fbpx
مانديلا ..”مات”

“أدركت أنّني إذا لم أتخلص من كراهيتي فسأبقى سجيناً إلى الأبد”. قالها مانديلا فحقّ علينا القول إنّنا جميعاً سجناء ذواتنا، وإلّا لما كان هذا الكمّ من الدّماء يسيل على مدار الساعة في بقاع العالم المختلفة.
نفوسنا تحرص على مشاهدة أشلاء من نَصِفهم بالأعداء، وقد تمزّقت بفعل سواطير الموت وقذائف التّدمير الشاّمل، وصولاً إلى طائرات بلا طيّار امتهنت فقط عمليات القتل والتّصفية للخصوم.
والمصيبة أنّنا جميعاً طرف، وبالتالي لدينا طرفٌ آخر مناوئٌ حال بيننا وبين مدّ جسور السّلام معه، واستنفد سبل التّصالح والتّسامح في ما بيننا، شحنٌ إعلاميٌّ مستمرٌّ يصوّر كل شرور العالم فيه. طاولات التّفاوض تحتاج اليوم لتفعيلها عظماء ربّما لم يعد لهم بين ظهرانينا وجودٌ. وبديل ذلك مُشاهَدٌ مُعاش.
مشاهدةٌ واحدة لردهة أيّ من مشافي مدننا المضطربة المصنّفة بمناطق نزاعات، وقد تناثرت في أرجائها أقدامٌ مبتورةٌ وبطونٌ مبقورةٌ ورؤوسٌ مفصولة يبحث المعنيون عن مطابقةٍ لأجساد أصحابها، كافيةٌ لتعيَ أنّنا لم نعد نكتفي بالقتل فقط.
ولم تعد عبارة “بينهم نساء وأطفال” تثير حفيظة أيٍّ منّا.
أسأل نفسي مراراً كيف تمكّن ذلك الهنديّ بجسده النحيل وسيقانه الرفيعة من فرض طريق سلام تهاوت أمامه مواسير المدافع، وخفت مقابل صوته هدير الطائرات؟
أيكمن السرّ في شخوص الناس وقت ذاك، مناصرين وأعداء؟
أم هي صفات غير مُقلَّدة للشّموخ والإباء اختطّها الرجل موقفاً وسيرة حياة. اسأل لما كان هو دون غيره؟ أهي مشيئة الله؟ يهبها لمن يشاء ويقدر؟ أم هو الإستعداد ومساحة المحبة والغفران في قلب ذلك الرجل، التي تجاوزت معها نفسه معطيات الأنا وحسابات الربح والخسارة والإنتصار للذّات؟.
الشحن الإعلامي المستمرّ يحول دون مدّ جسور السلام
أتتمثّل العظمة لدى هؤلاء في أروع صورها بأعيننا نظراً لتقزّمها فينا، مقابل تطاول جدر وكوابح ومتطلّبات كبّلنا بها حياتنا وأعجزَتنا هي بالتالي عن العطاء؟
أعي عظمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم– وبإمكاني تصوّر الكمّ الهائل من التسامح والعفو والمحبة في قلبه، والذي تمثّل في أبهى مظاهره في جملة “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. جملةٌ اختزلت مفرداتها تاريخاً ودستوراً ومنهاجاً لفنّ التعامل مع الأعداء كقيمة إنسانية، قبل أن تكون نبويّة بمبدأ “العفو عند المقدرة” لأعداء تتزاحم فيهم أيضاً مناقب العزّة والشجاعة والنبل والكرم، فهم بالتالي أهل لذلك العفو وإن فهماً لا سلوكاً.
ربما استهلك أولئك النفر من الرجال تلك الصفات والقيم، ولم يتبقّ لنا نحن منها إلّا مقدارٌ ضئيلٌ سرعان ما تحرقه أنباء فشل وقف لإطلاق النار، لم يصمد لساعات هنا أو هناك .
إنّنا اليوم – كبشر لا كشعوب – بحاجة لمئات وربما آلاف من صناّع السلام، ربّما تسهم كثرتهم في صنع سدّ بشريّ أمام دبابة إسرائيلية احترفت تجريف أغصان الزيتون مراراً.
ربّما باستطاعتهم أيضاً النزول جميعاً في مطار مدينة المكلا بحضرموت، ليكونوا سجناء ورهائن لدى تنظيم القاعدة إن أراد رهائن كثر.
هم – أزعم وحدهم – قادرون كما شكّلوا حاجزاً بشرياً لحماية مسجد في إحدى العواصم الأوروبية، يستطيعون تكوين جيش مدنيّ أعزل، بديلاً من عشرات الجيوش المسلّحة ومئات الطائرات التي تنوي دولٌ عديدة إرسالها لبلاد الرافدين أو ما تبقّى منها بشراً وحجراً.
مانديلًا وغاندي وياسر عرفات وأحمد ياسين وتريزا والقائمة تطول، لم تعرف لهم أممهم قدراً إلا بعد أن ووريت جثامينهم في الثرى.
ولا طائل لنا نحن بالحفر بحثاً عن “مانديلانا” بنسخته العربية، وإن وُجد اعتورناه بسيوفنا جدلاً وتنظيراً وتشكيكاً، وبالتّنقيب في سحنات وجهه عن زلّات وهفوات. فصناعة القادة فنٌّ لا تجيده كل الشعوب.