fbpx
الشيخ علي عبدالله العيسائي.. مَضْرِب المثل بالوفاء

د.علي صالح الخلاقي:
صعقت، ومثلي كثيرون في أصقاع الأرض، لنبأ وفاة رجل الخير والعطاء، رجل المال والأعمال العصامي الشيخ الفاضل علي عبدالله العيسائي، أو ببساطة (العم علي) كما اعتدت واعتاد كل من عرفه أو عمل في أي من شركاته ومصانعه ومؤسساته العديدة المنتشرة في عشرات البلدان، إذ عُرف،رحمه الله، بتواضعه الجم وبساطته التي لا تكلُّف فيها ولا تصنُّع، مقتدياً في حياته وسلوكه بقول ىالرسول الكريم [مَنْ تَوَاضَعَ للَّهِ رَفَعَهُ]. ومن تواضعه أنه كان مَضْرِب المثل في الوفاء في زمن قل فيه الوفاء لأقرب الأقرباء، ناهيك عن الزملاء والأصدقاء، لا سيما من قبل بعض من بسط الله عليهم بالرزق وحظيوا بالثروة أو بمنصب أو جاه فنسيوا أو تناسون زملاءهم وأصدقاءهم القدامى الذين قاسموهم ذات يوم المر قبل الحلو.
أما (العم علي) فكان كلما أدرّ الله الرزقَ عليه ازداد تواضعاً، وأجد من المناسب وقد افتقدنا هذا الشيخ الفاضل أن أعيد ما كتبته مطلع هذا العام عن بعض صور من وفائه لأصدقاء طفولته وشبابه من واقع المشاهده والمعايشة عن قرب.
لقد سمعت عنه كثيراً، قبل أن أتعرف عليه، ومن يوم عرفته قبل بضع سنوات أَسَرَني تواضعه الجم وخُلقه الكريم وإنسانيته التي لا تخطئها العين، فدخل قلبي بدون استئذان، وغادرت ذهني على الفور تلك الهالة التي كنت أتخيلّها لخيلاء رجل أعمال منهمك بإدارة أملاكه العديدة وجمع الأموال وقد لا يلقي بالاً لأحد، فالمال كالسلطان وثَنٌ يخوّل صاحبه حق الأمر والنهي والتعالي على الناس، إلا من رحم ربي.
وكما نعلم أن كثيرين تسحرهم كلمة (الشيخ) ويتشبثون بها، وقد يغتاظون أو يمتعضون ممن لا يخاطبهم بها قبل ذكر اسمهم، أما (العم علي) فلم اسمع أحداً يناديه أو يخاطبه إلا بهذه الصيغة المجردة بالغة الدلالة(العم علي) توقيراً واحتراماً له، وهي الصفة التي دَرَج على مخاطبته بها – كما علمت- كل من يعرفه أو يعمل في أي مصنع أو مؤسسة أو فرع من إمبراطوريته الاقتصادية الموزعة في عشرات البلدان، وهي تعكس أرفع مقامات التقدير والتبجيل لهذا الشيخ الجليل.
وأذكر هنا بعض مواقفه الإنسانية المؤثرّة والمعبرة، التي كنت شاهداً عليها خلال مرافقتي له في إحدى رحلاته إلى مسقط رأسه يافع بمعية صديقي الرجل النبيل (أبوطه العيسائي)..وهي الرحلة التي تلت تعرفي عليه واستضافته لي ليومين متتاليين في قصره الجديد المنيف، الذي شيده في قمة جبل (أَحرَم) كعربون محبة ووفاء لمسقط رأسه، يافع، وقد تعرفت خلالها أكثر وعن قرب على أصالة معدن هذا الشيخ الفاضل ونُبل أخلاقه وكرمه وإحسانه ووفائه لأصدقائه القدماء.
اعتدنا في مجتمعاتنا العربية أن يتردد الناس على أبواب كبار رجال المال والأعمال أو يؤم بيوتهم ممن يعرفهم من أصدقائهم القدماء أو زملاء العمل غالبا.. ناهيك عمّن يتودد أو يتقرب إليهم لأي سبب.. ومن النادر أن نسمع أن ذوي الشهرة من رجال المال والأعمال يتواضعون ويذهبون بأنفسهم إلى أصدقائهم القدماء، إلا فيما ندر..والعم علي من ذلك الاستثناء النادر.
إن التواضع تاج المروءة و سُلّم الشَّرف وسمة العظماء، يستوي في ذلك العالم أو السياسي أو رجل الأعمال.. والعم علي أحدهم..فعلى الرغم مما بلغه من مكانة في عالم المال والأعمال ومن صيت طَنَّان رَنَّان، ناهيك عن كبر سنه، فأنه لم يتنكر لعلاقاته وصداقاته القديمة أو يتناسى زملائه وأصدقائه، بل تجشم في تلك الرحلة وَعثاء السفر وعناء ومشقة السير في طُرق جبلية صعبة المرتقى للوصول بنفسه عن رضا وطيب خاطر إلى أترابه وأصدقائه القدماء ممن لم ينساهم، فعزم على زيارتهم إلى بيوتهم وتفقدهم بنفسه لمجرد السلام والاطمئنان عليهم، بدلاً من أن يأتون إليه بأنفسهم.. وتلك قمة الوفاء والتواضع.
أتذكر كيف انسابت بنا سيارته من ساحة قصره المنيف نزولاً في طريق معبَّدٍ يتلوى كالأفعى في بطن جبل (أَحرَم)، وفي إحدى القرى المجاورة توقفت السيارة جانباً ونزل بنفسه وسار مشياً على الأقدام إلى منزل إحدى الأسر المحتاجة التي يشملها بإحسانه، دون أن يعرفوا أنه هو شخصياً من يطرق عليهم الباب، ويغادر بهدوء دون أن يعرفون من هو، تلاحقه دعواتهم له التي لهجت بها وبصوت مسموع ألسنة وقلوب من في ذلك الدار من النساء والأطفال، فتأثرت لهذا الموقف الإنساني وكبر في عيني هذا الشيخ النبيل، الذي يهشّ للخير ويبتهج وينشرح صدرُه فرحًا وسرورًا حين يساعد محتاجاً أو يبني مسجداً أو مدرسة في أي مكان يحتاج لذلك.
كنت أظن أن وجهتنا إلى عدن مباشرة، لكن السيارة انحرفت بنا عن الطريق المعبد إلى طريق ترابي جانبي غير معبد باتجاه (نجد العياسى) ثم نزولا وصعوداً في طريق جبلية ضيقة وشاقة وصولاً إلى قرية (حُقبة) التي تربض في حضن جبل (الحُقب)، وهناك كان اللقاء الذي هزّ مشاعري وأحاسيسي، وجعلني أقف مذهولاً أمام عظمة تواضع هذا الإنسان الوفي..
أنه في زيارة وفاء لأحد أصدقاء وزملاء مرحلة الشباب ممن قاسمهم الحلو والمر في بداية حياتهم العملية، وعانوا معاً من شظف العيش وصعوبة الحياة، هو صديقه الشيخ صالح غالب السعدي، الذي التحق في شبابه بجيش (الليوي)، فيما اتجه (العم علي) لممارسة التجارة فانعم الله عليه بالرزق والمال وعلا شأنه في عالم المال والأعمال، وظلت صداقتهما حية لم تبلوها الأيام.
أعرف الشيخ صالح غالب السعدي فهو أحد الشخصيات المرموقة في يافع، وقد جلست معه أكثر من مرة وأخذت عنه كثيرا من معلومات أحداث ووقائع كتابي عن الشيخ الشهيد أحمد أبوبكر النقيب، لأنه كان في قلب وصدارة الأحداث حينها، وهو شيخ مُسّنٌ ووقور بنفس عُمر العم علي تقريبا، وقد لقي ربه مؤخرا رحمه الله وغفر له.. كان اللقاء مؤثراً والعناق حاراً، حتى كادت دموع الفرحة أن تنساب من أعين الشيخين الصديقين، وأكبرت للعم علي هذه الروح الإنسانية وكيف كابد وتحمّل صعوبة الطريق، بل وارتقى بمشقة طريقاً جبلياً مشياً على الأقدام حتى الوصول إلى بيت صديقه الواقع في أعلى القرية.. ولكم كانت فرحة الشيخ صالح كبيرة بتلك الزيارة المفاجئة والسارة وقابل صديقه بوجهٍ ضاحِك وفرح غامر ومتدفّق، كما تبيَّن من ملامح وقسمات وجهه البشوش. وقد حاول أن يستضيفنا فاعتذر له العم علي بحجة إننا على سفر، وكان الوداع حاراً أيضاً.
موقف مماثل آخر للوفاء مع الأصدقاء كان في لقاء صديق آخر، هو صديق مرحلة الشباب، الضابط القديم في جيش (الليوي) الشيخ عبدالله صالح الجحزري العَمري، حيث واصلنا الرحلة إلى هجر لبعوس – قرية آل عَمْر، حيث مسكنه.. توقفت بنا السيارة بجانب سور منزله، وذهبت لأطرق الباب وأشعره أن عليه الخروج لاستقبال صديق قديم ينتظره في الخارج، دون أن أقول له من هو لتكتمل فرحة المفاجأة، فرأيته يهبط الدرج ببطء وبصعوبة، فعدت إلى العم علي وقلت له: أنت أخف منه، وعليك الصعود إليه.. وعلى الفور أخذ العم علي يصعد دَرَجات السُّلَّم الخارجي المفضي إلى باب المنزل، وهناك كان لقاءً وعناقاً لا يشعر بحرارته إلا من كان شاهداً عليه، وكادت أعينهما أن تغرورق بدموع الفرحة الطاغية عليهما.. وهو ما حفظته بعدسة كاميرتي، وقد أثارت تلك اللقطة انتباهي وشدّتني إلى معانيها الإنسانية الرفيعة، فاخترتها لتتصدر غلاف كتابي (الشائع من أمثال يافع) بطبعته الثالثة.
وحينما نكتب عن مناقب هذا الشيخ الفاضل، فإنما نكتب عن القيم الإنسانية النبيلة التي جسدها بسلوكه وزهده وتواضعه، على ما كان له من كعبٍ عالٍ في عالم المال والأعمال، ولهذا فالحديث عنه هو حديث عن مدرسة متميزة بالعمل والنجاح وحب الخير، جعله الله قدوة حسنة يتأسَّى بها أمثاله ممن بسط الله عليهم بالخير العميم، ومنارة ملهمة لنا ولأجيال من بعدنا.
تغمد الله فقيدنا (العم علي) برحمته وأسكنه فسيح جناته..وإنا لله وإنا إليه راجعون.