fbpx
أمن مدينة عدن ليس مُجرد وجهة نظر!

شغلت الإجراءات والتدابير الأمنية التي تُحاول قيادة السلطة المحلية في مدينة عدن تطبيقها منذ بضعة أيام فضاء الرأي العام المحلي، لدرجة أنها هيمنت على الجدل والنقاش في وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ مُطلق حتى تكاد موضوعات وقضايا كمفاوضات السلام اليمني في الكويت التي قاربت على الفشل، التفجيرات والعمليات الإرهابية، انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار، قتل المدنيين، حصار مدينة تعز الخانق، تكاد مثل هذه القضايا الهامة أن تختفي كلياً من دائرة النقاش الجاري.

ولربما ينبغي علينا ونحن نحاول المُضي في أتون هذا الجدل الحاد قراءة خيوط المشهد الذي طغت عليه صور “عربات الترحيل” للمخالفين على مهلٍ وبأعصابٍ هادئةٍ، ما أمكن، حتى نفهم كثيراً من تعقيدات الأمور على أرض الواقع.

في الأسبوع الماضي فرضت السلطات المحلية في عدن إجراء يقضي بضرورة إبراز “الهويّة الشخصيّة” لكل الأفراد الموجودين أو الداخلين إلى المدينة، ومن سيثبت مخالفته لهذه الإجراء ستقوم السلطات بترحيله فوراً إلى مسقط رأسه. يبدو مثل هذا الإجراء بديهي جداً في عالم اليوم، لكنه في اليمن حيث اعتاد الناس على التنقل دون اصطحاب هوياتهم الشخصية يُشكل معضلة كبرى.

على إثر هذا الإجراء اشتعل الفضاء العام بالنقاش وردود الأفعال المتباينة في حدتها والنقاط التي أولتها أهمية، وتأييدها ورفضها. وبصورةٍ عامة، يمكن القول بأن ردود الأفعال الناقدة تركزت في مسألتين: هنالك من انتقد الإجراء بشكلٍ عام، وعاتب السلطة المحلية على سنّه في بيئة زعم أنها لم تعتاد على مثل هذه التدابير الأمنية، والبعض الآخر وجه سهام نقده لعقوبة الترحيل للأفراد المخالفين، وكذلك للممارسات السلبية التي شابت عملية تطبيق الإجراءات الأمنية على اعتبار أنها كانت محاولة لاستهداف أبناء المحافظات الشماليّة في المناطق الجنوبية دون غيرهم، لدرجة وصل انفعال بعض الناشطين من أبناء الشمال إلى التهديد باجتياح الجنوب بحربٍ شاملة. السلطات المحلية بدورها ردّت على الانتقادات بكون مثل هذه الإجراءات مسألة بديهية في الظروف العاديّة، وأما في الظروف الطارئة فتكتسب أهمية بالغة، رافضة في نفس الوقت أن يكون الهدف من التطبيق استهداف فئة اجتماعية أو جغرافية بعينها بقدر ما فرضته ظروف موضوعية استثنائية. وتزامناً مع ذلك نشر ناشطون جنوبيون صوراً لمُرَحَّلين على سيارات نقل وهم يرفعون علم دولة الجنوب السابق، بما يُشير إلى هويتهم.

بشكلٍ عامٍ، يمكن القول بأن العملية برمتها، الفعل وردود الأفعال، لا تخلو من التوظيفات السياسيّة في بيئة ما زالت مضطربة وتتنازعها خيارات عدّة، كما لا يُمكن التستر على الانتهاكات الحاصلة.

وبنظرةٍ شاملةٍ على مجريات الأحداث، يمكن رصد عدّة أسباب مهدت لحصول مثل هذه الانتهاكات، كما استدعت في الوقت ذاته فرض مثل هذه التدابير المُشدّدة. منها على سبيل المثال أسباب بنيويّة تتعلق بالجهاز الأمني الذي يبدو أنه في أطواره الأولى كمؤسسة بعد الدمار والتخريب الذي لحق به، إرث السنوات الماضية الثقيل حيث كانت الانتهاكات بحق الناشطين الجنوبيين (وصلت مرات عديدة إلى حد القتل والتصفية الجسديّة) منذ حرب 1994م جزءاً أصيلاً من سلوكيات الأجهزة الأمنية في حقبة الرئيس السابق علي عبدالله صالح وما بعدها. بالإضافة إلى قلّة الخبرة لدى الأفراد المنضوين في الأجهزة الأمنية الحالية التي تم تجميعها بصورة تفتقد إلى الاحترافية، فالبعض منهم لا يضع حدوداً بين تطبيق الإجراءات الأمنية القانونيّة وارتكاب الانتهاكات.

هنالك أيضاً أسباب موضوعيّة فرضتها طبيعة تعقيدات الواقع في حقبة ما بعد الحرب حيث تتعدد مراكز القرار في المدينة، فضلاً عن قلق وهاجس كبير مبعثه العمليات الإرهابية والقتل شبه اليومي لأفضل كوادر السلكين الأمني والقضائي في مدينة عدن على وجه الخصوص بلغ ذروتها باغتيال المحافظ السابق اللواء جعفر محمد سعد، وتعرض المحافظ الحالي ومدير امن المحافظة إلى أكثر من محاولة اغتيال منذ توليها منصبيهما قبل شهورٍ قليلةٍ.

وهذا الأخير بات يُمثل قضية مؤرقة لسكان عدن، ومن السهولة ملاحظة مقدار ما ينتابهم من قلق وخوف عارمين جراء حالة مضنية من الصراع الوجودي لأجل البقاء يشعرون أنهم يخوضونها مع التنظيمات الإرهابية وتلك الأشباح الخفيّة التي تُريد جر مدينتهم إلى الفوضى، خصوصاً وهم يربطون مصيرهم بما حل بمدنٍ عريقةٍ في العراق والشام  تخطفتها أيادي الجماعات الإرهابية المتوحشة إلى غياهب التاريخ والإنسانية، وقد كانت بداية انحدارها على نحوٍ مُشابهٍ.

ولعل من المفيد في هذه المناسبة، ولفهم اعمق للحالة النفسية الضاغطة التي تولدها المخاطر المتولدة عن الإرهاب، التذكير بما لاحظه مثقفون غربيون على سبيل المثال في السنوات الأخيرة وهم يرصدون حالة الهلع والخوف المتصاعدة التي تمر بها الدول والمجتمعات الغربية نتيجة مخلفات الإرهاب، وتلك الإجراءات التي اُضطر إلى أتخاذها في سبيل مواجهة التطرف والإرهاب وأعاصير الخوف المتولدة عنهما، وطمأنة بقدر ما أمكن المجتمعات، حتى وصل الأمر بالبعض إلى  وصف هذا التحول في دور ووظيفة ومنطق الدولة من نموذج “دولة القانون” إلى “دولة الأمن”، آخذين في الاعتبار عند المقارنة بان هذه الدول لها تجارب راسخة في مجال النظام والقانون وحقوق الإنسان و صيانة كرامته تمتد لقرون من الزمن.

تبدو الأمور الماثلة أمام قيادة السلطة المحلية في عدن في منتهى الصعوبة والتعقيد، ففي الوقت الذي يبدو أن عليها مهمة كبيرة تتمثل في حفظ الأمن وإحلال الاستقرار ومنع الفوضى ومكافحة الإرهاب والتطرف وتوحيد سلطات القرار في ظل واقعٍ يقف على هاوية، هي بحاجةٍ ماسةٍ في نفس الوقت إلى التقليل من الأخطاء ومنع الانتهاكات التي قد تُصاحب عملية تطبيق الإجراءات والتدابير الأمنية الضرورية.

*هنا صوتك