fbpx
في تأمل المؤتمر.. الجيش والسياسة.. إستئناس الجهل الخطّر !

عرفنا قيمة الجيوش النظامية في زمن المليشيات الطائفية والجماعات الإرهابية !

جَيشْ من جاش يجيش تجييشاً بمعنى الجمع والحشد والجحفل والقدرة والفيض والحركة والغزو والفتح والاجتياح   .. الخ وهناك كنانة شاملة من المعاني الصور والأخيلة والمشاعر المتناقضة التي تستدعيها  وتثيرها الكلمة ( جيش )  كالحرب والسلام والخوف والأمان، والقوة والهوان، والفوضى والنظام، والعدالة والطغيان، والحماية والخذلان ، والتدمير والتعمير ، والنصر والهزيمة والسياسة والسلطان والدول والاوطان .. والسيادة والارتهان والثورات والانقلابات .. الخ من الدلالات والرموز التي تثيرها الكلمة في الأخيلة والنفوس، من قبيل الجيوش التي تسير على بطونها !

في تحدي المحضور !

يمنع التصوير ، يمنع الاقتراب ، منطقة خطر!

تلك العبارات الصارمة المشفوعة دائماً بايقونة الخطر الحمراء رمزية الموت والهلاك ،هي التي تقول الكثير والكثير – ( وبدون أن تتكلم طبعا) عن قصة الجيش والسياسة في (الدول ) والمجتمعات العربية المعاصرة وهي عبارات يعرفها كل (المواطنيين العرب ) حيثما ولدوا وأقاموا  وحلوا أو ارتحلوا في بلدانهم من المحيط إلى المحيط ، إذ يجدونها مكتوبة على قارعات الطرق السريعة وعلى بوابات المعسكرات والمؤسسات المتصلة بالقوات المسلحة في المدن والارياف في البحار والبرار والجبال وفي كل مكان، وهي عبارات تعنى ما تقول بما جعلها تنتصب في القلوب والاذهان موانع ذاتية كابحة لكل فضول ومعرفة ممكنة، وبذلك  كانت المؤسسة العسكرية في المجتمعات العربية ولازالت  بنية مغلقة وعصية عن الفهم والتفسير حتى بعد انهيارها وتفكيكها وزوالها، تماما، مثل الموت ذاته!  فما هو الجيش وما وظيفته ؟ وماهي السياسة؟ وما طبيعة العلاقة بينهما؟  وكيف سارت تلك العلاقة في تجارب الدول العربية المعاصرة، والى أين آلت الأمور اليوم وماذا ينبغي علينا فعله في مواجهة تحدي انهيار الجيوش النظامية وبروز المليشيات والجماعات الطائفية والإرهابية  ؟

تلك الأسئلة وغيرها كانت محط اهتمام المؤتمر الدولي الأول ( الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي )  الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، على مدى ثلاثة أيام متواصلة من ١- ٣ أكتوبر الجاري ، في  مبنى معهد الدوحة للدراسات العليا في . وهو مؤتمر ينطوي على أهمية مزدوجة في استئناس الجهل الخطّر ! نقصد باستئناس الجهل الخطّر هنا، الدلالة الميتافيزيقية للمؤتمر الذي يعد حدثا نوعيا في مقاربة الظاهرة العسكرية السياسية العربية المعاصرة بالاعتماد على أدوات بحثة منهجية علمية ومن زاوية نظر سوسيو ثقافية نقدية، إذ لأول مرة يكون الجيش والسياسة موضوعا للانشغال الابستمولوجي المنهجي والنظري في الوطن العربي، لا سيما في العهود الحديث وهذا وضع مفارق لما كان عليه الحال في الأزمنة القديمة عهود الجيوش والسياسة التقليدية ، إذ كان جحفل الجند والعتاد والسلطة والسلطان من أبرز الظواهر  الاجتماعية السياسية المتاحة  للرؤية والكشف والمشاهدة، بوصفها مصدرا للقوة  والفخر  والهيبة والحماية والتخويف والسيادة، وكان يتم عرضها في الفضاء العام للمشاهدة ونقل الأخبار لأغراض استراتيجية مقصودة وواعية فحوها : من معه سيف إبترع به! وبهذا المعنى نفهم قصيدة الشاعر الشهير لابي تمام

“السَّـيْـفُ أَصْــدَقُ أَنْـبَــاءً مِـــنَ الـكُـتُـبِ

فِـي حَــدهِ الـحَـدُّ بَـيْـنَ الـجِـد واللَّـعِـبِ

بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُـودُ الصَّحَائِـفِ فِـي

مُـتُـونِـهـنَّ جــــلاءُ الــشَّـــك والــريَـــبِ”

هكذا كانت معاني الجيش والسيف  والسلطة والسلطان حماة الديار والاوطان  والمنعة والسيادة والفعل والرد في الأزمنة العربية التليدية !

ولا شيء يخفى على  الأفهام والأنظار

أما اليوم فقد بات الجيش حقلاً محاطاً بالألغاز والأساطير والخرافات والأوهام، بترسيم السياسة لها سر من اسرارها بالغ الحساسية والخطر!

ولأمر المثير للأسف ان جيوشنا العربية التي سحقت شعوبها بالنار والحديد ولدت وطغت وماتت قبل ان نتمكن من فُض مغاليقها ونفهم معانيها. وأتذكر أنني حينما قرأت  إعلان المركز العربي عن تنظيم مؤتمر (الجيش والسياسة ) قبل اكثر من عام كانت جحافل

بقايا الجيش اليمني ومليشياته تدك مدينتي عدن الساحلية المسالمة بكل انواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة والمتوسطة الحديثة الصنع.

انها تجربة مريرة تلك التي عشناها وشهدنها مع جيوشنا العربية ونظمها السياسية المتحللة،

الجيش والسياسة الجرح العربي النازف كيف يمكن لنا التعبير عنها وتمثيله ومتى يندمل ؟!

تجدر الإشارة إلى إن الجيش  بموصفه موضوعا للبحث العلمي، ينتمي الى حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة وعلم الاجتماع السياسي  والعسكري تحديدا وهذا الأخير يعد من العلوم الفتية في الابستمولوجيا المعاصرة ، إذ يؤرخ لبداياته على الصعيد العالمي منذ ثلاثينيات القرن الماضي ، وعلى الصعيد العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، عبر ثلاثة كتب مدرسية بعنوان ( علم الاجتماع العسكري ) ل إحسان محمد الحسن من العراق وأحمد إبراهيم خضر من مصر وفؤاد لاّغا من الاْردن، وهي في الواقع تكرار لذات المحتوى المدرسي،  وبعض الشذرات البحثية المنثورة هنا وهناك في الصحف والمجلات المحلية عن مسارات الجيوش العربية. ومن هنا يكتسب المؤتمر أهمية الاستثنائية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية بوصفة تأسياً لمساق علمي جديد في هذا المجال بما تضمنته الأوراق البحثية من مقاربات ومداخل منهجية نقدية بالغة الأهمية إذ تنوعت وتعددت القراءات البحثية لمشكلة (الجيش والسياسة) انطلاقا من خطين متوازيين: الأول : يبحث في التاريخ الداخلي للجيوش العربية ، إي دراسة الجيش من حيث هو نسق مؤسسي بنيوي بعناصره الداخلية وعلاقاتها التبادلية التفاعلية، بما يشتمل عليه من فاعلين وأفعال وعلاقات وممارسات وادوار وقيم وعادات وتقاليد وأدوات ورموز ..الخ

والثاني يهتم بدراسة التاريخ الخارجي للجيوش العربية  في سياقها الاجتماعي والثقافي الاوسع، إي شروط نشأتها نموها وصيرورتها السوسيولوجيّة .

والمؤتمر يقع ضمن اهتمامات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي دأب على عقد مؤتمر “التحول الديمقراطي “سنوياً في إطار تقليده العلمي البحثي . وهكذا توافد الباحثون والباحثات  العرب من مختلف الأقطار  يحملون معهم الأسئلة والمقاربات في تأمل الجيش والسياسة من خلال تسليط الضوء على بعض التجارب والخبرات التي شهدتها جيوش النظم السياسية العربية في سياقاتها التاريخية المضطربة، وفي ضوء المآلات الكارثية التي آلت اليها  السياسات والجيوش النظامية العربية اليوم في الصومال والعراق وليبيا واليمن وسوريا وغيرها.

وبهذا المعنى يمكن النظر إلى مؤتمر ( الجيش والسياسة ) بمثابة استجابة  للتحدي الوجودي المعاش في عالم الممارسة اليومية الذي يستعر بالمتغيرات والاحداث الدراماتيكية الفاجعة لانهيار الدول الجمهوريات والمجتمعات في غير قطر عربي بالمشرق والمغرب على السواء فضلا عن أوضاع الجيوش وأزماتها السياسية المستحكمة في معظم البلدان العربية الراهنة.

ناقش المؤتمر أكثر من 60 باحثًا مقدمة من الباحثين والباحثات ومن مختلف المؤسسات الجامعية والبحثية في الوطن العربي وخارجه، وعلى مدى ثلاثة أيام وفي كل يوم ثلاث جلسات مزدوجة.

وسوف تكون لنا وقفة لاحقة مع المؤتمر ومحاوره ونقاشاته.

استدراك :

عرفنا قيمة الجيوش النظامية في زمن المليشيات الطائفية والجماعات الإرهابية !