fbpx
في وداع مَنْجَم المناقب النبيلة.. صلاح جابر بن شعيلة

علي صالح الخلاقي

لم أفق بعد من هول الصدمة، لسماع نبأ رحيل  الرجل الشهم الكريم، مَنْجم المناقب النبيلة، الشيخ صلاح جابر بن شعيلة، الذي غادرنا يوم الأربعاء الموافق 27 إبريل 2016م، وذلكم  الوصف للفقيد الراحل ليس فيه أدنى مبالغة، بل هو أقل ما يتبادر على الفور في ذهن كل من عرف أو عايش ذلك الرجل العصامي الذي كان الإنسان فيه مصدر فضائله  وخصاله الحميدة وأخلاقه الجميلة.

أقول ذلك إنصافاً له بعد رحيله، فقد كان يكره في حياته أن يثني عليه أو يمدحه أحدٌ ، بل حتى كان لا يحبذ مخاطبته بلقب (الشيخ)، وأذكر أنني في أول لقاء  خاطبته بهذا اللقب احتراماً وتوقيراً، فقال لي: ” يا دكتور أنا لست شيخاً، أنا صلاح جابر فقط “. ومن حينها وبسبب تواضعه هذا  ودماثة خلقه وطيب سريرته كبر في نظري، ونزولاً عند رغبته فضّلت أن أخاطبه بكنيته (أبى كمال)، وهو نجله الأكبر، فكان يُسر لذلك غاية السرور.

كانت مؤلفاتي المتواضعة في التاريخ والتراث، التي اطلع عليها عن طريق صديقي نجله”كمال” هي سبب تعرفي عليه قبل عقد ونيف، وبطلب شخصي منه حملت له نسخاً من تلك الإصدارات، قدمتها مع الإهداء له، فأبى إلاَ أن يدفع قيمتها وبسعر تشجيعي، ثم تكررت لقاءاتنا برفقة صديقنا الصدوق قاسم عبدالرحمن بن صلاح في مجلسه العامر وسط مزرعته الفريدة في (الرباط) بين عدن ولحج التي اشتراها بحر ماله أرضاً بيضاء ثم حولها إلى واحة ترفل بالخضرة والاشجار المثمرة. وكان الفقيد يفرح لكل إصدار جديد ويحرص على اقتناء نسخٍ عديدة بالسعر التشجيعي ويقدمها هدايا لأصدقائه، وكذلك  كان يتعامل بالمثل مع غيري من المبدعين والمؤلفين، وقد أهداني بعض الإصدارات لمؤلفين آخرين، وبهذه الطريقة اللطيفة كان يشجع ويحفز الإبداع.

كنت أتوقع أنه ربما وَرِث ثروة كبيرة أوفاز بصفقات معينة بنى عليها نجاحاته المحققة في عالم التجارة أو ساعده الحظ حتى صار في عداد رجال الأعمال المشار إليهم بالبنان في يافع خاصة والجنوب عامة. لكن توقعاتي تلك لم تكن في محلها فوالده الشيخ جابر صلاح كما عرفت منه كان رجل علم ودين ومصلح اجتماعي في عصره وهو من أوائل خريجي جامعة الأزهر بالقاهرة من ابناء يافع، ولعل لنشأته في كنف والده أثرها البالغ في تكوينه الثقافي وزهده وحبه لعمل الخير، وتلك هي الثروة التي اكتسبها من والده ويفخر بها لأنها كانت عوناً له في اختطاط طريقه ووصوله إلى ما وصل إليه من نجاح خلال مراحل حياته.

وفي لقاءاتنا المتكررة سمعت منه  خفايا منعطفات ومراحل سيرة حياته الكفاحية، واندهشت وذُهلت حقاً، فقد شق هذا الرجل العصامي طريقه وبنَى نجاحاته لبنة لبنة بكدِّه وكفاحه واجتهاده من الصفر، وأكسبته الحياة العملية مزية التواضع والجَلَد والاعتداد بالنفس. فقد غادر مسقط راسه يافع في ريعان شبابه متجهاً إلى عدن والتحق للدراسة في مدرسة بازرعة. كما شارك مع زملائه الشباب في الثورة ضد الاستعمار البريطاني، وتظهر صورته مع عدد من المتظاهرين حينما جرى القبض عليهم من قبل الجنود البريطانيين ووضعهم بجانب الجدار لتفتيشهم، وهناك موقف يُسجل له حيث كان برفقة المناضل صالح الحكومة وهو يقود سيارة أخيه حسين عبدالله العيسائي ولديه قنبلة فاحتار كيف يخبئها، فسارع صلاح بن شعيلة واشترى ثلاثة كيلو من التفاح ووضع القنبلة أسفل الكيس، وعند النقطة أخذ الجندي يفتش في الكيس فاعطاه بن شعيلة تفاحة وهو يقول له بكل لطف (Apple) وهكذا أنقذ بذكائه نفسه ورفيق دربه من الوقوع في قبضة الانجليز.

غادر صلاح جابر الوطن إلى السعودية وعمل هناك في كسارة مع أخيه حسين جابر بن شعيلة، ولم يطل به المقام هناك ، ثم اتجه إلى أمريكا التي كانت تجتذب الكثيرين وعمل هناك في أعمال متعددة حتى حصل على الجنسية الأمريكية، وتعلم هناك قيمة الوقت وكان عمله يمتد إلى اثنتى عشرة ساعة  في اليوم وربما أكثر، فقد كان يعيل أسرة كبيرة العدد ولديه العديد من الأفواه التي يجب عليه إطعامها وتوفير حياة سعيدة لها.

عاد بعدها إلى يافع ولم يكن يخلد للراحة، كما يفعل بعض المغتربين ممن يقضون إجازاتهم في راحة تامة وكأنهم يعوضون سنوات الاغتراب والعمل الشاق، أما هو فقد خالف تلك القاعدة، وبعيداً عن الشطحات أو حب التظاهر أو ضياع الوقت لساعات طويلة في مجالس مضغ القات  أخذ ينظم أوقات إجازته ويستغلها استغلالاً أمثل، وكان يواصل عمله صباحاً ومساء، بما لا يقل عن ثمان ساعات عمل يومياً لا تتخللها سوى استراحة للغداء، مع راحة تامة يومي الخميس والجمعة.  وهكذا أخذ يحفر في الصخر، في مقالع الحجارة في محيط قريته ثم القرى المجاورة، بواسطة آلة (الكمبريشن) التي كان أول من امتلكها على مستوى يافع في السبعينات من القرن الماضي، وقد تيسر بواسطتها اقتلاع كميات كبيرة من حجارة البناء بسهولة وبسرعة كبيرة مقارنة بالجهد العضلي الشاق الذي يبذله قالع الحجارة (النقاش) فسمع الناس به، وزاد الطلب عليه. ثم امتلك آلة ثانية ثم ثالثة وتوسع مجال عمله في أكثر من منطقة في يافع،  وكسب من عمله هذا ما لم يكن يحلم به خلال اغترابه في أمريكا، إذ بلغ دخله أضعافاً مضاعفة، كما سمعت منه شخصياً، ووجد ذاته في هذا العمل رغم قساوته، ولم يعد يفكر في العودة إلى أمريكا للعمل، بل للزيارة متى شاء.

 وحين تجمعت لديه مبالغ كثيرة كان يريد أن يستثمر ما جناه من عرقه وكدحه في وطنه، لكن السياسة الاقتصادية المتطرفة التي اتبعها النظام في الجنوب حينها ضيقت على القطاع الخاص، فاتجه بأمواله التي كسبها في مسقط  رأسه إلى بلاد الحرمين الشريفين ليستثمرها هناك، مثله مثل من سبقه ممن أممت أملاكهم كآل العيسائي وغيرهم، حتى وصل إلى ما وصل إليه. ومن الحكايات الطريفة أنه حين نقل أم أولاده للعيش معه في السعودية، استأجر شقة متواضعة، وحين كانت تزور قصر أسرة أخيه حسين أو قصور أصهاره من آل العيسائي لا تجد وجهاً للمقارنة، وفي أول عمرة لها في مكة كانت تدعو الله أن (يدفس) صلاح بين أصهاره، أي أن يلحقه بمستوى مماثل لعيشهم الرغيد، وقد استجاب الله لدعوتها ففتح الله عليه الرزق الحلال، وكان ينفق مما أعطاه الله  وامتلك القصور في جدة وعدن ويافع، والأهم من ذلك  أنه بنى له قصوراً كثيرة عامرة بالحب والمودة والتوقير في قلوب كل من عرفه من أصدقائه ومحبيه وما أكثرهم، وهي ثروة لا يمن الله بها إلا قلة من الطيبين أمثالة.

 وكان الفقيد قد علّق آمالاً على العودة للاستثمار في الوطن بعد اعلان الوحدة وبدا ببعض المشاريع،  لكن آماله تلك خابت وتلاشت بعد حرب اجتياح واحتلال الجنوب عام 94م.  وحين انطلقت ثورة شعبنا الجنوبي السلمية عام 2007م كان من الداعمين لها بسخاء هو وابناؤه الكرام الذي أحسن تربيتهم وأخذوا عنه خصاله الحميدة وروح التنافس في عمل الخير والبر والإحسان والإخلاص للوطن الذي لم يبخلوا عليه في محنته.

ومن ذكريات الفقيد بن شعيلة  أنني حينما شرعت في جمع كتابي (الشيخ أحمد أبوبكر النقيب.. حياته واستشهاده في وثائق وأشعار) الصادر 2007م، أنه  كان ضمن من جلست معهم لجمع مادة الكتاب لمعرفته بالشيخ الشهيد عن قرب، فهما أبناء قرية (القُدمة) حاضرة الموسطة، وفي لقاء خاص معه في قصره الجميل المطل على البحر في عدن عام 2006م قال عن الصفات الإنسانية للشيخ أحمد وتواضعه مع الكبير والصغير: “عندما قتل الشيخ أحمد كان عمري حينها عشرين عاماً، لكنني قد عرفته منذ طفولتي المبكرة، لأننا كنا جيران في القرية، وأتذكر أنه كان يمر على والدي العلامة جابر صلاح ليناقشه في كثير من الأمور أو في بحث المعالجات الناجعة للمشاكل التي تحدث هنا وهناك والتي كان الشيخ يعمل على حلها، بعد الإلمام بتفاصيلها، وقد كان يتأكد من مطابقة حلوله المقترحة للشريعة الإسلامية ويستأنس برأي والدي في هذا الأمر لكونه من أوائل الخريجين من جامعة الأزهر بالقاهرة من أبناء يافع. وكان الشيخ أحمد يحبني ويعاملني كواحد من أولاده، وكان هذا ديدنه مع كل أبناء القرية، وقد كان حين يصادفني يمسح على رأسي ويتلاطف معي ويشجعني منذ صغري، حتى أنه كان أول من علمني الرماية بالبندقية وطريقة استخدامها”. ويتدخل الوالد صالح قاسم محمد النقيب مؤكداً أنه تعلم هو أيضاً التصويب الصحيح على الأهداف على يد الشيخ أحمد. ثم يواصل صلاح بن شعيلة ذكرياته قائلاً:” كان الشيخ أحمد يصطحبني معه أكثر من مرة إلى موقع مطل على وادي يهر اسمه (قردم) في قرعد، وكان يطلب مني الجلوس هناك وينزل هو إلى بطن الجبل ليترصد الطائرات البريطانية ويصوب نحوها رصاصات بندقيته الأوتوماتيكية، دون أن يعلم به أو يراه أحد. وذات مرة خلع عمامته وجلس في موقعه وأخذ يضرب طائرة بريطانية كانت تحلق حينها على وادي يهر، وحين سمع أهل سُقام أصوات ضرب الرصاص سألوا عمن يقوم بالضرب، فقال لي: قل لهم “يحيى أحمد” وهذا شخص من قرية “سِدْيِة” في بطن الجبل وهم أهل حرب مع بريطانيا. وقد تكرر هذا الأمر أكثر من مرة، وكانت الطائرات تغير من مسارها حينما تشعر بالضرب الموجهة بدقة إليها”.

رحم الله الفقيد الراحل الشيخ صلاح جابر بن شعيلة الذي افتقدت برحيله صديقاً صدوقاً، لن أنسى جمال روحه الطيبة وأحاديثه المنبعثة من أعماق قلبه النقي وصوته الهادئ الذي ينم عن رصانة وحكمة وتواضع، وما زلت أتذكر كيف احتفى بنا أنا وصديقي الإعلامي المتألق عادل اليافعي مطلع عام 2014م في منزله في جدة بكل مودة يحيط به أولاده الكرام.  ولا شك أن الوطن قد فقد برحيله أحد الرجال الأخيار الأبرار، ويكفيه أنه خلّف سمعة حسنة وترك بصمات مشهودة في أعمال الخير والبر والإحسان وقضاء حوائج المحتاجين، التي لم يكن يحب الحديث عنها أو التباهي بها، فقد كانت شماله لا تعرف بما أعطت يمينه لأنه كان يريد وجه الله. ومع ذلك فمساهماته تحكي عن نفسها حيث نجد عطاءه حاضراً وشاهداً في (جامع الفردوس) بمآذنه العالية في عدن، وكذا في دعمه لبعض المدارس وتشجيعه لطلبة العلم  وفي الانفاق بسخاء من حر ماله في إصلاح ذات البين بين الناس ابتغاء مرضاة الله.