fbpx
ألمانيا: حتَّى لا يُعيد التَّاريخ المُرُّ مهازله!

تحرص عدد من القنوات الألمانيّة، ومنذ مدّة، على عرض أفلام وثائقيّة تتناول الحقبة النَّازيّة التي عصفت بألمانيا خلال النّصف الأوَّل من القرن العشرين فذرتها كالرَّميم، محوّلةً كلّ مكتسبات تاريخها الممتدّ من المعرفة والمنجزات الحضاريَّة والأخلاقيّة إلى رمادٍ محضٍ في غضون 6 سنواتٍ فقط، علاوة على ما جلبته معها من ويلاتٍ وكوارثٍ مهولةٍ إلى شعوبٍ وجماعات كثيرةٍ في أوروبا وعلى امتداد العالم.

الدَّافع الرسالي من وراء هذا الحرص على إعادة النَّبش في دهاليز وأقبية هذه الحقبة الحالكة السَّواد من التَّاريخ الألمانيّ واضحةً مقاصده، في ظلّ تصاعد صوت اليمين المتطرّف في الفترة الماضية واستغلاله للظُّروف المحليّة والدُّوليّة الهوجاء والخطيرة وما ينتج عنها من ضبابيّة وتشوش في الرُّؤية مؤرقتين، وفوبيا عابرة للقارَّات وكاسحة للقناعات، في محاولة نزقة منه لتحريض وتأليب الرَّأي العام ضدَّ سياسة الانفتاح الَّتي تنتهجها الحكومة الألمانيّة، وهي نفس منهجيّة الاستغلال الَّتي اتّبعها الحزب النَّازي في الماضي بغية الوصول إلى السُّلطة مستفيدًا من ظروفٍ مشابهةٍ وحطامٍ نفسيٍّ وروحيٍّ وماديٍّ هائلٍ بفعل ما خلفته الحرب العالميّة الأولى من ثقوبٍ سوداءٍ كثيرةٍ، فعبّد كل ذلك السقوط والتَّردي وقتذاك الطريق أمام اليمين الفاشي وجعلها سالكة للوثوب إلى منصة السُّلطة والإمساك بدفتها، وبيدٍ من حديد، فأوردهم وآخرين شتَّى أنواع المهالك والدَّمار.

في الآونة الأخيرة عاود خطاب التَّطرف لجماعات يمينيّة إلى الظُّهور، وبوتيرةٍ متصاعدةٍ، على وقع أزماتٍ ومشاكلٍ عدّةٍ، إلى درجة دفع بأشهر الصُّحف الألمانيّة “دير شبيغل” وفي إطار جدلٍ محليٍّ ساخنٍ حول قضايا اللاَّجئين والاندماج والإرهاب إلى أن تصرخ بالقول: «قيم الجمهوريّة الألمانيَّة القائمة على الحريَّة والمساواة والأخوة أصبحت مهدَّدة، ليس بسبب الأجانب، بل بسبب الألمان أنفسهم».

خلال أكثر من نصف قرن لم يكف الألمان، وفي الأوساط النُّخبويّة بالذَّات، عن تجريم وتشنيع هذه الحقبة، ومزاولة عمليّة مضنية وشاقَّة ودؤوبة من النَّقد لكشف جميع القنوات والمسالك الَّتي أدَّت بسهولة إلى المحشر النَّازيّ الأليم. ومن خلال هذا النَّقد الصَّريح والجذريّ، يرى الألمان، كما يرى نظراؤهم من اليابانيين الَّذين مروا بتجربة تاريخيّة مشابهة إلى حدٍّ بعيدٍ، بأنَّ الخطأ القاتل كان أوَّلاً وأخيرًا خطأ ذاتيًّا، أو كما عبّر عنه اليابانيُّ نوبواكي نونوهارا بكتابه “العرب… وجهة نظر يابانيّة” في معرض ردّه على سؤال “لماذا لا يكره اليابانيون أمريكا والدُّول الَّتي اعتدت عليهم…؟”؛ السُّؤال الَّذي يطرحه عليه باستمرار أصدقائه من العرب، فكان تعليله لوهن عود مثل هذا النَّوع من الكراهيَّة الارتداديّة في الأوساط اليابانيّة يتلخَّص في كون المشكلة تكمن في أنَّ اليابانيين أدركوا أدوارهم وأخطاءهم وأوهامهم وما اقترفوه من كوارث داخليّة وخارجيّة، وبصورةٍ صحيحةٍ، ثمَّ انخرطوا في ممارسة نقدٍ ذاتيٍّ لأنفسهم بشفافيٍّة عاليةٍ وبلا مجاملة، ممَّا مكّنهم في نهاية المطاف من تَلمّس معالم طريقٍ قويمٍ ساعدهم على تصحيح الانحراف، ومنحهم الفرصة بعدم تكراره في المستقبل.

بالمنهجيّة ذاتها اشتغل الألمان على أنفسهم في محاولة جادة ومسؤولة لقطع السُّبل أمام تكرار حدوث الانحراف الكبير مرَّةً ثانيةً، والتَّاريخ عندما يُعيد نفسه ويُكرّر وقائعه الأليمة، فإنَّ الإعادة لا تعني إلاَّ أنَّ التَّاريخ يفرض طامّةً من المهازل وكما أشار الألماني ماركس منذ زمنٍ. من هُنا كانت الحاجة الدَّائمة تستدعي وبإلحاح شديدٍ إعادة النَّظر في جميع جوانب وأبعاد الحقبة النَّازيّة والتَّفحُّص في أدقّ تفاصيلها ومكنوناتها جزعًا من تسرب أيًّا من غازاتها السَّامة إلى رئة الحاضر والمستقبل. ولعلَّ أكبر وأهمَّ الأنشطة النَّقديّة في هذا الصَّدد تمثّل في “حركة الإصلاح الألمانيَّة” الَّتي قامت في خمسينيات القرن الماضي وقادها كبار فلاسفة وعلماء ألمانيا وكان من بين مهامها تحرير الذَّات الألمانيّة من بقايا أيّ أثرٍ فاحشٍ للإيديولوجيا النَّازيّة، بوصفها مشكلة ألمانيّة خالصة ارتبطت بالوهم القائل بنقاوة العرق الآري وسيادته، وكذلك كيفيّة التَّحرُّر من قبضة المؤسّسات الَّتي تمسخ الرُّوح والجوهر الإنسانيّ، بوصفها مشكلة تاريخيّة ماثلة في كلّ تجارب الأمم.

يقول الألمان بأنَّ بلدهم كانت صاحبة السَّطوة في العلم والمعرفة والفلسفة قبل الحرب، أمَّا على الصَّعيد الأخلاقيّ فقد كانت أفضل حالاً من الدُّول العظمى المنافسة، وفوق ذلك لم تتورّط في اقتراف مآسٍ بحقّ شعوبٍ أخرى كما فعل الآخرون. لقد دمّرت الحقبة النَّازية كلَّ شيءٍ بفعل نظامها الفاشي وحروبها العبثيَّة الَّتي دفعت البلاد إليها؛ انحسرت الإسهامات المعرفيَّة كثيرًا، وهوت سمعتها الأخلاقيّة إلى الحضيض. صحيح أنَّها اليوم قد قطعت شوطًا كبيرًا في سبيل استعادت ريادتها علميّا ومعرفيّا واقتصاديًّا، وباتت تحتل المرتبة الثَّالثة أو الرَّابعة بين أكثر الدُّول إنتاجًا للمعرفة والتكنولوجيا وتتمتَّع باقتصادٍ متينٍ ونظام سياسيّ واجتماعيّ أكثر استقرارًا (ومثلها وأزيد فعلت اليابان). وعلى الصَّعيد الأخلاقيّ ارتادت أفاقًا رحبة في سبيل التَّأسيس لنماذج ومعايير أخلاقيّةٍ جديدةٍ، فالدولة التي قتلت كل من لم يمت بصلة إلى العرق الآري قبل نصف قرن من الزَّمان فقط، استضافت خلال الأشهر المنصرمة أكثر من مليون لاجئ ينتمون، بحكم التَّاريخ والواقع وعواملٍ أخرى، إلى الطّرف القصي ممَّا يُسمى بـ“الثَّقافة المغايرة”، في موقفٍ إنسانيّ نبيلٍ ولن يُنسى خصوصًا وأنع ترافق مع ظروفٍ بالغةٍ التَّعقيد والارتباك.

لكن وعلى الرَّغم من كلّ ما قد تحقَّق، فإنَّ غالبيَّة الألمان ـ كغيرهم ـ يحملقون باستمرار نحو الجزء الفارغ من كوبهم. لا يشعرون بالرّضا عن مستوى إنجازهم العلميّ والمعرفيّ ـ المتأخّر ـ مقارنة بنظرائهم المنافسين، أو حتَّى مقارنة بمستوى ريادتهم الطَّاغية قبل الحقبة النَّازيَّة الكارثيَّة. الشُّعور بالقلق من صعود اليمين الَّذي يُشكّل الحلقة الأضعف والأخطر في المجتمع لتضاده مع روح الأخلاقيات الجديدة لألمانيا الحديثة ممَّا قد يُهدّد بحصول مشاكلٍ كبُرى في المستقبل. مستوى الإنتاج العالي من السّلاح الَّذي يُساهم في تقويض السَّلام والاستقرار ببقاعٍ كثيرةٍ حول العالم وإن كان استخدامه (الأخلاقي) يتمُّ بإيادي الآخرين وليس بأيادي ألمانيّة، الإنتاج التّكنولوجي وكيفيّة تحجيم أضراره المدمّرة للبيئة.. إلخ.

على نحوٍ خاص، تبقى التّجربتان الألمانيّة واليابانيّة فريدتين من نوعهما، ومثيرتين للاهتمام على الدَّوام، وعلى مستوى أصعدةٍ كثيرةٍ. فمن خلالهما يمكن للمرء أن يقيس المسافة بسهولة بين قعر الهاويّة والانحطاط وبين أرقى النَّماذج وفق معايير عدّة.
(الأوان)