fbpx
صنعاء تقول كلمتها بوضوح!

المسألة ليست في كون صنعاء وضواحيها عفاشيّة محضة وكما يُردد البعض اليوم تعليقاً على حدث السبعين، هنالك أسباب موضوعيّة واضحة دفعت لخروج مثل هذه الحشود الكبيرة فضلاً عن أخطاء التحالف والشرعية الكارثيّة.
من وجهة نظرٍ سياسيّة، تتآلف هذه المجاميع على قلب تصورٍ واحدٍ، ووفقاً لأبعادٍ أخرى للرؤية تبدو هذه الحشود خليطاً من الأطياف والدرجات المذهبية/الاجتماعية/القبلية/ المناطقية.
جزء كبير من هذه الحشود لا يقوم موقفه على منطلق عقدي، سواء مذهبي أو إيماناً بكاريزما زعامية، أو لنكن أكثر دقةً، هو في هذه الحالة بالذات أكثر تخففاً بكثير من ضغط المحركات العقدية ومحركات أخرى من هذا القبيل.

أساس التحرك نفعي في جوهره، ولكن هذا الدافع يتجاوز الصورة السطحية للتجاذبات السياسية الطاغية على المشهد.
من منظور جيواقتصادي، يبدو مستقبل هذه الكتلة البشريّة غامضاً جداً، بل وربما كارثياً من أوجهٍ كثيرةٍ، في ظل ترتيبات ما بعد 2011، وبأكثر تحديداً، منذ التسليم الشكلي للسلطة. فمن وجهة نظرها باتت منذ ذلك الحين في مواجهة وجودية مع كل المشاريع المُبشَّر بِها وتُخالف ترتيبات “الوضع القائم”.
كان نظام الستة أقاليم الذي أُريد فرضه في مؤتمر الحوار الوطني صورة مكثفة لهذا التوجه، وقد تجلى الاعتراض الشديد عليه في أكثر من مناسبة بلغت ذروتها بشن حرب شاملة امتدت من مران إلى أخر شبر في البلاد.

كل من كان داعماً لهذا الخيار عن جديّة، بات اليوم لا يحظ بأي حضورٍ في صنعاء وضواحيها: الشرعية، بعض الزعامات القبلية، قيادات عسكرية، ومن وراءهم دول التحالف التي كانت بشكلٍ أو أخرٍ تربطها علاقة استراتيجية بهذا الفضاء الجيواجتماعي.
في عام 2006 خرجت اعداداً مذهلةً تأييداً للمرشح المنافس (فيصل بين شملان) في هذه المناطق ( وإن كانت الصناديق قد قالت بعكس ذلك، فالتأييد في الأساس لم يكن لرجل الدولة الفلتة بن شملان أو لمشروعه بقدر ما كان احتشاداً خلف بعض المشايخ الذين دعموه لحسابات مختلفة). لكن هذه المجاميع من المؤيدين تبخرت، ولم نَعُد نشهد لها أي وجودٍ أو حضورٍ، وكان أبلغ رسائلها الدالة على التحول موقفها (السلبي) من معركة الاجتثاث بحق شيوخ القبائل والقادة العسكريين، المحسوبين عليها، والمنخرطين في تيارات سياسية تبنت مشاريع الأقلمة بقوة.

على سبيل المثال، كان حزب الإصلاح من أكثر المبشرين والمنافحين عن مشروع الأقلمة (الستة تحديداً)، وكان كل هَمه، أو هَم قادته المهيمنين بقوةٍ على قراره على وجه الدقة، كيف شق الجنوب إلى نصفين لا لشيء إلا كمحاولة لضرب مشروعه، وهذا ما يعني الاحتفاظ بمصالحهم الكبيرة الموجودة في مناطق الجنوب، وهي أكثر من مصالح مادية، وإن كانت هذه هي المبتدأ والخبر!
كان قادة الحزب يفكرون بأنانية وانتهازية مفرطة إلى درجة العمى، كل تفكيرهم كان لا يتجاوز حدود مصالحهم الشخصية الضيقة وكيفية حمايتها والاحتفاظ بها، وقد ساهم وجودهم على رأس مؤسسات تضم خليطاً من الانتماءات الجغرافية والاجتماعية والمذهبية، خليطاً هشاً ولكن ميزته سهولة انقياده وتوجيهه ومظهره الحداثي الملفت، ساهم هذا الوجود على رأس مثل هذه المؤسسات (الخانعة) الرهان عليها للتمدد السياسي على مستوى أوسع يتناسب مع المصالح الضيقة للطبقة المهيمنة ويلبي احتياجاتها واستراتيجية الحفاظ عليها، أي المصالح، لكنه كان أبعد ما يكون عن الحسابات الوطنية وهمومها وشواغلها.

في مقابل هذه التمدد (النفعي الخالص) تراجع الاهتمام والعناية لدى هؤلاء بالروابط التقليدية المحركة لقطاع واسع من الأفراد، وما تفترضه هذه العناية من مراعاة لمصالحهم وتطلعاتهم وحساباتهم المختلفة، وعلى سبيل المثال كانت محافظة عمران تتصدر باستمرار القائمة كأفقر محافظة في الجمهورية.
أدى هذه الإهمال المرزي، واللهث المسعور وراء خيار الأقاليم إلى تراكم مشاعرٍ سلبية كبيرة، وإحساس دائم بتلقي طعنات غادرة في الظهر من قِبل المحسوبين عليها عادةً. وكردة فعل طبيعية حاولت أن ترد الصاع صاعين لكل من تبنى هذا الخيار في أكثر من مناسبة، بدءاً بمعركة عمران، مروراً بدخول صنعاء، وليس انتهاءً بحشود اليوم.

*************

لا ننسى هنا الإشارة إلى أن كثير من النخب، وجزء كبير منها لا تربطه أي صلة تنظيمية بعفاش أو الحوثي إن لم يُعبر عن معارضته لمشاريعمها وتوجهاتهما، قد اعتبرت خيار الأقاليم تآمر على “الوطن اليمني”، بالإضافة إلى تصنيفها لتدخل قوات التحالف كعدوان يحاول أن يُدمّر البلاد من منطلق محركات ودوافع انتقامية تاريخية وحسابات سياسية تصب في صالح هذا الدول، وأسرها الحاكمة على وجه الخصوص.

بمعنى آخر فقط تضافر أكثر من سبب، بجانب ما أشرنا إليه، دفع الناس إلى مثل هذا الخروج العظيم. وهذا يعكس ضمن ما يعكسه بأن الممانعة (الناعمة) المنطلقة من صنعاء كانت في المحصلة النهائية أكثر تأثيراً بكثير من زعيق وتنظيرات النخب اليمنية التي وُجِدت على الطرف الآخر، طرف الشرعية الهارب والرابض في مطارح خمسة نجوم، وهيمن حضورها، وعلى مدار الساعة، على الفضاء الإعلامي ليس المحلي فقط ولكن العربي بقنواته الفضائية وبصحفه وبمؤتمراته وندواته ومراكز بحوثه، وبكل شيء!
وها هي صنعاء تقول كلمتها بوضوح!!