fbpx
العبرات على بوابة العبر والنحيب باب عدن

هذا العنوان تفاعل مع ما كان يضطرم في قلبي ونفسي وفكري من خليط الحزن والأسى والفقد والضياع وأنا أعبر منفذ الوديعة التاريخي إلى منطقة العبر الجنوبية العربية , الواعدة بالخير المكنوز في أحشائها , والتي لها من حب الوطن ما لها ومن ذكريات ما قبل الضياع الكبير , العِبر وأي عِبر , فهذه الأرض الممتدة الذي يلامس امتدادها حافة الأفق من الجهات الأربع , كانت عنوان جنوبي حي بامتياز رغم قسوة طبيعتها الجغرافية الصحراوية المعروفة , , عنوان لمسيرة كفاح شعب الجنوب , ولجيل من أجياله المتميزين الذين حبوا الوطن حتى الثمالة ولا زالت رسائل الزملاء شاهد حي أحتفظ ببعض منها إلى اليوم .

فمجرد ذكر اسم ( العبر ) تمر على حافة الذاكرة قوافل المجد الجنوبية ألتي كان يقودها ويذود على مسيرها , قادة وضباط وجنود من اخواننا وأبنائنا الذين كان عنوان سكنهم ومقر رباطهم , ثكنات قواتنا الجنوبية المسلحة , التي كانت مثال شامخ للوطنية , ومدرسة لصقل الرجال , وجامعة لحب الوطن حيث كانت تأوي في أحضانها من كل قرية ومدينة جنوبية من الرجال الميامين للذود عن تراب الوطن وتأمينه .

وقصة العبر وكل ثغر جنوبي كانت جزء من يوميات كل من كان له أخ أو قريب أو صديق في ذلك الزمن المجيد , الذي كان فيه حب الوطن يعلو ويسمو على حب النفس , وكانت روح الإيثار والإخاء ومن ثم الفداء سمة من سمات ذلك الجيل الذي سطر ملاحم تاريخية لن ينساها التاريخ مهما كانت إرهاصات الحاضر الآنية .

ولذلك هاجت وجاشت بي العبرات وأنا في رحلتي العابرة عبر بوابة العبر إلى أرض الوطن مطلع شهر مارس 2016 م , وما زاد في نفسي العبرات أنني كنت في المقعد الأمامي للحافلة التي كانت تقلنا إلى عدن , ولذلك كنت أطبق ما كان في مخيلة الذاكرة من صور على مناظر الأرض التي كما أسلفت كانت عنوان من عناوين مجد خالد من جهة , وعنوان جنوبي لا زالت تحكي وتحاكي قصة وطن أضاعه من لم يرابط في هذا الثغر وأمثاله من الثغور الواعدة بالخير , نعم أضاعوه وقدموه أو رموه أولئك السفهاء للكلاب , قصة ضياع وطن مازال بعض رموز ضياعه أحياء يسترزقون اليوم ( بعد أن دخلوا لعنة التاريخ من أوسع الأبواب السوداء ) لعنة سوف يخلدها لهم شعب الجنوب إلى الأبد الأبيد .

ومن العبر وعلى امتداد 300 كم إلى عتق العتيقة المحاطة بحزام جبلي يحتضنها بحضن شبوة الدافئ ووعدها الواعد بالخير والعطاء , حزام طبيعي يحاكي حزام رجالها الأشداء المغروس حب الوطن الجنوبي في قلوبهم , وهم يذودون ويخوضون غمار المعارك فداء له , رجال صدقوا عهد الجنوب يرفعون علم الوطن الجنوبي في كل زاوية وعلى كل قمة , وفي كل النقاط الأمنية وبكل كبرياء وطني , وكانت من بشائر الخير الشبوانية , ما يقوم به أبناء شبوه العز والوفاء الوطني الجنوبي والذين تطوعوا في ظروف جد وطنية مقاومة , لحماية وتأمين الطريق الدولي , من بعض من كان يعكر مسيرة سيل التواصل الذي يربط الجنوب بأرض المملكة العربية السعودية بلاد الخير والوفاء , أرض رجل الحزم ومليك العزم الذي فتح لأبناء الجنوب بوابة الخير بعد أن مد لهم طوق النجاة حفظه الله .

فتحية لشباب المقاومة الجنوبية من أبناء شبوة ورجالها الصالحين الصادقين الذين يجسدون سمات أبناء شبوة الكرام التي هي من سمات شعب الجنوب الأبي .

ومنها إلى مدخل محافظة أبين , إلى سلسة جبال ووديان أرض المحفد , والتي تحكي بحالتها المقفرة

لقسوتها الطبيعية وظروف أهلها عنوان البؤس الجنوبي المزمجر اليوم في ربوع بلادي الجنوب , بؤس لكنه لم يثني الإباء الجنوبي عن أصالته المتمثلة بالاعتزاز بالنفس والكفاح من أجل لقمة العيش الحلال , وحتى وأن تطلب ذلك العودة بالزمن إلى ما قبل ألف عام أو أكثر .

نعم بؤس الواقع المرير الذي جسده ذلك الحطاب المكافح بحق , والذي شاهدناه يخطم جمله المنهك الهزيل المحمل بما أستطاع الحطاب جمعه وما ينوء به كاهل ذلك الشريك الصابر !! , وكان من جميل القدر أن توقفت الحافلة لظرف خاص بأحد الركاب , ولحظتها اغتنمت الفرصة للسلام على الحطاب والسؤال عن وجهته ؟

فكان الجواب الذي تنفطر له القلوب لكنه جواب المؤمن الصادق الواثق بربه , عندما رد بكل ثقة وقال ( طالب الله ) فكان بيني وبينه ما كان , وقلت في نفسي ونعم بالله وبالقناعة التي لازالت في روح ذلك المجاهد على أسرته وفي ظروف قاهرة , لكنها علمتني درس القناعة , درس من دروس المؤمنين الصادقين الصابرين .

وهذه الحالة صورة من صور ضياع الجنوب بعد حرب الفجار والجار الذي جار , وأعني جار الأرض والدار الذي حسبناه أخ شقيق , فضاق وأصبح ذلك الشقي العاق .

وخلال رحلتنا من عتق إلى مودية والتي استمرت ثلاث ساعات متواصلة لم تتجاوزنا سيارة واحدة أما السيارات القادمة من مودية فلم يتجاوز عددها الثلاثين سيارة , داهمنا الليل ونحن على الطريق المؤدي إلى ( مودية ) التي استقبلتنا بصفين تمتد لأكثر من 2 كم صفين من القمامة المكومة على جانبي الطريق , فكان ذلك الاستقبال كذلك عنوان لواقع مزري.

ومنها وفي ظلمة الليل إلى أمصرة ثم أمعرقوب فإلى شقرة القابعة بين أحضان البحر والجبل وهي كما شاهدتها قبل أكثر من أربعين عاماً عندما مررنا بها ضمن أول فرقة كشافة قادمين من يافع عبر السيلة البيضاء إلى عدن , وكانت شقرة أكثر حيوية من اليوم وهي عاصمة الفضلي التي كان مينائها ثالث ميناء في الجنوب .

وبعدها إلى نقاط ,ولى نقاط النقاط وحول كل نقطة أربع نقاط وعلامة تعجب وهمزة على كرسي ,   ( وأربعة رشاشات مفتوحة الأمان ) وسبابة المجند على حافة الزناد .

وكان سائق الحافلة من أبناء محافظة البيضاء عند كل نقطة يبادر بمناولة من بالنقطة قارورتي ماء صحة ويقول بعدها (هذه النقطة تابعة لأصحاب القاعدة لكن بصراحة طيبين ) .!!!

 لم  تمر بنا الحافلة مدينة زنجبار التي كنا مشتاقين لرؤية حالها ولاستعادة ذكريات أيام الدراسة الثانوية وكذلك السلام على دار وذكريات  الأحباب !! .

مررنا بالخط الجديد المحاذي لساحل بحر العرب ,  كان الطريق مرعب ليس من كثر النقاط المنتشرة بين كل كيلو وآخر , بل كذلك من الرمال الزاحفة التي أجبرت كل السائقين على التزام أقصى المسار الأيمن حيث طمرت الرمال المتحركة المسار الأيسر القادم من عدن بالكامل وتخطت الجزيرة الفاصلة بين الخطين إلى الخط الثاني .

وقبيل نقطة العلم ب300 متر ودعنا نقاط ما يسمى بالقاعدة عند الساعة 10 مساءاً تقريباً وكانت المفاجأة .

تذكرت اسم (عدن) بنقطة واحدة على النون لكن في هذه الليلة فاجأتنا ألف نقطة ونقطة تحاصر عدن , نقاط على عينها ودالها ونونها , ونقاط عن يمينها وشمالها ومن إمامها ومن خلفها ومن تحتها ومن فوقها !!!!! وكانت أطول رحلة سرنا فيها في تاريخ حياتنا في عدن الحبيبة حتى وصلنا المنزل في كريتر الساعة 12ونص صبيحة يوم الجمعة , وكان من أشد المناظر مرارة وغرابة لحظة وصول الحافلة إلى محطتنا الأخيرة , حيث كان ينتظرنا أصحاب السيارات الخاصة اللذين ينتظرون رزقهم , لكن كان يحيط بهم عشرات البلاطجة اللذين هجموا على الحافلة لإخراج عفش الركاب منها والمساومة عليه هذا إذا لم يسلم المسافر من نهبه , وضع كان نذيره كلمة سائق الحافلة المقصودة منه قبل لحظة وقوف الحافلة حين قال : الحمد لله على السلامة لكن تأكدوا أن الوضع من موقف الحافلة إلى منازلكم أخطر من الرحلة ومسيرتها من الرياض إلى هنا .

وفعلاً كان ذلك السائق كما أظن يعمل عمل منظم معزز بالانتماء , كانت عدن في ذلك الوقت المتأخر تئن من كثر النقاط المنتشرة في كل زاوية ومن نصفها الحي المضاء ونصفها المظلم الذي قسمها إلى مربعات مثل مربعات لعبة الشطرنج البيضاء والسوداء وكذلك كان جنود النقاط مثل جنود مربعات الشطرنج !!!

فكان النحيب باب عدن فعلا عندما أجهشنا بالبكاء عن حال أمنا أم المدائن , عدن التي بحول الله وقدرته ثم بإخلاص أبنائها وكل محبيها , قريباً تعود بنا إلى حضنها الدافئ , ونعود إلى تقبيل أقدمها مجازا وترابها حقاً.

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة …