fbpx
مِحَن ونِعَم
شارك الخبر

 

 

بقلم : بروين حبيب

تهبط علينا المحن من مكان ما، نفسّرها أحيانا بالقدر، وأحيانا بـ«صيبة العين»، وأحيانا نتقبل أن الأمر يحدث وكفى.
في المحنة لا نرى سوى جدران الخوف تعلو من حولنا وتصنع سجنا يغلق علينا منافذ التنفس. نموت ببطء، ننكسر ونتحطّم وننتهي ونتلاشى ولكن بعد هذا التلاشي أعتقد أننا نولد من جديد، بعد كل محنة ولادة.. بعد كل محنة يصبح الإنسان شخصا آخر. كل المكونات الداخلية التي جعلتنا «نحن» في السّابق تتغيّر، وكأن ما حدث شبيه بالضبط بطبخة جمعنا فيها كمية من المقادير ووضعناها على النار لتعطي المذاق اللازم. بعض هذه النّار أحيانا تحرق فينا الأخضر واليابس وبعضها يعيد هيكلة أنفسنا من الداخل.
المحن التي يتحدّث عنها مشاهير التاريخ من ملوك وقادة جيش وكتاب وعلماء لا تصب عادة في المفهوم نفسه. فكل شخص يتلقّى محنته من خلال هشاشته أو قوّته، وكم من جبابرة عند عتبة أول محنة يتحوّلون إلى رماد، وكم من أشخاص من شدة هشاشتهم نتفاجأ بقوتهم الخارقة عند المحن. تعطينا الحياة دروسا بهذه المحن العاصفة فنعرف من الصديق ومن المتملق في دائرة علاقتنا. وأحيانا تكشف لنا مدى حجم النّعم التي نعيش فيها ولا نراها. يمكن للمحنة رغم تدميرها لنا أن تكون إيجابية النتائج، فقد وحّدت الكوارث الطبيعية شعوبا تناحرت بسبب الحروب، أمّا شعوب أخرى فقد تناحرت أكثر بسبب مصائب حلّت بها. هناك محن وحّدت أعداء قضوا حياتهم في ساحة وغى حامية الوطيس… وأخرى حوّلت الأخوة إلى أعداء، كمصائب الفقدان التي تليها طقوس توزيع الميراث. نقطة النهاية لبعض تلك الحروب الشرسة التي نشأت بسبب دوافع تافهة بين اثنين قد تكون محنة.. محنة واحدة لا غير..!
ولعلّ السؤال المحيّر هنا هل نحن بحاجة لمحنة في حياتنا حتى نرى الأمور جيدا؟ أو لنصحح مسار حياتنا؟ أو لنكف عن الاهتمام بأناس هم في الحقيقة مجرّد هوامش لا معنى لها في حياتنا، ولكننا قبل المحنة نضعهم في واجهة اهتماماتنا اليومية؟
تضعنا المحن في قلب الحياة أحيانا لأننا طيلة الوقت نصارع في الهامش.. لكن لماذا نعيش في الهامش وننسى من هم أقرب إلينا؟ نفكر ونسعى بجد لأن نفهم تلك الحلقة الغبية التي نعيش فيها أحيانا، فلا نجد أي تفسير لها، سوى أن نوعا من الهوس بأمور ثانوية يبتلعنا مثل دوامة، ويحجب عنّا العصب الحقيقي لكل ما يفترض أن يكون دعامة لحياتنا.
هل هي خدعة الحياة؟
لا أدري.. أعرف فقط أن خلف كل هزّة قدرية قوية شيء يشبه عملية إعادة الإعمار بعد أي حرب. ولكن كل شيء متعلق بالقرارات التي نتخذها في الوقت المناسب.
غابرييل غارسيا ماركيز يقول: «في العلاقات الزوجية من السهل التحكم في المشاكل الكبيرة، لكن من لديه القدرة لتجاوز المشاكل الصغيرة؟»، إلى أي حد نشبه هذه المقولة؟ أو إلى أي حد يمكنها أن تمثلنا خارج العلاقات الزوجية أيضا. تقول حكمة أجنبية لا أتذكر قائلها، إن الوقت الذي نهدره في التفكير في أعدائنا أكثر بكثير من ذلك الذي نمنحه لأصدقائنا، وإلى هنا يبدو أن الأمر قابل للسيطرة عليه لو أننا فكّرنا بالطريقة الصح. فقبل المحن كلها، يكون الهدوء مثل غاوية حقيرة توجه أعيننا ومشاعرنا أحيانا للأشياء التي لها بريق زائف.. ألا نحب التأنّق وإبهار الآخرين بحفلات زيجاتنا مثلا قبل اختيار القلب الذي ينبض لنا؟ نحضر تفاصيل أعراسنا بدءا من شكل محارم الطاولات وحجم الملاعق، إلى الأرقام التي تنطح بعضها بعضا ونحن نستعرض قيمة الهدايا ومصاريف ما أهدرناه للاحتفال، نفكّر في آراء الحاضرين ونسأل ونصغي باهتمام إلى كل ما قيل.. وبعضنا يحرص على أن يكون فرحه نوعا من الانتقام اللطيف من أعدائه! ثم تنتهي تبعات ذلك المهرجان.. بعد فترات الثرثرة كلها والأقاويل، وقطع مسافات لجس نبض الحساد والغيورين والمعجبين والمعجبات، ومن سمع ومن لم يسمع، نعود خطوات للوراء عند أول عثرة، ونتذكر أين زلّت أقدامنا وأين التوت كواحلنا، وبأي خدعة خرجنا من المسار الصحيح لحياتنا. أشياء كثيرة كهذه تحدث يوميا لنا، تلعب معنا لعبة «الغميضة» قبل أن يخرج فعل «ليت» ويرعبنا بحقائق تنهي اللعبة بالوقوف على خسارات لا حصر لها.
من أين تبدأ المحن وأين تنتهي؟
بالطبع هي منذ البداية موجودة مثل منبّه مضبوط على توقيت معين ليرنّ، لكن من ينتبه لمنبه في زاوية كرنفال نختلقه ونتسلى به حتى لا نرى أنفسنا جيدا؟ تقول الحكمة وحده الإنسان يخترع الشيء، من دون أن يعرف أنه اخترع مصيبته معه. وهذا جزء قد يتناقض مع فكرة «المنبه» السّالفة الذكر، ولكنّه جزء آخر يشرح نوع «الحلقة الغبية» التي نعيش فيها. نحن كائنات تعبث كل الوقت في الخارج الذي لا يعنيها، حتى تهب عليه العاصفة، وتبلله الأمطار المفاجئة، ليتذكر البيت الذي يمكن أن يحميه… بيت يشبه بيوت الشعر التي قرأناها أيام طفولتنا وحفظناها عن ظهر قلب، فيها كل ما يلزم من الدفء والنّعم الكثيرة التي غفلنا عنها دهرا.. هل تذكرونها؟
سقف بيتي حديد
ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح
وانتحب يا شجر
واسبحي يا غيوم
واهطلي بالمطر
واقصفي يا رعود
لست أخشى خطر
باب قلبي حصين
من صنوف الكدر
فاهجمي يا هموم
في المسا والسحر
وازحفي يا نحوس
بالشقا والضجر
وانزلي بالألوف
يا خطوب البشر
وحليفي القضاء
ورفيقي القدر
فاقدحي يا شرور
حول بيتي الحفر
لست أخشى العذاب
لست أخشى الضرر.
ويا للصدف حين تكون هذه الأبيات للشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة، الذي يحمل في اسمه إشارات النعمة الرّبانية… نعم هذا النص الجميل يصنع فرحا حقيقيا لمن حفظه وهو طفل، لأنّه عصي على النسيان. «يا رب كم كنا في نعمة ولم ننتبه، فاغفر لنا سهونا عن نعمك»، في الغالب هذا ما نردده حين يحتوينا من كنا، خارج محنتنا، نظنه مجرّد هامش. والغالب في الأمر هنا أن الرؤية لم تكن واضحة بالنسبة لنا لتحديد موقعنا فالهامش نحن من كنا نقف فيه.
أما الأسوأ بعد عرض كل هذه الاحتمالات، هو أن نِعَم الماضي كانت كثيرة ومصائبنا التي قد تطوقنا من كل صوب وحدب كلما تقدّم بنا الزمن تحيل «المستقبل» بشكل عام إلى كارثة حقيقة… إذ خلال كل هذا العمر الذي عشته، كنت أرى كل الذين اختبرتهم الحياة حولي بأحداث قوية يلتفتون لعالمهم المنسي وحاضرهم المشوش بأمور دخيلة ويدخلون معه في عناق مسامحة.
لست متشائمة… ففي الحقيقة كتبت مقالتي اليوم انطلاقا من محنة صديقة عزيزة جمعني بها عناق طويل تلته مراجعة نفس حقيقية وتصحيح لكل الأخطاء السابقة.

شاعرة وإعلامية من البحرين

بروين حبيب

القدس العربي

أخبار ذات صله