fbpx
تركيا . . . إلى أين؟

د عيدروس نصر ناصر

فشلت المحاولة الانقلابية التي قام بها مجموعة من العسكريين الأتراك ضد سلطة الرئيس رجب طيب أردوجان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، وهذه المحاولة وفشلها يطرحان مجموعة من الأسئلة التي تستحق التوقف والمناقشة تبدأ بالسؤال: لماذا المحاولة الانقلابية؟ ولا تنتهي عند: لماذا فشلت المحاولة ومن الذي أفشلها؟

ولا يزعم كاتب هذه السطور أن لديه الإجابات القاطعة والنهائية لكل الملابسات المتصلة بتلك الأسئلة، لكنها محاولة لسبر أغوار الحالة التركية والخوض في بعض تفاصيلها.

لا بد من الاعتراف بأن الرئيس رجب طيب أردوجان ربما يكون الرئيس الأشهر في تاريخ تركيا بعد مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، ويستمد شهرته من إنه أولا: الرئيس الذي مكن حزبه أن يقود تركيا لثلاث فترات انتخابية متوالية، وبفضل المحاولة الانقلابية قد يستمر فترات إضافية، لكن الأهم أنه وفي ظل حكم حزبه تمكن من إجراء تغييرات عاصفة في النظام التركي منها الاقتصادي ومنها السياسي ومنها ما يتعلق بعلاقات تركيا الخارجية، كما في الشؤون الداخلية، فلأول مرة بعد عشرات السنين من الانهيار تستعيد الليرة التركية قيمتها وتستقر عند مستوى معقول، كما تقلصت البطالة وارتفع معدل النمو وارتفع مستوى الخدمات الاجتماعية وتنامت عجلة الاستثمار وجرت محاربة جادة للفساد الذي ظل ينخر في جسم الاقتصاد التركي، وارتفعت مكانة تركيا من المراتب المتأخرة إلى المرتبة السابعة عشرة في الاقتصاد العالمي وصارت السلع التركية تغرق الكثير من الأسواق الأروبية والآسيوية، وعلى الصعيد الخارجي، بغض النظر عن الجانب الدعائي القوي لسياساته فإن أردوجان هو أول رئيس تركي يجمد العلاقات مع إسرائيل، وهو الرئيس التركي الوحيد وربما الوحيد في العالم الذي يقاطع رئيس إسرائيل أثناء حديثه، ويغادر الاجتماع الذي كان يتحدث فيه وبقدر ما كان لإسقاط الطائرة الروسية فوق الحدود التركية من عواقب سلبية، لكن هذا الحادث مثل ارتفاعا في أسهم أردوجان وتركيا على صعيد العلاقات الدولية ووسع من احترام تركيا لنفسها واحترام أصدقائها لها.

لكن بالمقابل أردوجان أقدم على إصلاحات جذرية داخل المؤسسة الحاكمة التركية أولها توسيع صلاحيات الرئيس ونقل الحكم من برلماني إلى رئاسي، مع تقليص مكانة الجيش والحد من نفوذه وجعله خاضعا للمؤسسة الدستورية بعد أن ظلت كل المؤسسات الحاكمة في تركيا تخضع للجيش التركي على ما ما يقارب قرن كامل من عمر الجمهورية التركية.

وعلى صعيد حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه تمكن أردوجان من إزاحة أبرز النجوم السياسية فيه وأهمها، فتح الله جولن الذي انشق عن الحزب وكون مجموعة موازية تبنت انتقاد مفاسد حكم أردوجان، وعبد الله جول الرئيس السابق والوجه الأبرز قبل تولي أردوجان رئاسة الوزراء، وأخيرا أحمد داوود أوجلو الشخصية الدبلوماسية المحنكة والسياسي البارز.

هذه التحولات السياسية في ظل حكم أردوجان بقدر ما صنعت له من الخصوم ووسعت مساحة المتضررين منه، بقدرما وسعت دائرة المستفيدين من حكمه، ولعل أبرز المستفيدين من فترة حكم أردوجان وما شهدته من سياسات هم الفئات الشعبية من الفقراء من العمال والمزارعين والموظفين الصغار، والشباب الذين حتى الأمس القريب كانوا عاطلين عن العمل ، والطبقة الوسطى من صغار التجار والمستثمرين والموظفين الحكوميين، وحتى الطبقة الغنية من البرجوازية الوطنية (غير الطفيلية) التي وجدت فرصة لاستثمار أموالها في ظل سياسات أردوجان.

أما معسكر خصوم أردوجان فقد تكون من العسكريين الطامحين إلى استعادة مكانة الجيش في التحكم بمسار الحياة السياسية التركية، فضلا عن معارضين سياسيين كثر من أحزاب المعارضة المعروفة والقوى الكردية التي تطرح قضية الأكراد بقوة والتي تصرف معها أردوجان بقسوة لا تختلف عن قسوة أسلافه، لكن المعارضة السياسية التركية لا تصل برفضها لأردوجان إلى مستوى الانقلاب عليه، كما لا يمتلك حزب الأكراد مواقع في الجيش التركي حتى يدبروا انقلابا على أردوجان.

إذن محاولة الانقلاب لم يقم بها إلا تلك الفئة العسكرية الطامحة إلى استعادة سلطة الجيش التي كانت توصف بأنها فوق الدستور والمؤسسات الدستورية.
لماذا فشلت المحاولة الانقلابية؟

لم تفشل المحاولة الانقلابية لأن أردوجان ديكتاتورٌ، ولا لأنه زعيمٌ عند مستوى الملائكة، بل لقد فشلت لأنها أتت مهددة لمصالح عشرات الملايين من المواطنين الأتراك، والأهم من هذا لأنها أتت ضد الديمقراطية التركية التي أتت بأردوجان وهي الكفيلة بإخراجه من الحكم، ولقد لاحظنا أن المواطنين وقفوا عزلا من السلاح في وجه الدبابة، كما أدانت أحزاب المعارضة، التي تمقت أردوجان وترفض سياساته، المحاولة الانقلابية، ذلك لأن الانقلاب لم يكن ضد أردوجان وحكمه وحدهما، بل كان ضد الديمقراطية والحياة المؤسسية وقبل هذا لأنه يهدد المصالح التي حققها ملايين المواطنين الأتراك بفضل السياسات الاقتصادية الناجحة لحكم أردوجان.

ويمكننا اختتام هذه التناولة العاجلة بجملة من الاستخلاصات الرئيسية أهمها:

  1. إن زمن الانقلابات التركية قد ولى ومن الصعوبة بمكان التنبؤ بعودته
  2. إن من دافع عن أردوجان هو ملايين التركيين الذين شعروا بأن الانقلاب سيعود بهم إلى زمن الفساد والديكتاتورية العسكرية والاضطرابات السياسية والاقتصادية التي شهدتها تركيا طوال عشرات السنين المنصرمة.
  3. إن العسكر ينبغي أن يظلوا بعيدا عن ساحة السياسة وأن تقتصر مهماتهم في حماية حدود البلد وسيادتها، وبعبارة أخرى لا يمكن الجمع بين الديمقراطية والزج بالعسكريين في الحياة السياسية.
  4. إن ردود الأفعال المتشنجة الصادرة عن حكومة أردوجان بعد إفشال المحاولة الانقلابية تضع تركيا أمام طريقين لا ثالث لهما:
    أ‌. إما الذهاب نحو المزيد من الأعمال الانتقامية، وهو ما يفتح الأبواب واسعة أمام تصفيات تشمل الآلاف من المعارضين الذين ظل أردوجان يتمنى أن يجد سببا للتخلص منهم، وقد وفرت له المحاولة الانقلابية هذا السبب، ولذلك لاحظنا تسريح آلاف القضاة وممثلي النيابة العامة والقادة العسكريين والأمنيين، في أقل من 48 ساعة بعد إعلان الانقلاب، وهو ما يبدو أنه سيتواصل، وما يعني أن تركيا قادمة على فترة عدم استنقرار قد لا تتوقف قريبا، مع احتمال قيام حكم ديكتاتوري قمعي قد يستمر سنوات وربما عقودا، وإن تلفع بعباءة الديمقراطية.

ب‌. وإما أن ينهج أردوجان وحزبه نهجا تصالحيا، ويتصرف بحكمة مع ما بعد إفشال الانقلاب ، من خلال استبعاد من يشكلون خطرا عليه، لكن دونما أعمال انتقامية، مع إصدار عفو بحق المتورطين الصغار في المحاولة الانقلابية، خصوصا ممن كانوا مجرد منفذين لأوامر القيادات الانقلابية، وفتح صفحة جديدة من التسامح وتوسيع دائرة الانصار، واحترام قواعد الحياة الديمقراطية.

ومن الملاحظ أن الأحزاب السياسية التي كانت على حق في إدانتها للمحاولة الانقلابية ، قد أخرست أمام ما يتعرض له جهاز القضاء من استئصال، وتسريح الآلاف من القضاة وممثلي الادعاء، ويبدو أن أحزاب المعارضة تخشى أن يتحول اعتراضها على بعض الإجراءات التعسفية إلى سبب في اصطدامها بحالة الهيجان الجماهيري الرافض للانقلاب والخارج عن السيطرة والتحكم.

وتظل الأبواب مفتوحة على مختلف الاحتمالات في ظل الجرح العميق الذي تركته محاولة الانقلاب الفاشلة في جسد السياسة التركية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*   من صفحة مركز شمسان للدراسات والإعلام على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك.