fbpx
مناضل قُوبل بالجحود والنكران.. فأنصفه الشيخ زايد و(عمران)

اعتدنا في حياتنا السياسية المتقلبة التي تتبدل فيها الأنظمة والحُكَّام أن نتنكر للكثير من الأبطال، لأسباب ومبررات عديدة، أهمها اختلاف وجهات النظر أو المواقف السياسية اللاحقة لصنع النصر.. فنتجاهلهم أو ننساهم أو نلغيهم بجرة قلم من صفحات التاريخ .. وليت الأمر وقف عند هذا الحد..بل أن السجن والتصفيات الجسدية قد كانت مصير بعضهم بحجج واهية، وتلك لعمري من الأخطاء القاتلة التي أودت بحياة كثير من الأبطال في دورات الصراع على السلطة تحت مسميات عديدة، وكانت أحد أهم أسباب تعثرنا في مسيرة التطور المليء بدورات الدم والتصفيات الجسدية.

تذكرت ذلك وأنا أقرأ (ذكريات عمران..الفدائي والإنسان) وهو الاسم الحركي للمناضل في حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني صالح فاضل الصلاحي فلفت انتباهي ذلك الوفاء النادر الذي أبداه بحق مناضل وإنسان، من أسرة سلاطين آل العفيفي، قُوبل بالجحود والنكران، وكادت مواقفه الوطنية أن يطويها النسيان، بل وكاد أن يلقى الإعدام وهو مصير سلفه السلطان الثائر محمد بن عيدروس العفيفي ، الذي لم تشفع له مواقفه وثورته ضد الاستعمار.

أنه المناضل الشيخ عبدالقادر بن علي العفيفي.. الذي غادر دنيانا في 21 ديسمبر 2005م في أبو ظبي التي احتضنته منذ عام 1968م بعد أن غادر وطنه مكرها في العام التالي  للاستقلال الوطني الذي كان أحد صانعيه، لينجو بحياته بتسهيل من صديقه الوفي (عمران)، بعد أن تعرض للسجن وكاد أن يلقى مصير ابن عمه السلطان الثائر محمد عيدروس. وقد احتضنته إمارة أبوظبي ووجد فيها من التقدير والتكريم ما لم يلقاه في وطنه الأم فكانت مستقره ووطنه البديل الذي أحبه، ثم منحته الإمارات العربية في عهد مؤسسها الشيخ زائد بن سلطان – طيب الله ثراه- الجنسية الإماراتية وأتيح له الالتحاق في قوة دفاع أبوظبي حتى تقاعد في العام 1979م برتبة مقدم، ثم اتجه بعد تقاعده إلى ممارسة الأعمال التجارية الخاصة، فضلا عن دوره في خدمة أهله ووطنه حتى يوم وفاته، حيث كان معتمداً من سلطات إمارة أبوظبي معرفاً رسمياً وشعبياً للمواطنين من أبناء يافع والضالع وعدن..

ونقرأ في سيرة الفقيد  أنه من مواليد يافع عام 1943م وعمل خلال الفترة 1963-1967م مدرساً في مدينة الحصن ثم مديراً لبلدية جعار، ثم نائباً للضابط السياسي البريطاني لسلطنة يافع السفلى (السلطنة العفيفية).

لكننا نجهل الكثير عن سيرته كمناضل وطني وصاحب مواقف صلبة ومشهودة ضد الاستعمار البريطاني، وقد يستغرب البعض ويتساءل كيف كذلك وقد كان يشغل منصب نائب الضابط السياسي البريطاني في السلطنة ؟!

ولا غرابة إذا ما عرفنا أنه قد سبقه في ذلك الموقف الوطني العديد من الأبطال ممن خدموا الثورة من داخل المؤسسات الاستعمارية العسكرية والمدنية، نذكر منهم الشهيد البطل (عبدالقوي المفلحي) وكذلك السلطان الثائر محمد  بن عيدروس، الذي تأثر به قريبه وابن عمه عبدالقادر العفيفي واقتفى سيرته ومواقفه، بل ومن خلال موقعه الهام البعيد عن الشبهة أو الشكوك خدم بسرِّية الثورة ضد الاستعمار بما لا يستطيع غيره أن يقدمه من خارج موقعه. وهذا ما كنا نجهله عنه، وما كان لنا أن نعرفه عنه.. لكن الفضل في كشف الحقيقة وإنصاف الراحل الكبير يعود لزميله ورفيق دربه في النضال (عمران)، الذي أسهم شخصياً في كسب الفقيد إلى صف الثورة.. ومن غير شك أنه ما كان له أن ينجح في ذلك لو لم يكن الفقيد قد وصل إلى مثل هذه القناعة، وآثر أن يخاطر بمكانته وحياته من أجل حرية واستقلال وطنه، غير عابئ بما قد يترتب على موقفه ذلك فيما لو انكشف أمره.

لكن السرية في العمل الفدائي، جعلته في مأمن منذ  أن أصبح أحد عناصر الجبهة القومية السرّيين عام 1965م، حيث تم استقطابه من قبل صديقه عمران ثم قابله سالم ربيع علي، قائد العمل الفدائي، وأحاله إلى المناضل القيادي جعبل الشّعوي، ليأخذ منه القسم، وكانت تتم مراسيم القَسَم بوضع يد العضو على مصحف القرآن الكريم والأخرى على المسدس، ويقسم على النضال ضد الاستعمار البريطاني حتى إخراجه من بلادنا، والحفاظ على السِّرية، وعدم كشف أعضاء الحركة في حال تعرضه للاعتقال أو التعذيب، وأن يكون جاهزاً وقت الطلب لتنفيذ أي مهمة.. وبأداء ذلك القسم أصبح (عبد القادر العفيفي) عضواً سريّا في الجبهة القومية وبقي في موقعه الوظيفي كنائب للضابط السياسي البريطاني، ومن خلال هذا الموقع الرفيع والهام أسهم بتقديم المعلومات القيمة والدعم بالسلاح والذخيرة التي كان يحتاجها ثوار الجبهة القومية، ومن ذلك كما يذكر الفدائي (عمران) ستة بنادق نوع “كندا” وصندوق قنابل يدوية فيه حوالي 50 قنبلة ومدفع آر .بي .جي كانت موجودة لدى أحد أصدقائه في دثينة اسمه “العاقل” ، ذهب لاستلامها وبرفقته كل من: أحمد عبد الله علي سقاف، ومُحمّد قاسم علي من يافع، وعوض الجحما من دثينه، وحيدره امصلاحي من اموضيع، وتم إيصالها بسرية محفوفة بالمخاطر وجرى تسليمها إلى قائد العمل الفدائي سالمين.

كما كان للفقيد الكبير عبدالقادر العفيفي دور كبير وهام في انجاح عملية استيلاء ثوار الجبهة القومية على 250 قطعة سلاح أخرى، أورد حكايتها (عمران) في ذكرياته.. ففي بداية النصف الثاني من عام 1967م صَعَّدت الجبهة القومية، من عملياتها الفدائية بغية تحرير عدن وضواحيها وكذا استكمال إسقاط السلطنات والمشيخات التي لم تسقط بعد في يد الجبهة القومية مثل حضرموت ، العوالق، الواحدي، المهرة ، خاصة بعد أن تمكنت من إسقاط الضالع، الشعيب، المفلحي، لحج ودثينة.. كان ما ينقص الثوار حينها هو السلاح فقط.. وللمساهمة في حل هذه المشكلة، اتجه (عمران)، إلى صديقه”الضابط السياسي”  عبد القادر عفيفي وطلب منه الدعم، فلم يتردد، وأفصح له عن سر وجود “250” قطعة سلاح نوع “عيلمان، و “كندا” في خزينة السلاح في معسكر خنفر- جعار، مقدمة من المعتمد البريطاني، هديةً للسلاطين والمشايخ الممثلين في حكومة الاتحاد، لكنهم اختلفوا حول طريقة ونُسب توزيعها بينهم، لذا تم الاحتفاظ بها كاملة في الخزينة حتى ينظر لاحقاً في أمر توزيعها بنسب ترضي كل المستفيدين منها.

هنا انفرجت أسارير المناضل صالح فاضل وثارت شهيَّته، بل وربما سال لعابُه تشوّقًا للحصول على هذا الكنز الثمين من السلاح الذي جاء في الوقت المناسب، وكأنه هدية من السماء.. ولا شك أنه قد فكّر ملياً في قرارة نفسه أن الحصول على هذا العدد من  السلاح معناه إضافة “250” فدائياً مسلحاً، لاسيما أن البشر جاهزون وينقصهم السلاح فقط.. وها هو الآن شبه متاح.. وأفصح لصديقه العفيفي، بأن الفدائيين بهذا الكم من السلاح سيحرقون الأرض تحت أقدام أعداء الله وأعداء الوطن.. ولهذا طلب منه أن يكتب له رسالة إلى قيادة المعسكر بصرف هذا السلاح، وسيضاف ذلك إلى رصيده السابق.

 ضحك العفيفي وهو يسمع طلب صديقه فقال له:” من أكون حتى أصرف وديعة سلاح ليست تحت تصرفي ولا حتى من أمر بإيداعها ولست المسئول عنها، إضافة إلى أنها باسم السلاطين والمشايخ، وأنت لا سلطان ولا شيخ”. ومن جانبه أوضح له الصلاحي بأنه يعرف ذلك ،لكنه يريد استخدام تلك الرسالة وسيلة وحجة فقط للدخول إلى المعسكر لمقابلة القيادة بسهولة ، وأضح له خطته بالقول:” سندخل عليهم بأسلحتنا وسنعلنها صراحة أنه لا نجاة لهم ولنا إلاَّ بتسليمنا السلاح، وعندها لعلهم يجدوا في هذه الرسالة المخرج لهم من هذه المحنة، فيسلمونا السلاح ويجنبونا ويجنبون أنفسهم الاقتتال”.

 عند ذلك لم يتردد الضابط السياسي العفيفي بكتابة الرسالة فأمسك بالقلم وكتب رسالة إلى قيادة معسكر شبر والليوي في معسكر خنفر فحواها:” اصرفوا للأخ صالح فاضل سلاح السلاطين والمشايخ الموجودة لديكم في خزينة السلاح والمقدرة بـ”250″ قطعة سلاح”.  ثم وقعها وقرأها له.. وبعد أن سلمها له، قال له بلهجة لا تخلو من التعاطف ولفت الاهتمام:” صحيح لقد كتبت لك في الماضي رسالة لعاقل دثينة، وحينها كنت أعرف بأنه إذا واجهت صعوبة أو مقاومة ستكون مع شخص أو أشخاص، أي أنها ستكون مواجهة شبه متكافئة، لكن هذه المرة عليكم أنت وأصحابك أن تحسبوها جيداً فستواجهون أفراد الجيش والأمن المدربين وأعدادهم كثيرة وعتادهم متطور ، ولا أريد لكم،  أنت ورجال الجبهة، أن تلقون بأنفسكم إلى التهلكة، وأخشى أن أكون بنزولي عند رغبتك هذه، وكتابتي لهذه الرسالة، قد سهلت حتفكم، وبالتالي لن تكون قيادة الجبهة القومية راضية عن تصرفي هذا، ولا قيادة الجيش والأمن”.

أخذ صالح فاضل الرسالة من عبدالقادر العفيفي ولتبديد مخاوفه التي ذكرها قال له وهو يودعه:”إذا نجحنا فلن أنسى لك هذا الجميل وإن استشهدت في المعسكر وتعرضت أنت بعدها لأي مساءلة بإمكانك أن تخبرهم بأننا حصلنا منك على هذا الرسالة تحت التهديد، وأنا أضمن لك بأنهم سيصدقونك”. فأجابه العفيفي مازحاً:” لا تعطيني ضمانات بعد موتك، لكن أي ضمانات مطلوبة منكم إذا حماكم الله وكتب لكم السلامة”.

دارت الأيام وتحقق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م  الذي أسهم المناضل العفيفي بقسطه في صنعه، لكن للأسف بدلاً من أن يُكافأ المناضل والفدائي (السري)عبد القادر العفيفي أُودع في السجن، بحجة أنه كان عميلاً ونائباً للضابط السياسي، حصل ذلك دون علم رفيقه، في وقت اشتدّت فيه زحمة المناضلين وكثرة المزايدات، وقد حاول البعض إعدامه، لكنّ رفيقه الفدائي (عمران) تمكن من إخراجه من السجن وتهريبه إلى الخارج بعد أن رتبت له جواز سفر مع مبلغ من المال حفاظاً على حياته.

ما دفعني للكتابة هو أن هذه الذكريات التاريخية  التي لامست شغاف قلبي قد أنصفت هامة وطنية بحجم الراحل الكبير عبدالقادر العفيفي وجسدت في مضمونها قيم الوفاء بأروع صوره.. ولا شك أن من أسمى وأعظم القيم وأنبلها الوفاء والعرفان والامتنان لذوي الفضل بأفضالهم.. وقد سُئِلَ حكيمٌ عن ألذَّ شيء في دنياه قال:”مكافأة أهل الوفاء والمروءة”، وأعتقد أن المناضل (عمران) قد بلغ هذه اللذة في حياته، وهو ينصف المناضل العفيفي وغيره من رفاق درب النضال.

وكم كنت أتمنى أن يقرأ الراحل الكبير لمسة الوفاء الإنسانية الراقية هذه في حياته، ليأنس بها وتنسيه بعض ما لقيه من نكران وجحود.. ومع ذلك لا نملك إلا أن نقول شكرا للفدائي عمران الذي أماط اللثام  بتلقائيته وصراحته عن هذه المواقف الوطنية لأحد رفاق دربه، ويكفيه فخراً أنه توخى إنصاف صديقه الراحل بقول الحقيقة، بعيداً عن المدح أو النفاق والمجاملة، وأثبت أنه من أهل الوفاء والصفاء، ويصدق فيه قول الشريف الرضي:

فَلئِنْ وَفَيْتَ فَمَا الوَفَاءُ بِبِدْعَة ٍ

إنّ الوَفَاءَ لذي الصّفَاءِ شِعَارُ

وما ينبغي قوله أيضا أن المناضل الشيخ عبدالقادر العفيفي ورغم ما عاناه من جفاء وتنكُّر وسجن، لم يحمل لأحد غلاًّ أو حقداً، وتناسى كل ما جرى له، وظل حتى آخر أيامه وفياً لوطنه وخدوماً لأهله، وقدَّم من موقعه في إمارات الخير خدمات جليلة، بما في ذلك لكثير من الرموز والقيادات الجنوبية التي التقاها واحتضنها في الإمارات بعد حرب اجتياح الجنوب عام 1994م، وظل بيته وقلبه مفتوحاً للجميع، وتلك من شيم الكرام التي جُبل عليها الفقيد رحمه الله وطيب ثراه، ولهذا لا غرابة أن كانت جنازة المغفور له الشيخ العفيفي الأكبر والأكثر مشاركة في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ ثلاثة عقود مضت حسب وصف الأخ علي سنان القاضي المقيم بأبوظبي لـصحيفة «الأيام».

وللفقيد أخوان غير شقيقين يقيمان في أبوظبي وهما محمد غالب العفيفي ود. المقدم المندعي غالب العفيفي، وهما أكثر من أكثر الناس ارتباطاً بقضايا الجنوب ومن المنافحين عن حق شعبنا في استعادة حريته واستقلاله.

وختاما ..كم نحن بحاجة لغرس قيم الوفاء وتعميقها في نفوس شبابنا إزاء الأبطال وأصحاب الفضل ممن خدموا وطنهم وما زالوا مغيّبين من صفحات تاريخنا وتكريمهم تكريماً يليق بهم وتدوين سيرتهم ومآثرهم.. حتى لا تذبل قيمتا الوفاء والعرفان..