fbpx
الوجه الآخر للسلام اليمني

هناك عُرف مثير يستهوي عادةً الأمم المتحدة لإخفاء أو للتستر على طبيعة المفاوضات التي تجري بين أطراف أي نزاع داخلي كان أم خارجيا على طول وعرض العالم بالتشديد دوماً من خلال سردياتها البلاغيّة ـ جيدة الصياغة ـ حول طبيعة أي مفاوضات بإحالتها على مساعي السلام وتدابيره.

ومن المؤكد أن ترشح عن بعض أطراف النزاع في بعض الحالات رغبة صادقة في إحلال دعائم حقيقية للسلام، أو في حالات أخرى قد يؤدي التوصل إلى عقد تفاهمات، من أي نوعٍ كانت، بين أقطاب الصراع إلى إفساح مجالاً ولو ضيقاً حرجا يسمح بولوج سلامٍ منهكٍ على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
على أنه يبدو في حالاتٍ كثيرةٍ صعوبة تحقق مثل هذه الأمنيات الفارهة التي ينتظرها المواطن البسيط كأخر أطواق النجاة من بين مخالب وأنياب قوى ضارية تحركها دوافع غلبة مستحكمة، ولا تلتئم في طاولة مفاوضات إلا لتخيير المُجْتمِعين على أمرين لا ثالث لهما: فرض شروطها على الطاولة، أو فرضها على الأرض، ودون حساب أي عواقب لذلك.

وتحت إغراء عجلٍ يُوهِم بالقبض على أثرٍ من سلامٍ يبدو بعيد المنال أو حتى من سرابه تنقلب المفاوضات من مهمة جليلة لتكريس السلام وتثبيت دعائمه إلى حفلة أممية بلهاء للتوقيع على شروط غلبة جديدة، تبدو في ظل وضعٍ معقد وحسابات سياسية ضاغطة وغشاوة التصورات والتدابير كأخر خيارات السلام الممكنة، بينما تتبدى على أرض الواقع كـ”طريق سريع” نحو اللا استقرار المستدام.
في هذا الأفق، تجري مفاوضات السلام اليمنيّة بين أطراف النزاع المختلفة في الكويت دون أن ترشح إلى حد اللحظة وبعد مضي أكثر من شهرٍ على انطلاقها أي مؤشرات إيجابية عن إحراز تقدم في سبيل مهمة السلام المتوخى من هذه المفاوضات، السلام الذي تبشر به، وبثقة عمياء، “أناجيل” الأمم المتحدة بات يُنظر إليه في أماكن كثيرة، ومنها اليمن، كما يٌنظر إلى “المهدي المنُتظر” في أوساط المتدينين!

من المُفيد التذكير هُنا بأن هذه المفاوضات تأتي استكمالاً لجهود ومساعٍ أممية مثابرة بدأت منذ إجبار الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح على تسليم السلطة إلى نائبه عبدربه منصور هادي بعد الانتفاضة الشعبية التي تفجرت في مطلع العام 2011 وطالبت برحيله.
الجهود الأممية اُستِهلَت برعاية مؤتمر للحوار الشامل بين طيف من القوى السياسية والاجتماعية اليمنية، تم الترويج له، وبشكلٍ مُبالغ، كطريق للعبور الأمن إلى المستقبل، وفرصة لا تُعوض لتحقيق مطالب التغيير المشروعة والعادلة.

ولأسبابٍ كثيرةٍ لعل أبرزها إخفاق هذا المؤتمر في أن يكون مؤتمراً شاملاً حقيقيّاً سواء من حيث استيعاب كل القوى السياسية المؤثرة في الساحة أو من خلال خنق أفق الحلول في تصورات ضيقة للغاية.. وثانياً في كون أبرز القوى السياسيّة التي كانت حاضرة فيه وهيمنت وجهات نظرها على الصياغات النهائية كانت تفتقد كليّاً للرغبة والاستعداد في العبور الأمن إلى المستقبل وتحقيق المطالب الشعبية العادلة. ولعل عدم الإدراك الكافي من قِبل خبراء الأمم المتحدة لدهاليز السياسيّة اليمنية ولأعرافها الأثيرة جعل من الوقت المستهلك في نقاشات الغرف المغلقة فرصة سانحة لإعادة ترتيب الأجندة الخاصة على الأرض في سبيل استكمال الهيمنة بوسائل متعددة، فكانت “الحرب الشاملة” التي عَبَرت حاضر ومستقبل البلاد من أقصاها إلى أقصاها صورة لسوء التقدير الأممي، وتعبير واضح عن نزعات القوى المحلية المهيمنة!

بعد أشهرٍ عديدةٍ من الحرب وما خلفته من دمار وخراب هائلين، عاودت الأمم المتحدة مساعيها المضنية باستبدال طاقمها المشرف على المفاوضات، فتكللت الجهود بعقد لقاءين سابقين في سويسرا قبل أن تلتئم طاولة المتحاورين في الكويت، ولكن هذه المرة بحثاً عن مخرج للعبور من مستقبل الحرب إلى سلامة المستقبل، ومع نفس القوى التي نقلت البلاد من حوارٍ قيل أنه “وطني” إلى “حربٍ لا وطنيّةٍ” مدمرةٍ.

قد لا تبدو الأمور عبثيّة بالنسبة لخبراء الأمم المتحدة وهم يرقبون عن كثبٍ مثل هذه الانتقالات الصاعدة باستمرار نحو الهاوية، وهم مستعدون على الدوام للإدلاء بتخريجات بيانية أنيقة، لكن من واقع الحال كم بات يبدو مثل هذا “السلام” المزعوم غريباً وهزليّاً، ويطفح بالعبثية واللا معنى!
وما أقسى أن تفقد الأشياء معانيها بهذا الشكل المُفرِط!
ـ (ميدل إيست أونلاين)