fbpx
مدن ساحرة
شارك الخبر
مدن ساحرة

شاعرة وإعلامية من البحرين

ليس صعبا أن تلتقي بالشخصيات الوهمية التي اخترعها بعض الكتاب في مدينة أوكسفورد البريطانية. تستقبلك المدينة الجامعية الهادئة والجميلة بأحضان أناسها وطلبتها وأبطال قصصها.
نعم إنها صغيرة بإرث علمي وأدبي ضخم، فالمدينة تحوي 37 جامعة إن كانت المعلومة التي أعطيت لي صحيحة في حديث قادني إلى حديث متشعب عن المدن والكتاب. وإن كانت الصدفة المحضة جعلتني استحضر الكاتب جون رونالد رويل تولكين في هذه الفترة بالذات، وأوكسفورد تستعيد حضوره البديع فيها في ذكرى وفاته في الثاني من سبتمبر/ أيلول عام 1973. بكل أماكنه التي كانت تحضنه وتلهمه ليكتب رواية القرن بخيال يفوق التصور العادي، قبل أن يتحوّل إلى فيلم حقق نجاحا وأرباحا مادية خرافية.
تولكين الذي كتب رواياته انطلاقا من عوالمه الخاصة ودراساته، تخطّى المعقول في عالم الكتابة، حتى أنه بأعماله الفريدة تلك كنموذج أدبي مخالف للموجود أطلق عليه اسم المدرسة التولكينية. لغة لا نجدها إلا في أوكسفورد حيث عاش ودرّس وكتب تولكين. أماكنه الموجودة إلى اليوم تستحق أن تزار، فقد نسي قصاصات مكتوبة بخط يده، ولأنه محظوظ ربما أو قراءه هم المحظوظون فقد حافظ أصحاب تلك الأماكن المخصصة للشرب واللقاءات بين الأصدقاء بقصاصاته وألصقت هناك حيث كان يجلس. يكاد الزائر لتلك الأماكن أن يشعر بتواجد روحه في المكان.
وهناك طلاب علم قادمون من كل أنحاء العالم، ورغم اختصاصاتهم المتنوعة بين ما هوعلمي وأدبي إلا أنهم يقرأون كثيرا. الجو العام للمدينة يجعلهم يذهبون نحو الكتب والانغماس في محتوياتها، حتى المتسولون، يستعطفون المارة بتقمص شخصيات من نتاج المدينة الأدبي. بعض أولئك يتقمصون شخصيات «الهوبيت» لتولكين، و« سيد الخواتم» . يتخذون من شوارع المدينة مسرحهم الحقيقي لعرض مواهبهم، حتى لا يأخذوا منك صدقة بدون مقابل، من بينهم من يدعوك للذهاب معه واكتشاف السحرة والأشباح والأشرار في أزقة المدينة، فيجتمع السيّاح حوله وقد استهوتهم الفكرة ويرمون في قبعته بعض القطع النقدية قبل أن يقودهم إلى حيث يريد.
في الأزقة نفسها يجلس مصاص دماء بردائه الأسود الطويل والدماء تقطر من فمه وأنيابه الطويلة ويدعوك لجولة صغيرة أكثر متعة من جولات الهوبيت… تنافس شريف يستحق الاحترام.
أرنب «أليس في بلاد العجائب « يجلس على دراجته وينفث بالونات الصابون، وقبل أن تسأل لماذا يرتدي ذلك الرجل تنكُّرَ الأرنب الأبيض الشهير ستعرف وحدك، فالكاتب لويس كارول عاش هو الآخر في أوكسفورد، وكتب قصته تلك باسمه المستعار خوفا من أن يهان ولم يعرف أبدا أن قصته ستصبح من الأعمال الأدبية الخالدة، وأنها ستترجم لأكثر من سبعين لغة وتنتج على شكل مسرحيات ومسلسلات وأفلام لا حصر لها خلال قرن ونصف القرن من الزمن بعد نشرها.
وأن أليس التي سقطت في جحر أرنب واكتشفت عالما عجيبا تحت الأرض ستجوب العالم وستجذب مئات آلاف من السياح إلى أوكسفورد، يمكننا تسميتهم بعشاق الأدب والفن كما يمكن تسمية ذلك النوع من السياحة المنظمة في مدن مثل أوكسفورد بالسياحة الأدبية.
وإن كانت المدينة كلها تنبض بروح الكاتب وأبطال وأحداث القصة، فإن متحفها يروي تفاصيل أكثر إدهاشا عن أستاذ الرياضيات الذي التقى بنات صديقه وروى لهن حكاية من خياله مستعملا اسم إحداهن «أليس» لتسليتهن، لكن أليس طلبت منه أن يكتب لها القصة حتى لا تنساها، فما كان من الرجل سوى أن احترم طلب الصبية ذات العشر سنوات فكتب القصة وأهداها لها سنة 1846 وهكذا خلد اسمه ودخل عوالم الكتابة وسرد القصص، ومنح المدينة سرا جوهريا أبديَّ البقاء.
الغريب أن مدنا كثيرة غارت من أوكسفورد وتمنت لو أن كارول استلهم قصته منها. كثيرون توقفوا عند تفاصيل بلاد العجائب التي اخترعها كارول وبحثوا عمّا يشبهها في الواقع، أو ما يمكن أن تكونه قبل أن تتحوّل إلى مادة أدبية. وفي كل الحالات فإن هذه المشاعر التي تولدت عند المهتمين بالأدب بعد انتشار قصة أليس، تحوّلت إلى ما يشبه السجال المنتج، الذي حث فنانين من كل نوع لصنع تماثيل وفتح متاحف لإضفاء روح القصة على أمكنتهم المحتملة. أما قبر كارول فهو قبلة كل الذين بدأوا طفولتهم بقصة عجائبية مثل قصة «أليس في بلاد العجائب» .
هذا العالم الجميل، الذي يمزج بين الأدب والحياة لا نجده عندنا، يولد الكتاب وتولد القصص عندنا ثم تنتهي في كتب يعصف بها النسيان والإهمال واللامبالاة، وأعتقد أن الشعوب الغربية رغم أنها مرّت بالمراحل نفسها التي نمر بها، إلا أنها تعلمت وتطورت سريعا، واستفادت من كل منتوج أدبي ولو بعد وفاة صاحبه بشكل يليق بالأدب. والأمثلة كثيرة لمدن حافظت على بيوت كتابها وشعرائها، مثل متحف رامبو في ضاحية كامدن وفيكتور هيغو في باريس، ومتحف تشيرلوك هولمز في لندن، وغيرها.. ففي المدن الأوروبية إن اعتمدت دليلا سياحيا جيدا، ستسمع لمرات عدة جملة: «لقد عاش الشاعر الفلاني أو الكاتب العلاني هنا».
في أوكسفورد نفسها يشير لك أي مواطن منها إلى أن أوسكار وايلد وشكسبير وتوماس إدوارد لورنس عاشوا هناك، ونستون تشرشل العظيم أيضا تعود جذور عائلته إلى تلك المدينة، أمّا مارغريت ثاتشر المعروفة بالمرأة الحديدية فقد درست في جامعة أوكسفورد كما في جامعة كامبريدج، لكن توني بلير المتأثر بها جدا التحق بجامعة أوكسفورد وأصبح بشكل ما من مشاهير المدينة أيضا. وفي أوكسفورد نفسها يوجد أول متحف جامعي على مستوى العالم كله، وهو متحف «آشمولين» الذي لا تتوقف فوائده عند ما يعرضه، بل هي النشاطات المتعلّقة بالقراءة والإبداع الأدبي والفني على مدى العام.
وأجزم أن زيارة المدن إن لم نبلغ منبع آدابها وفنونها فلن نكتشفها أبدا، ستبقى ضحلة في أعيننا، غير واضحة المعالم، مثل الناس الذين نتعرّف عليهم خلال بهرج جلسات اجتماعية ونقيّمهم من خلال أثوابهم وكلامهم المنمّق البعيد عن حقيقة أعماقهم.
لقد عشت في عالم الكتب طويلا، ولا أدري ما الذي شدّني بالضبط للحكايات، وقد آمنت لفترة بشخصيات أنجبها الأدب، وإن كانت طبيعة مجتمعنا قاسية وتصدمنا برفض كل ما هو متخيل، فإن مجتمعات أخرى تؤمن بأن ما تنجبه المخيلة هو من صنيع الحياة، وأنه لا شيء خارج ما نعيشه ونراه يوميا، وأن الحكايات التي زخرت بها ذاكرة الشعوب نابعة من تجارب إنسانية ذات قيمة، لهذا حافظوا عليها ومنحوها هياكل حيّة، بل بالغوا في جعلها ملموسة حتى درجة اليقين بأنّ الأدب أهم وأغلى من كل كنوز الدنيا الفانية.

وحدها القصة تقاوم الموت…

ألم يحكم على «ألف ليلة وليلة» بالإعدام على سبيل المثال؟
نعم .. لكنني أتوقع جازمة أنها بعد أن قاومت الموت وبقيت حيّة ستخرج في عوالمنا الحقيقية بكل شخوصها وحينها فقط سنكون تخطينا مرحلة التدمير الذاتي وسننطلق في دروب الحياة لنلحق بركب الأمم.

أخبار ذات صله