fbpx
محمود درويش في إسرائيل: الكابوس الطروادي
شارك الخبر

صبحي حديدي

في الذكرى الثامنة لرحيل محمود درويش (1941 ـ 2008)، التي تحلّ يـــوم غد، التاسع من آب (أغسطس)؛ أستعيد حكاية النقاش الإسرائـــيلي الأخــــير، الذي أثاره بعض رجالات اليمين، واليمين المتــدين المتشدد، حول الحديث عن شعر الراحل في إذاعة الجيش الإسرائيلي.
مسوّغ عودتي، هنا، لا يتصل بتصريحات وزير الجيش أفيغدور ليبرمان، أو وزيرة الثقافة ميري ريغيف؛ فالمرء ليس على درجة من الغفــــلة، أو السذاجـــة، بحيث ينتظر من أمثالهما أيّ ردّ فعل آخر غير التشــنج العصابي إزاء أيّ ملمح ثقافي أو إنساني فلسطيني، فكيف بشعر درويش.
الأمر، في المقابل، يرتدّ في جذوره إلى عقلية صهيونية ضاربة في القدم، والرسوخ والتأصّل إذا جاز القول؛ سعت، وما تزال تسعى، إلى تفادي أيّ طراز من المواجهات ـ الثقافية والأخلاقية، قبل تلك السياسية ـ بين الروايتَين الفلسطينية والإسرائيلية. وليس هذا بسبب أنّ السردية الأخيرة قصيرة العمر، حديثة العهد، هلامية التوثيق، توراتية المرجعية، واهنة التأريخ، فحسب؛ بل كذلك، أو قبلئذ ربما، لأنّ السردية الأولى مشبَعة بأبعاد إنسانية فذّة، يلتقي عندها شجن المأساة بأنفة الملحمة، وتتصادى في جوانبها سِيَر ارتطام الحقّ بالباطل في الروايات الكبرة للشعوب. ولهذا لم يكن تفصيلاً عابراً أن يلحّ درويش على انتمائه إلى مزيج كنعاني وطروادي في آن معاً، وأن يذكّر إسرائيل بأنّ سردية الغزو، على شاكلة الغازي: عابرة، في كلام عابر!
ولعلّ المرء يعود 16 سنة إلى ماضي هذا النقاش، حين ارتأى يوسي ساريد، وزير التربية والتعليم يومذاك، أن يدرج نماذج من شعر درويش في منهاج للأدب متعدد الثقافات، في المرحلة الثانوية؛ لأنّ «من المهمّ أن نعرف بعضنا البعض، والجهل ليس الوصفة المثلى للجوار الطيب»، كما قال. الليكود، وأحزاب اليمين والمتدينين، أقاموا الأرض ولم يقعدوها ضد حكومة إيهود باراك، وذهبوا إلى حدّ التهديد بجلسة في الكنيست لحجب الثقة عن الحكومة إذا أجازت قرار ساريد. وكان أطرف التعليقات على الموضوع ـ ويومها تبارى الكثيرون في الشتائم المقذعة وتنافسوا في تغذية الفزع من الشعر! ـ ذاك الذي صدر عن «الحزب الديني القومي»، حين اعتبر أنّ ساريد قد اتخذ «قراراً بلشفياً»! وكما هو معروف، انتهت المعمعة بتحكيم قاطع من باراك نفسه: الطلاب الإسرائيليون ليسوا مستعدين، بعد، لقراءة درويش!
من جانب آخر، ولعله تفصيل جدير بإثارة الدهشة، ظلّ بعض المدرّسين الإسرائيليين يقترحون دراسة شعر درويش من باب اختياري، أو كواحد من مصادر التوسع في دراسة الأدب الفلسطيني والعربي المعاصر. وقصيدته «فكّرْ بغيرك» ـ القصيرة، من مجموعة «كزهر اللوز أو أبعد»، 2005، التي يقول مطلعها: «وأنتَ تعدّ فطورك، فكِّرْ بغيركَ/ لا تنسَ قوت الحمامْ/ وأنت تخوض حروبك، فكّرْ بغيرك/ لا تنس مَنْ يطلبون السلامْ» ـ تُدرّس كنموذج على الأدب المناهض للهولوكوست! وكان درويش، يوم معمعة ساريد وباراك، قد علّق ساخراً: إذا أفزعتهم قصيدة «عابرون في كلام عابر»، فليقرأوا قصيدتي عن أمّي مثلاً! ولعله، لو عاش حتى معمعة ليبرمان الأخيرة، كان سيقترح قصيدة أخرى لتهدئة روع إسرائيل: «درس من كاماسوترا»!
هذا شعر كابوسي، إذن، في الحساب الصهيوني الذي يخشى صدام الروايتين؛ وهذا شاعر كابوسي، لأنه كنعاني وطروادي، في حساب صهيوني بدوره، لكنه يُفرد قيمة مضاعفة لاصطراع وجدان بوجدان مضادّ؛ وهذا، كما قد يقول لك صوت أذكى، وأندر بالطبع: «أولاً وقبل كلّ شيء شاعر كبير، امتلك عظمة شعرية حقيقية، حتى أنّ إنساناً مثلي قرأه عبر ترجمات أشعاره لا باللغة الأصلية، كان في إمكانه أن يعجب بمخزون الصور والأفكار الغنية لديه، وبالحرية الشعرية التي سمح لنفسه بانتهاجها»، يقول الروائي الإسرائيلي أفراهام ب. يهوشواع. أو: عظمة درويش الأساسية هي «البلورة الشاعرية الثاقبة للذاكرة التاريخية الفلسطينية، وخصوصاً في ما يتعلق بقضية اللاجئين»، يكتب تسفي بارئيل، محرّر الشؤون العربية في «هآرتس».
وفي مطلع التسعينيات نشرت الشاعرة والناشطة الحقوقية الراحلة داليا رافيكوفتش مقالاً بعنوان «محمود درويش: أن تكون شاعراً ليس بالشيء الكبير»؛ وفيه وجهت نقداً شديداً إلى السلطات الإسرائيلية بسبب إصرارها، آنذاك، على منع درويش من زيارة أهله في فلسطين الـ48. ويكفي أن يتأمل المرء القرار الإسرائيلي برفض دفن درويش في أيّ شبر من فلسطين الـ48، لكي يعكس عنوان مقالة رافيكوفيتش: أنْ تكون شاعراً هو شيء كبير من حيث المبدأ، وأن تكون شاعراً من طراز محمود درويش هو شيء كبير… كبير. أما أن تكتب الشعر بالعيار الأخلاقي والإنساني والحضاري والتاريخي الذي اعتمده الراحل طيلة أربعة عقود ونيّف، فذاك ليس بـ»الشيء الكبير»، فحسب؛ بل هو أمر جلل، وقضية خطيرة، وكابوس مستديم!

أخبار ذات صله