fbpx
في ذكرى رحيل “التنويري الأول”: محمد علي لقمان

اليوم يُصادف الذكرى الخمسين لرحيل رائد التنوير الأول الأستاذ محمد علي لقمان، أول قانوني عربي في المنطقة، وأول ناشر صحيفة عربية (فتاة الجزيرة) في عدن في زمنٍ كانت المدينة-الميناء الشهير مُلتقى نابض بالحياة والتلاقح بين الشرق والغرب، وأول من بدأ محلياً يشتغل على القضايا الكبيرة ، فكانت محاولته المبكرة للبحث عن إجابة لسؤال نهضويٍّ بامتياز ظل وما زال هو الشغل الشاغل لكل مثقف عربي منذ صدمة الحداثة من خلاله\ كتابه الذي حمل عنواناً دالاً “لماذا تقدّم الغربيون” بموازاة مبادرته لإصدار أول صحيفة عربية كمحاولة لرأب الصدع بين الجهد النظري ونموذج عملي يستطيع من خلاله تسريب أفكاره وملاحظاته حول شروط التقدم والنهوض التي كانت حصيلة لمعارفه ولخبراته ولإقامته بين مدنٍ غربية وشرقية كانت في ذلك الوقت الأكثر ازدهاراً على مستوى العالم، وليستفز من خلال الإشارة إلى الهوة السحيقة العقل المحلي الذي كان إلى ذلك الوقت مُستلقي بإريحية تامة على بحرٍ من الظلمات، وليحثه على اقتفاء الأثر النهضوي، ما أمكنه إلى ذلك سبيلا.

ولشدة انشغال الأستاذ محمد علي لقمان بهم مأزق “الفوات الحضاري”، حسب مصطلح طرابيشي، جاءت كلماته الأولى في افتتاحية العدد الأول من صحيفة فتاة الجزيرة الصادرة في يناير من العام 1940م على النحو الآتي: “لقد أثبت التاريخ الحديث التأثير العظيم الذي أحدثته الصحافة في شتى مناحي الحياة في أوروبا وأمريكا واليابان وكثير من البلدان الشرقية الفتية وكما أن للصحافة الفضل الأكبر في النهضات القومية والتقدم الأدبي والرقي الفكري…”.
لقد كان سؤال النهضة طاغٍ على تفكير الأستاذ، وهذه هي واحدة من سمات التنويريين الكبار، وقد كانت الغاية من اصدار هذه الصحيفة التي تركت أثراً كبيراً في المجتمع بانت ملامحه من خلال الحركة الثقافية والأدبية التي ازدهرت كثيراً في فترة الأربعينيات من القرن المنصرم في زمنٍ كان للصحافة دور مؤثر جداً؛ فقد كانت هي سُلطة الإعلام الأولى وكانت في نفس الوقت جزء كبير من سُلطة الثقافة والفكر وسطوتهما.

في تلك الافتتاحية، أوجز لقمان غايته من إنشاء “فتاة الجزيرة” : “ولما كانت عدن ونواحيها بحاجة ماسة إلى جريدة عربية تكون لسان حالها عزمت على إصدار هذه الصحيفة خدمة لهذه البلاد وأهلها، جاعلاً هذه الصحيفة منبراً لشباب الجزيرة العربية وأدباءها. رامياً فيما ارمي إليه إلى تعميم التعليم للبنين والبنات ناشراً ألوية الأخلاق الحميدة”.
كان التعليم وتحفيز الشباب للاهتمام بالإبداع ونشر القيم الجديدة هي عناوين رئيسية بالنسبة للقمان في بحثه عن شروط أوليّة لإحداث النهوض. وقد كان اهتمامه بالمرأة كبيراً باعتبار دورها واسهامها سيكون له أثر بالغ في تقدم المجتمع، فنادى إلى تعليمها وافساح المجال لها، وقدم نماذج عملية من خلاله أسرته وأولاده، فتحصلت الريادة لهذه الأسرة من وجوهٍ كثيرة.

********************

اليوم وبعد مُضي نصف قرن على رحيله، نحن مدينون لهذا الرائد التنويري الكبير بالكثير الكثير من الاعتذار، نحن نشعر بالخجل، بأعمق أدراك الخجل، بسبب ما تعرض له تاريخه النضالي والتنويري من تجريف وتحريف وتشويه تشيب من وقاحته ونذالته الولدان اعتماداً على اتهامات وهذيانات في منتهى السخافة والحمق، وعلى مواقف سياسية تم فهمها بطريقةٍ مغلوطةٍ تماماً عن تلك التي اُتخذت لأجلها، أبرزها على سبيل المثال تأسيسه لـ”الجمعية العدنية” التي كان الهدف من وراء انشاءها المطالبة بمنح أبناء عدن حقوق كاملة ومتساوية مثلهم مثل الموظفين الأجانب مع الإدارة الاستعمارية في عدن، حيث كان الموظف الأجنبي يحظى بامتيازات كبيرة مقارنة بنظرائه من أبناء المدينة، وقد استمرت دعوته فيما بعد على هذا المسار “منح أبناء عدن حقوقهم”…
فأستغرب أن يَصِل الضيق والتلفيق والتدليس إلى هذا الحد، فشخص مثله كان يُفكر بسعة أفق تتجاوز التحديدات المحلية بكثير من خلال كلماتٍ واضحةٍ خطها في افتتاحية العدد الأول (جاعلاً هذه الصحيفة منبراً لشباب الجزيرة العربية وأدباءها)، فكيف يُمكن الصاق التهم له كتلك التي روجتها جرائد وصحائف ما بعد الاستقلال (الأحول) ضده، وليتم التشنيع به بصورةٍ لم تسبق مع تنويري مثله !!

*********************

الحاجة ماسة اليوم إلى إنصاف هذا الرجل، وهي مهمة ينبغي أن تكون أكبر بكثير من منشور فيسبوكي عابر، بكل تأكيد، نظراً لدوره الكبير والهام والمحوري في تغيير الحياة الثقافية والفكرية على مستوى المنطقة بأكملها، ولدوره النضالي المشهود، ونظراً لما لحق به وبتاريخه من تشويه وتزييف عنيفين.
معنيون اليوم برد الاعتبار له، لدوره، للتنوير الذي جاهد من أجله.
فلك المجد أستاذ لقمان، فنحن ثمرة من ثمار تلك الرسالة التي حملتها وكانت من أبرز مهامها الدعوة إلى ضرورة “تعميم تعليم البنين والبنات”، وانشغلت بها إيّما انشغال!!