fbpx
“العدني الأعلى”

من بين جميع الذين كتبوا عن مدينة عدن، هذه المدينة الساحرة بطبيعتها الجغرافية وبتركيبتها الكوزموبوليتية، من ما قبل بول نيزان ورامبو، وما بعد سعدي يوسف ومحمود درويش، تبقى “بخور عدني” هي العمل الأهم من حيث الكيف والكم الذي غاص في أعماق عوالم المدينة السحرية، وتتبع أدق خيوط تفاصيلها، التفاصيل التي نقشها التفاعل المتبادل بالمجال والزمان والإنسان العالق/العابر بينهما، فأصبغ عليها الفرادة والتميز، وبما جعل المدينة التي ارتبط اسمها بالفردوس تتجلى بأكثر من صورةٍ وطعمٍ ورائحةٍ ولونٍ.

كُتِب في التصدير للرواية بأن ميشيل أو فرانسوا، الفرنسي الذي أتى إلى عدن قادماً من أوروبا بعدما مزقتها الحروب العالمية وضاقت بها جميع الدروب باحثاً عن فضاءٍ مفتوحٍ في محاولة للخلاص ولخلخلة الطبقات الصخرية للانتماءات الضيقة والقاتلة حتى بات على استعداد لاتخاذ “أي شيء” اسماً له، سيسير هذا الفرنسي واللا فرنسي في فضاءات المدينة خلف سِحر “ماما” (ذي الأصول الصوماليّة) التي غدت بأحلامها ضمير المدينة ودليله إلى خفاياها، وصوت شمعة، المغنية اليهودية التي ترسم بصوتها حدود مدينة مترامية الأطراف. يمضي ليصبح جزءاً من تاريخ عدن الثائرة على الاحتلال، والتي راحت تفقد ذاكرتها، بما فيها دكان اليهودي الذي كان مخزون أسرارها وحافظ مشاعر أبنائها من المحبة.

يزعم مايك كرانغ بأن الفضاء يتحول إلى مكان عندما يصبح “مُثخن بالزمن”، له ماضٍ ومستقبل يقيدان الناس معاً. وهكذا صارت عدن على طول الرواية تتقلب أحوالها وأمزجتها على روائح وجمرات أبخرة الزمن بين الفضاء والمكان، فتارةً تغدو فضاءً كوزموبوليتيا ونافذة عالمية وتارةً أخرى تتعثر بشروط مكانها. لكن ما ميز هذه المدينة على الدوام أنها في تجاوز مستمر لماضيها، أو كما عبرت الرواية عن ذلك: “عدن بحرٌ”، والبحر في حركته الدائبة يخلق انعتاقه الأبدي من ربقة جميع القيود، ومن قيود الماضي، فالبحر بلا ماضٍ، هو حاضرٌ على الدوام!

تنافس رواية “بخور عدني” حالياً على واحدة من بين أكبر الجوائز العربية المخصصة لفن الرواية بصحبة روايتين أخريين، قد تفوز الرواية بالجائزة، وهي تستحقها عن جدارة، فضلاً عن عشرات المقالات لكبار النقاد العرب التي تناولتها بالإشادة والتقدير، وليس من المُستبعد أن يتم ترجمتها إلى لغاتٍ عدّةٍ. وهكذا أصبح البخور العدني ينشر أريجه في أرجاء الأرض في الوقت التي تمر فيه المدينة بظروفٍ حرجةٍ، واختبارات قاسيةٍ.
فألا يستحق المبدع علي المقري أن يكون عدنيّاً أصيلاً، بل و”عدنيّاً أعلى” لو استعرنا مصطلح نيتشه الشهير (Übermensch)، بمدلوله الإيجابي (أو “الأرقى” وفق ترجمة أخرى)، ينتمي إلى الروح الرحبة لهذا الفضاء اللا محدود، إلى أبخرته العابقة، متجاوزاً كل قيود المكان بمحدداته الخانقة؟!!