fbpx
في ذكرى رحيل رائد التنوير محمد علي لقمان.

كتب : أمين اليافعي

تُصادف هذه الأيام الذكرى الخمسين لرحيل رائد التنوير الأول الأستاذ محمد علي لقمان، أول قانوني عربي في المنطقة، وأول ناشر لصحيفتين أحدهما كانت تنطق باللغة العربية (فتاة الجزيرة)  والأخرى باللغة الإنجليزية في عدن في زمنٍ كانت المدينة-الميناء الشهير مُلتقى نابض بالحياة والتلاقح الثقافي والحضاري بين الشرق والغرب.

وُلِد لقمان في السادس من نوفمبر عام 1998 في عدن لعائلة لها مكانة مرموقة في المدينة. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس عدن أثناء الاحتلال البريطاني، وفي العام 1922 حصل على شهادة “السنيور” من كامبريدج في بريطانيا. عاد إلى عدن بعد حصوله على الشهادة البريطانية وعمل كمعلم لعدّة سنوات في عدد من مدارس المدينة. وفي العام 1936 سافر إلى الهند لدراسة القانون، فحصل على شهادة المحاماة من جامعة مومباي خلال زمنٍ قصيرٍ.

ساهم محمد علي لقمان بجانب اصداره لصحيفتين (عربية وإنجليزية) في إنشاء عدد من المنتديات والأندية الثقافية والأدبية كـ”النادي الأدبي العربي” “ونادي الإصلاح” و”مخيم أبي الطيب المتنبي”، فضلاً عن “الجمعية العدنية” التي اتخذت شكلاً من أشكال النضال ضد الاستعمار البريطاني.

خلال مسيرته التربويّة والأدبية والنضالية صدرت له 18 مؤلفاً توزعت بين دراسات تربوية لإصلاح التعليم في عدن (صدرت باللغة الإنجليزية) وروايات أدبية ومذكرات شخصية وكتب قاربت القضايا السياسية والتاريخية.

ولعل الهم الأكبر الذي أولى له محمد علي لقمان عناية كبيرة كان يتعلق بقضية النهضة وشروطها وواقع التخلف الذي كانت ترزح تحت وطأت طبقاته الغائرة أجزاء كبيرة من الوطن والمنطقة والعالم العربي.

وفي سبيل هذه المهمة التاريخية الضاغطة، كانت محاولته المبكرة للبحث عن إجابة لسؤال نهضويٍّ بامتياز ظل وما زال هو الشغل الشاغل لكل مثقف عربي طيلة العقدين الأخيرين ومنذ صدمة الحداثة مع الاستعمار الغربي وذلك من خلال كتابه الذي حمل عنواناً دالاً “بماذا تقدّم الغربيون” بموازاة مبادرته لإصدار أول صحيفة عربية وإنشاء النوادي الأدبية والفكرية كمحاولة لرأب الصدع بين الجهد النظري ونموذج عملي يستطيع من خلاله تسريب أفكاره وملاحظاته حول شروط التقدم والنهوض التي كانت حصيلة لمعارفه ولخبراته ولإقامته بين مدنٍ غربية وشرقية كانت في ذلك الوقت الأكثر ازدهاراً على مستوى العالم، وليستفز من خلال تسليط الضوء على الفجوة الشاسعة بين دولٍ نهضت وأخرى تخلفت العقل المحلي الذي كان إلى ذلك الوقت مُستلقي بإريحية تامة على بحرٍ من ظلمات التخلف والجهل، محاولاً حثه على اقتفاء الأثر النهضوي المتين، ما أمكنه إلى ذلك سبيلا.

ولشدة انشغال الأستاذ محمد علي لقمان بهم مأزق “الفوات الحضاري”، حسب مصطلح طرابيشي، جاءت كلماته الأولى في افتتاحية العدد الأول من صحيفة فتاة الجزيرة الصادرة في يناير من العام 1940م مُعبرة بوضوحٍ عن هذا الهَم الكبير الضاغط: “لقد أثبت التاريخ الحديث التأثير العظيم الذي أحدثته الصحافة في شتى مناحي الحياة في أوروبا وأمريكا واليابان وكثير من البلدان الشرقية الفتية وكما أن للصحافة الفضل الأكبر في النهضات القومية والتقدم الأدبي والرقي الفكري…”.

لقد كان سؤال النهضة طاغٍ على تفكير الأستاذ، وهذه هي واحدة من سمات التنويريين الكبار، وقد كانت الغاية من اصدار هذه الصحيفة محاولة للتصدي لهذه المهمة الجليلة. الصحيفة ذات الهدف التنويري تركت بدورها أثراً بالغاً في المجتمع بانت ملامحه من خلال الحركة الثقافية والأدبية التي ازدهرت كثيراً في فترة الأربعينيات من القرن المنصرم وتوالي اصدار الصحف في زمنٍ كان للصحافة دور مؤثر جداً؛ فقد كانت هي سُلطة الإعلام الأولى وكانت في نفس الوقت جزء كبير من سُلطة الثقافة والفكر وسطوتهما.

في تلك الافتتاحية، أوجز لقمان غايته من إنشاء “فتاة الجزيرة” : “ولما كانت عدن ونواحيها بحاجة ماسة إلى جريدة عربية تكون لسان حالها عزمت على إصدار هذه الصحيفة خدمة لهذه البلاد وأهلها، جاعلاً هذه الصحيفة منبراً لشباب الجزيرة العربية وأدباءها. رامياً فيما ارمي إليه إلى تعميم التعليم للبنين والبنات ناشراً ألوية الأخلاق الحميدة”.

كان التعليم وتحفيز الشباب للاهتمام بالإبداع ونشر القيم الجديدة هي عناوين رئيسية بالنسبة للقمان في بحثه عن شروط أوليّة لإحداث النهضة. وقد كان اهتمامه بالمرأة كبيراً باعتبار دورها واسهامها سيكون له أثر بالغ في تقدم المجتمع، فنادى إلى تعليمها وافساح المجال لها، وقدم نماذج عملية من خلاله أسرته وأولاده، فتحصلت الريادة لهذه الأسرة من وجوهٍ كثيرة.

تجاوز انشغال لقمان بالنهضة وشروطها الوقوف فقط على مدركاتها النظرية، فقد جاءت افعاله وانشطته وأثاره في مجالات كثيرة ومتنوعة استكمالاً لدوره التنويري المتسق والمتناسق، وسعياً دؤوباً لتهيئة التربة المحلية لتقبل بذرة التقدم واستزراعها استزراعاً طبيعياً دون أن تموت كمداً في جوف التراب أو تُولد كائناً مشوهاً.

اليوم وبعد مُضي نصف قرن على رحيله، نحن مدينون لهذه الهامة التنويرية الكبيرة بالكثير من العرفان والتقدير، وقبل كل شيءٍ نحن مدينون له بالكثير الكثير من الاعتذار على ما لحق به من أذى، وما تعرض له تاريخه النضالي والتنويري من تشويه في فترة ما بعد الاستقلال عندما لم يوافق هوى القوى الحاكمة في تلك الحقبة الإيديولوجية الخانقة بعض مواقفه السياسية في قضايا محدودة، وبسبب ذلك، وبسوء وخبث في النية، تم بسط التهم والشائعات المغرضة على كامل مسيرته التنويرية والنضالية.

الحاجة ماسة اليوم إلى إنصافه، ورد الاعتبار له ولدوره وللتنوير الذي جاهد من أجله. وهي مهمة ينبغي أن تكون أكبر بكثير من مقالٍ قصيرٍ عابرٍ، نظراً لدوره الكبير والهام والمحوري في تغيير الحياة الثقافية والفكرية، ولدوره النضالي المشهود، ونظراً لما لحق به وبتاريخه من تشويه وتزييف عنيفين.