fbpx
‘الثعالب الشاحبة’ رواية فرنسية تقرأ الخراب الذي حل بالعالم
شارك الخبر

(( ليست وظيفة الأدب كتابة الواقع كما هو أو كتابة التاريخ كمن يجرد أحداثا واقعية، الكتابة يمكن أن تعبر عن الواقع من خلال رموز يمكنها أن تكون من الميثولوجيا أو الأساطير أو غيرهما )).

ينشغل الكاتب الفرنسي يانيك هاينيل في روايته “الثعالب الشاحبة” بتقديم التاريخ من وجهة نظر ضحاياه، وذلك باصطلاحه التاريخ على أنّه استمرار التعذيب والهدر الإنساني. ما جعل الرواية تحفل بالكثير من المقولات السياسية، حتى باتت هي نفسها مقولة سياسية خطيرة، تسعى إلى تدمير فكرة الانتماء وتنبئ بانهيارات وجودية ونفسية كبيرة.

تأخذ الرواية الصادرة مؤخرا عن دار ممدوح عدوان وقد ترجمها إلى العربية، كلّ من ماري إلياس ومعن السهوي، من أسطورة الثعلب الشاحب ثيمة أدبية لها، فالحيوان المقدس هو ابن الإله عند قبائل الدوغون، لكنه ابن عاق يمثل الاستقلالية، ورقصته احتفال بموت الآلهة. بحسب الأسطورة، فَقَدَ الثعلبُ القدرة على الكلام، لكن الكهنة قادرون على رؤية المستقبل، بقراءة آثار الثعلب على الرمال. تتحول هذه الدلالة الرمزية، موت الآلهة، ضمن لعبة الكاتب الروائية إلى رقص لمجموعة من المتمردين الذين نظموا أنفسهم بشكل سري، احتفالا بموت المجتمع، على الرغم من فشلهم في تقديم بديل فاعل له والاكتفاء بالقول، إنه “لا وجود للمجتمع”.

عرض الكاتب عبر شخصية جان ديشيل، جلّ الأفكار التي ستقدمها الرواية عن المجتمع الفرنسي، ويسوق الكاتب على لسان ديشيل معظم نظرياته حول مأزق العالم، ومستقبل البشرية، بحيث لم يعد الناس يملكون سوى العزلة والوحدة النهائية في وجه الخراب الذي ينتقم من ذاته بالتمدد.

يفسر الرجل العاطل عن العمل الحالة العامة انطلاقا من محنته الذاتية، إذ ينقسم المجتمع إلى من يجهدون أنفسهم في العمل ومن يفنون أنفسهم في البحث عن عمل، ويترافق ذلك الانقسام بتبعات حادة في التعاطي مع العاطلين عن العمل، الذين ينظر إليهم على أنّهم “طفيليات” و”مواطنون سيئون”. يُطرد جان من غرفة كان قد تأخر عن سداد إيجارها، ويسكن في سيارة تركها صديقه لديه، يتيح له السكن في السيارة، التماهي مع “الشيء الناقص في صلابة العالم”، وتسكنه رغبة وحيدة في أن ينتهي هذا العالم العقلاني، والذي سمته، مفردة الأزمة.

بالتالي، بات مفهوما أن يجد الكاتب في الشعر رؤية سياسية، إذ حين يموت الشعر تموت السياسة، لتحل الشرطة مكانها، ما يؤسس إلى إذلالنا وفقا لهذا التبدل التاريخي في المهام. لقد توزع العالم إلى الفوضى أو الخوف من الفوضى، ضمن هذه الرؤى الشاحبة رسم الكاتب تصوره عن الثورات القادمة، بالكثير من المقدمات المتدرجة والتي استهلكت القسم الأول من الرواية، لنقع في القسم الثاني على بيان سياسي غاضب، كيدي، ومتعاطف مع المهاجرين غير الشرعيين ومع العاطلين عن العمل، إلى درجة اعتبار فرنسا هي “الجرم بحد ذاته”.
الحدث الذي يُخلّص الرواية من المحاكمات الذهنية المتواصلة، هو موت عاملي نظافة غرقا في نهر السين، بعد أن دفعا بنفسيهما فيه من شدة الإنهاك والذعر من الكلب البوليسي والشرطة التي كانت تطاردهما، وليقال في الإعلام إنّهما انتحرا. ما دفع بالثعالب الشاحبة إلى الساحات، ولتحضر كومونة باريس نموذجا للرفض والعصيان، إذ يتوارى الكثيرون وراء أسماء مستعارة تعود لأعضاء الكومونة، على اعتبار استخدام أسماء الموتى هو بمثابة “إعلان حرب”.

يتخلص الكثيرون من أوراقهم الثبوتية تضامنا مع الذين لا يملكون أوراقا ثبوتية، إضافة إلى أنّه؛ وعلى لسان إحدى الشخصيات “من الملحّ اليوم أن يتخلص الجميع من هوياتهم، فإذا لم نتخلص من مفهوم الهوية ستتمادى الحكومة وستفرض علينا ارتداء أساور إلكترونية، تزين معاصمنا لمراقبة كل تحركاتنا”. وسيرتدي الجميع أقنعة خشبية، لأنّ القناع “يدحض قيم هذا العالم” الذي يروج إلى أن يتماهى كل إنسان مع شكله، وأن يبرز هذه “الهوية الذليلة”.

لا يهتم الكاتب بتطوير شخصياته بشكل محايد، وإنّما يضعهم في “مجرى التاريخ الذي أتى بالانتفاضات” والذي يُعمل أبدا على إخفائه. أي، على الرغم من دعوة الرواية إلى تعزيز الاستقلالية، فإنّنا لا نجد شخصية مستقلة واحدة، الكُلّ موظف، على نحو مُذلّ، في خدمة الفكرة التي تنفي التوظيف وتحاربه.

من المثير عودة الكاتب إلى أفريقيا باعتبارها “تقدم دائما شيئا جديدا” وليكون جديدها هذه المرة هو الثورة على استعباد البشر الذي بات “جائحة عالمية”، في الوقت الذي يشكل الروبوت خلاصة الحلم الغربي، يعود الكاتب إلى شعوب الدوغون “البدائية” ليبحث عن حلول باستعارة “الثعلب الشاحب” الذي قرأ هذا الخراب العالمي، وليكون الحل بالانتهاء من فكرة الانتماء، وبالثورة التي طالما عملت الرأسمالية على جعلها أمرا مستحيلا.

 

العرب اللندنية – سومر شحادة

أخبار ذات صله