fbpx
الأقانيم الثلاثة في حوار الكويت

الآن وقد بدأ فرقاء الساحة اليمنية التفاوض في الكويت حول سبل استعادة الدولة والسلام والوئام، وبعد الجهود الدبلوماسية المضنية، والعمل الميداني الأُفقي الذي استمر على مدار العام، وبعد أن ثبت للقاصي والداني أن معركة اليمن ليست بين مختلفين متخاصمين سياسياً، بقدر كونها معركة من أجل الدولة بوصفها المعيار الأكبر للشرعية، فالشرعية ليست مقرونة بمفاهيم سياسية من هذا الحزب أو ذاك، وليست مقرونة بمكون اجتماعي قبائلي كيفما كان لونه وشكله، بل إنها الدولة بمؤسساتها وأنظمتها وقوانينها، وهو الأمر الذي اقتضى ويقتضي شرعنة هذه الشرعية، من خلال استعادة الدولة المخطوفة، وترصيف الطريق لمشاركة ناجزة تعيد إلى الأذهان ذلك التوافق النظري الذي كان قبيل إعلان الوحدة اليمنية، بين سدنة الجمهورية العربية اليمنية في الشمال، وقيادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب في مايو من عام 1990م.
يومها كانت التعددية مساراً افتراضياً لتخطي النظامين الشموليين في صنعاء وعدن، وكانت تلك التعددية مقرونة ضمناً وأساساً بأنساق المجتمع اليماني الكبير، في تنوعه المقرون بالوجود والوعي معاً، يومها لم تدرك النخب السياسية في الشطرين أن الوجود الاجتماعي سابق على الوعي الاجتماعي وصانع له في آن واحد، وهكذا فقدوا بوصلة الحراك نحو قانون الطبيعة والجغرافيا والتاريخ، فضاع الأمل الكبير الذي كان يسعى إليه من حلموا بيمن جديد يتجاوز خطايا الماضي، ويشرع في الذهاب إلى المستقبل الوضاء، لكن ذلك لم يحدث، فقد كانت الغلبة لثقافة البؤس، والتنافي العدمي، وإدارة الأزمة، بالإضافة إلى منطق الاستلاب المعنوي والمادي لعموم المواطنين المُكتوين بالفقر والحيرة، وفقدان الحيلة والفتيلة. لقد انتصر يومئذٍ نموذج الجمهورية العربية اليمنية، ومنطق الإقامة البائسة في توليفة الفساد والنهب والسلب، لينهزم الشعب في أحلامه وآماله العريضة، وانحسرت تجربة الجنوب في بُعدها المؤسسي الدولتي الرصين، ليشهد اليمن انجرافاً جبرياً نحو الحرب الظالمة في عام 1994م، وما تلاها من تداعيات ثقيلة الوطأة على عموم المواطنين.
ما حدث بعد ذلك كان بمثابة تحصيل حاصل، فقد تغوَّلت الأوليغاركيا العسكرية المنغرسة في الفساد، وتحول سياسيو السلطان الأوتوقراطي الجمهوري إلى حملة مباخر، وفاحت الأجواء بروائح غامضة، وبدت حروب صعدة الستة مجرد مشروع مكيافيللي جهنمي للمتاجرة بدماء الأبرياء، والتخلِّي عن جيش الدولة لحساب الجيش الجديد تحت مُسمَّى الحرس الجمهوري، وبهذا القدر من الجنون افترض رأس النظام أنه قد تخلص من جيش الدولة المتبقي، كما تخلص سابقاً من جيش الجنوب في حرب 1994م، لكن الأيام أثبتت عكس ذلك تماماً، فقد تحول جيش الجنوب إلى مقاومة ضارية للانقلاب «الحوثصالحي»، فيما وقف جيش الدولة المتبقي مع رغبة الجماهير العريضة في التخلص من نظام صالح.
استعادة تلك التجربة أمر شديد الأهمية في ظل إطلالة الفرقاء المتناحرين على قابلية أن يسفر الحوار الماراثوني الصعب في الكويت عن نتائج تتناسب مع الاستحقاق الكبير، فالمطلوب من الاجتماع أن تستمر العملية السياسية من حيث انتهت، وأن يكون أساس الحوار المرجعية الثلاثية التي ترقى إلى مستوى الأقانيم، خاصة وأنها مرجعيات التبس فيها المحلي اليماني، بالعربي الخليجي، والدولي الواسع، وقد تمثلت تلك المرجعية الثلاثية في التوافقية الداخلية اليمنية التي رصفت الطريق للمبادرة الخليجية.. تلك التي تاقت إلى تجاوز محنة الصدام، لتفسح باباً لتسوية سياسية تشاركية تسدل الستار عن نظام علي عبدالله صالح، وتفتح الباب ليمن اتحادي متعدد الأقاليم.. تكون فيه المشاركة، والتنمية الأُفقية سمة حاسمة في المسار.. وتمثَّل البُعد الآخر في نتائج مؤتمر الحوار الوطني المُتَّصل جوهراً بمرئيات المبادرة الخليجية وبرنامجها المُزمَّن، فيما تمثَّل البُعد الثالث في القرار الأممي 2216، والمُجيَّر على البند السابع، وهو ذلك البند الذي يسمح في نهاية المطاف باستخدام القوة القاهرة ضد من يرفض الانصياع للقرار.
في الحالة اليمنية الماثلة ما زالت البوصلة الأمريكية تقرأ المشهد اليمني من خلال محاربة الإرهاب أولاً، وبهذا المعنى، وبكل البراغماتية الأمريكية المُتخشِّبة، لا تُعول إدارة أوباما على القرارات المسطورة أُممياً، بقدر تعويلها على اللازمة «الصنمية» لمحاربة الإرهاب، حتى لتبدو كلمة حق يُراد بها باطل، فمما لا شك فيه أن إدارة أوباما تدرك تماماً أن إرهابيي اليمن صناعة داخلية يتولى رعايتها وتوظيفها سدنة النظام القديم.
في الكويت ستكون المعطيات المشار إليها سابقاً معياراً لإمكانية الخروج من شرنقة التحارب، ومن الطبيعي أن يلجأ الانقلابيون على المبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار الوطني إلى استراتيجية شراء الوقت، وتعطيل التسوية وفق مرجعياتها المُتفق عليها سلفاً، لكن هذه المحاولات لن تعيد اليمن إلى مربع ما قبل فبراير لعام 2011م. ذلك ما قاله ويقوله التاريخ، وتلك سنة الله في أرضه، ومن تداعى معها بحرية مسؤولة يكسب، ومن جافاها متأبيَّاً ومتمسكاً بأوهام سحقتها الأيام، سيفشل لا محالة.