fbpx
محادثات الهوامش على جسد اليمن المنهار

عام من الحروب والعزلة حملت معها مئة عام من الانهيارات المعنوية وتشوهات الوعي، أنتجت طغيانا لفوضى المواقف والأفكار الغريبة والشعارات التي لا تحمل ذرة من العقلانية، أو أي احترام لإدراك المجتمع وللزمن الذي يعيش فيه.
في المقابل هناك إبداع نشيط في استدعاء التواريخ الفتاكة بأنياب جديدة وأيديولوجيات «مقرطسة» بأغلفة صالحة للتسويق عند العامة، المنكفئين على يومياتهم المضنية، وهناك أيضاً مثابرة في القصف العشوائي ونقل المحاربين من جبهة إلى أخرى، وفي مديح «الثورة» المحمولة على «زوامل» البطولات التراثية لقبائل اليمن العتيق، التي أفاقت بعد تداعيات «الربيع اليمني»، واستلهمت إمكانية ترحيل التواريخ إلى مخابئها الغارقة في القدم، لإعادة تشكيل الصلصال المحلي، وفق مقاربات الطائفية السياسية وتطبيقات المسطرة الروحانية، على مجتمع تكمن أولوياته، في تراتبية الحلم، أن ينسى كوابيس التاريخ السياسي أولاً، ويدخل في نقاهة حقيقية كي يتفرغ لتدريب العقل والعاطفة على واقع يستوعب المشاركة والتعدد، ويبتعد تدريجياً عن احتمالات صناعة الخوف، وعن تجليات جديدة للإمام أو الخليفة أو الرئيس الخالد.
وأمام هذا المشهد هناك أمر جلل لم يُحسب له في المعارك السهلة التي أسقطت صنعاء، في عشية وضحاها، وهو «الجوع» القابع خلف الجدران، المستأسد بمخالب الفوضى وغياب العقل، في لحظة وعي منقسم ومنفلت.. في لحظة «جوع» كارثية ربما ستضع تعريفا اخلاقيا مختلفا حول النصر أو الهزيمة. ذلك أمر لا طاقة للإعلام به، فلم يذهب أحد لكي ينبش في قيعان المجتمع، للكشف عن مخاطر حقيقية لا تقبل المزايدات السياسية، ولم يدخل أحد بيوت الفقراء أو يتوجه نحو الأزقة المنسية وهوامش الصفيح والعشوائيات والقرى النائية والمشردين الذين تحولوا إلى قبائل من الغجر تأكلها الشموس وغبار الأتربة العطشى، فاليمن لديه متلازمة شائعة، تتمثل في الفقر، في زمن السلم… فقر مصحوب بازدهار السلاح وضعف الدولة والأمن وصعود الرأسمال الطفيلي بقوة وغياب الاستثمارات الكبيرة والمتوسطة وانيميا مزمنة للطبقة الوسطى الذاهبة للانقراض… الخ، فكيف تصبح هذه الصفة في زمن حرب تعد الأقسى في التاريخ؟
لا يمكن الحديث الآن عن اقتصاد يمني حتى عن اقتصاد حرب في اليمن، لأن أدوات الدولة، على هشاشتها، تعطلت وتشوهت إلى درجة لا تنفع معها حالات إسعافية. الاقتصاد اليمني اعتمد، ويعتمد في المدى المنظور، على قطاع البترول وعائداته بشكل رئيس، وهو القطاع الذي واجه «تقلبات درامية» متدرجة من داخله ومن خارجه تتوجت برحيل كافة شركات الإنتاج والتنقيب والشركات الخدمية، رافقها هبوط حاد في أسعار النفط، ومحدودية الانتاج المحلي، واحتياجات الحقول المنهكة إلى استثمار كبير لإنعاشها واستعادة حيويتها، وأعمال مرافقة لا حصر لها. ليس هذا فحسب بل ان أفق البترول في اليمن بات مرتبطا بمآلات متعددة وبحقيقة الاحتياطات القابلة للاستخراج واقتصادياتها والآليات السعرية المتقلبة، التي لا تشجع أي استثمارات في مجالات التنقيب أو تنمية الحقول المنتجة. وفي السياق نفسه هناك أضرار كبيرة وشاملة أصابت كل القطاعات الحيوية، وانحسر معها الناتج المحلي إلى حدود ضعيفة ومخيفة، يجب عدم التعاطي معها من زاوية التوظيف السياسي، لأن الجوع حين يضرب سيضرب كل الأنحاء إلى درجة لا يمكن الجزم معها بأن دول المنطقة تمتلك طاقات لوجستية كبرى لمساعدة شعب لا تريد قواه المحلية أن تساعده.
الجوع هو الأدهى، الخبيث، المتربص، الذي لا يحسب له المغامرون، من يعتقدون بفهمهم السياسي المتواضع أن العالم سيرحم الشعوب المعذبة، وهذه ربما قصيدة في دندنات البروباغندا والمراهنات التي يسوقها بائعو الهوى السياسي، الذين يعالجون اتباعهم بحزمة من المسكنات والفرضيات النظرية. إن تعقيدات اليمن تجعل الحديث عن سلام دائم ستجلبه مشاورات الكويت المحدودة الرؤية والملخّصة جداً أمرا صعبا إدراكه إلا من زاوية البناء على حلول مرحلية هشة تنطوي على مخاطر أدهى وأمرّ، لأن اليمن لديه ما يكفي لأن يحظى بسلام حقيقي ونهائي على الأرض وليس على ورق المحاضر اليومية للمشاورات، التي تجري كأنها مشاورات من أجل التشاور… فالسلام الحقيقي ما يزال أمرا شاقا للغاية، لأن هناك معضلات كبرى لم تدخل في أجندة المتشاورين الغارقين في هوامش محدودة.