتباك مع عساكر الإنجليز الناجين من انفجار اللغم، وقد اختار عمران أحد المنازل الخالية من السكان لرصد حركة القوات الإنجليزية وساعده في مهمة الرصد محمد أحمد البحاح وعبيد عوض ميسري اللذان زوداه بالمعلومات عن حركة القوات الإنجليزية، نظرا لعدم تمكنه من متابعة جميع الشوارع المحيطة بموقع العملية.

لقد نفذت العملية بنجاح وترك انفجار اللغم آثار تدميرية كبيرة في الأفراد والعتاد، وتمكن الفدائون من الاستعداد للانسحاب لكنهم لم يجدوا السيارة العسكرية المكلفة بنقلهم في المكان المحددة وفوجئوا بسيارة بيجوت يقودها الفدائي حامد مدرم (الذي لم يكن مكلفا بهذه المهمة بموجب الخطة).

ومما يرويه عمران عما بعد إنجازهذه العملية الفدائية إنه قدا شاهد داخل سيارة الفدائي حامد مدرم بعض الآلات الموسيقية (عود وكمنجة وإيقاع) وقد أراد عمران أن يمازح رفيه بسؤاله هل استبدلت البندقية بالطبل والعود، لكن مدرم رد عليه أن الالتزام للجبهة القومية قد حرمه من مواصلة حفل الزواح بحضور الفنان سعيد الشعوي فقد طلبت منه القيادة تولي نقل الفدائيين بعد أن اتضح استحالة العثور على السيارة المعدة لهذا الغرض لأسباب غير مفهومة.

وأخيرا وبعد إتمام الانسحاب يشير عمران أنه وعند التوجه لإبلاغ قائد العملية الفدائي سالمين عن نتائج التنفيذ لم يجده حسب المكان والزمان المحددين بيد أنه وجد زميلهم الفدائي محمد سعيد عبد الله (محسن) وأبلغه وطلب منه إبلاغ سالمين

في هذه العملية وغيرها عشرات العمليات يكشف لنا السرد الذي اتبعه الفدائي عمران خاصية طالما تميز بها العمل الفدائي طوال فترة الكفاح المسلح، تلك هي عمق العلاقات الإنسانية ونبل مقاصدها وخلوها من المعايير الضيقة التي تميز علاقات السياسيين ببعضهم فتجد العدني بجانب اليافعي والدثني بجانب التعزي والضالعي بجانب الردفاني وابن إب بجانب صاحب ابين وكان ذلك أحد الأسرار الرئيسية لنجاح الجبهة القومية في تجاوز أمراض هذه الأيام، والحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية وتسجيل انتصارات استثنائية وبوسائل بسيطة في وجه قوة إمبراطورية كانت تتمتع بأكثر الأسلح فتكا وأشدها حداثة وأكثرها تعقيدا وتقنية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*   من صفحة الكاتب على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك