fbpx
درجة الشغف
شارك الخبر

بروين حبيب

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

■ الكتابة شغف يسكن صاحبها قبل أن تكون مهنة، شغف لا يقف عند حدود إقناع القارئ، فإذا لم يقتنع تبهت الكتابة كمن أشعل مكانا ثم أطفأه بغتة وانسحب.
شغف الكتابة يتعدى تلك الحدود، لأن هم الكاتب الشغوف هو أن يشارك قراءه الأفكار والجوارح حتى إن لم يقنع أحدا. الآن بين هذه المراحل منذ ولادة ذلك الشغف في قلب الكاتب إلى بلوغ نتاجه قلبَ القارئ تسلك الكتابة طريقا شائكا.
الكتابة ليست مهنة رابحة، ومن يعتقد أنه سيعيش منها أو يصيب ثروة فقد أخطأ.
نعم، هناك كتاب حققوا ثراء فاحشا من الكتابة، ولمعت أسماؤهم في سماء الشهرة، حتى أن أسماءهم اقترنت بالأدب و كأنهم هم فقط من كتبوا، بل إنها غطّت ببريقها أسماء كثيرة.
شغف الكتابة قد يدمر حياة صاحبه ويرمي به في غياهب الفقر والعوز، لأنه مثل ذلك الشخص الذي ينغمس في زراعة حديقته وينسى أن العالم خارج الحديقة لا يراه ولا يعرفه ولا يرى حديقته وإنجازه. بعض الكتاب لديهم هذا الشغف لكن برغبة أخرى لفتح الأبواب والترويج لحديقتهم. شغف الكتابة الذي لا يلازمه حب الضوء والشهرة يمص صاحبه حتى ينطفئ.
خطر ببالي هذا الموضوع وأنا أقرأ حكاية «كاتب المترو» الذي قذف به شغف الكتابة إلى تنظيف أنفاق المترو ليلا ليوفر لقمة عيشه ويتفرغ للكتابة في أوقات أخرى متفاديا صخب النهار الذي ينام خلاله. حكاية فريدة من نوعها للكاتب الأرجنتيني أنريكي فيراري المعروف باسم كيك فيراري، الذي نال عدة جوائز وترجمت كتبه الستة لعدة لغات، لكن هذا لم يمنحه مدخولا يحفظ كرامته ويجعله يعيش بشكل محترم.
طريق الكتابة يعني المضي في العطاء بكامل وعينا وحواسنا، من دون توقع مردود. لأنه كما قال فيراري على لسان والده حين أهداه أول كتاب في حياته: «القراءة هي التي تميزنا عن القردة». نحن نقرأ لأن هناك من كتب لنا. نقرأ لنعرف ونفهم ونكتشف ونخرج من وهم المعرفة الغبية التي يتداولها الناس ورؤسهم مغلقة.
منذ بدأت أقرأ، تنامت لدي فكرة أن أكتب. كنت طفلة ومع هذا حرّكتني كتب لأكتب. ليس لأنني تأثرت بها، بل لأنها حفّزت شغف الكتابة في داخلي لينمو ويكبر ويزهر ويعطي ثمارا. لم أكتب لأنني أريد أن أكون فلانا أو علاّنا، بل كتبت لأنني شعرت بالرغبة في ذلك، ثم أصبح الشغف تسليتي ومتعتي، ثم أخذ مسارا آخر حين تحوّل إلى مثابرة، ثم جمع كل هذه الصفات ليأخذ صبغة الواجب والحق معا.
مثل فنجان القهوة الصباحي.. مثل الرغبة في السفر والتحليق خارج المعتاد والمألوف، تنسكب الكلمات من بئر عميقة في رأسي وتملأني حتى تنهمر من جوارحي وفؤادي. أنا لا أكتب لأن الأمر غير مفهوم لديّ. أنا أكتب لأن الكتابة تأسرني. أحيانا وأنا أسوق سيارتي تطرق الكلمات في رأسي، تريد أن تخرج وكأنني أحتجزها عنوة. أحيانا أخرى أكون نائمة، فاستيقظ لأشرب كوب ماء، لكن الكلمات تأخذ مكانها في عقر رأسي وتبدأ حفلتها. ولا مجال لتجاهلها، أو لتأجيل تسجيلها، لأنني إن لم أدونها في مفكرتي فإنها ستمضي ولن تعود بذلك الوهج.
حدث لي أيضا أن أكون في مكان صاخب بالحضور، فإذا بسلطان اللغة يحلُّ في رأسي مثل من يدخل عرشه، فيتملكني ذلك الشعور الغريب بترك كل شيء والتحليق معه في عوالم الأدب.
كتبت نصوصا في ظروف مختلفة. كتبت مع حرقة البكاء وكثافة الحزن، كما في صخب الفرح وضجة الضاحكين. لم أعرف أبدا طقوسا معينة تستحضر الكتابة،
فقد كانت علاقتي بها دوما علاقة وطيدة، لدرجة أنني أشعر بأنها قريني الحقيقي، وروحي التي تسكنني.
كثيرون عاشوا هوس الانقياد خلف الكتابة، الذين كتبوا وقوفا كانوا يتأهبون لها ويخافون إن جلسوا على مقعد أن تذهب.. ومثلهم أولئك الذين يستيقظون ويعتدلون في أسرّتهم ويبدأون الكتابة قبل أن يفعلوا شيئا آخر. وهناك من لديه عادات غريبة أخرى حيث يبدو جليا أن الكتابة هي من درّبتهم ليكونوا طائعين لها. جان كوكتو يصف ذلك بعلاقة حب بين الكاتب والكتابة يقول: «الأدب أن تكتب بحب، وإلاّ فأنت تكتب أي كلام».
وذلك الشغف، والعشق نحو اللغة وسلطة الكلمات لا مفهوم لهما، البعض يقول إنهما موهبة، لكن هل كل المواهب تثمر إن غاب ذلك الشغف وتلك العلاقة الإيجابية بين الشخص وموهبته؟
قديما كانت المواهب تموت لأنها تقمع، ليس كل راغب في الكتابة يكتب، بل في مرحلة ما كانت كتابة قصة أو قصيدة حب نوعا من «العيب» الذي يخجل الكاتب أن يوقعه باسمه. الأدب الذي عاش وانتعش حدّ قتل صاحبه هو أدب مثل حكاية العشق المجنون بين قيس وليلى.
بعض الكتاب إن حرموا من الكتابة مرضوا. بعضهم الآخر يبلغ مرحلة الانتحار لأنه لا يجد وقتا بين أعباء الحياة ليكتب، وإن وجده مقتطعا بين الحين والآخر فإنه يكتب بكاء روحه ويتشبث بالحياة ليستمر في ذلك البكاء. على نسق ما قالته مارغريت دوراس ذات يوم: «أن تكتب يعني ألا تتكلّم، أن تصمت تماما، أن تصرخ من دون أي ضجيج». لطالما كانت الكتابة صديقا حميما نرتمي في أحضانه لنبكي ونستعيد عافيتنا. ترى لو أن كاتب المترو غريب الأطوار وجد وظيفة أفضل، ورفاهية أحسن هل كان سيستمر في الكتابة؟
يحضرني السؤال لأن بعضنا يعتقد أن الكتابة مرتبطة بالحزن. فيما في الحقيقة الكتابة عشيقة سرية (أو عشيق سري) يستحوذ على تفكير الكاتب في السرّاء والضرّاء.
يستحيل أن ينجب الحزن كاتبا، إنه شغف الكتابة الذي يفعل. وهذا الشغف يبدأ حين نقع في حب أول كتاب نقرأه، قد يكون الثاني وقد يكون كتابا لامس الزّر السري لملكة الكتابة فينا.
حين تكون خياراتنا جيدة في اقتناء الكتب المناسبة لأبنائنا فنحن نهيئهم ليكونوا قراء جيدين، ونربي فيهم الحكمة والرؤية السديدة للأمور، والتعامل مع الحياة بميزان العقل والمشاعر الإنسانية. فوحدها محتويات الكتب تبلغ الأعماق المظلمة في النفس البشرية وتنيرها. ومن بين هؤلاء القراء، يولد كتاب متميزون، ويمكن معرفتهم منذ نعومة أظفارهم حين يحتجون على بعض تفاصيل الحكايات ويخبرون بتفاصيل ترضي رغباتهم أكثر.. تلك التفاصيل التي يخترعونها ليست إلا تباشير شغف السرد وقول ما لم يقل بعد من دون خوف يطلقون العنان لأفكارهم، فيما غيرهم يكتفي بالقصة كما هي.
ليس كل قارئ قارئا، و ليس كل كاتب كاتبا. إسأل أي شخص كم كتابا قرأ في السنة لتعرف مدى شغفه بالأدب. بعض الكتاب لا يقرأون كتابا خلال سنة، كيف يكتبون إذن وهم لا يضخون دما جديدا في شرايينهم؟ كيف يصدرون كتابا ويبحثون يوميا عمّا كتبته الصحافة عنهم؟ كيف يكتبون وشغفهم الأول ماذا قال فلان؟ وماذا قال علاّن عنهم؟ نعم فحتى الكاتب الحقيقي ينجبه شغف الكتابة وليس شغف الأضواء. ولأن الكُتّاب درجات فإن الشغف أيضا درجات.

أخبار ذات صله