fbpx
الثقافة الجنوبية عنصر قوة ومصدر فخر

بقلم / د. مروان هائل عبدالمولى
تنمية الثقافة بكل فروعها قبل الوحدة كانت من الأولويات القصوى في سياسة الدولة الجنوبية ، التي ورثت بعد الاستقلال عن بريطانيا بنية تحتية واسعة من ألأنشطة الثقافية المتنوعة كالفنون والأدب والشعر والمسرح والإعلام والصحافة وكانت النخبة الثقافية الجنوبية آنذاك ذات طابع وطني وشهرة محلية وإقليمية ودولية , والسبب في ذلك أن البعض من تلك النخبة كان يحمل التنوع الثقافي المزدوج المحلي والدولي ومن أرقى الثقافات العالمية المنسجمة مع الحالة الاجتماعية والفكرية الداخلية للبلاد , ليشكل بذلك سيمفونية جميلة تتناغم فيها كل الألحان كل حسب طبيعته وخصوصيته منصهرة في بوتقة واحدة .
التنوع الثقافي الجنوبي قبل الوحدة كان عنصر قوة وثراء ومصدر اعتزاز وفخر ، كونه يرتكز على تهذيب النفس وتكوين الإنسان وتربيته على الالتزام بالقيم والمثل العليا ، التي يمكن أن ينبثق منها الإبداع بجميع أنواعه و أصنافه في بيئة حضارية تسمح للجميع بتعاطي أنشطة الثقافة والفنون بحرية, وهي المهمة التي أنجزتها النخبة الثقافية الجنوبية قبل الوحدة رغم الإمكانيات البسيطة, وذلك عن طريق العمل على تحويل طاقات الشباب في العاصمة عدن وفي بقية المحافظات إلى مشاريع معاهد ومسارح وفرق غنائية ورقص شعبي من اجل تطوير الثقافة و الاستفادة من الشباب في التكوين والإبداع وعرض هذه الإبداعات محلياً و في المهرجانات الدولية التي كانت الثقافة الجنوبية بكل كنوزها حاضرة بقوة وإبداع لتشكل بذلك مفهوم الإنسانية , الذي تجاوز المكان والزمان والعرق والدين , بمجهود كبير من قبل الأساتذة الجنوبيين الكبار , أساتذة العلوم الإنسانية و التذوق المتميز في الشعر والفنون والأدب والمسرح والصحافة والإعلام أمثال محمد سعيد جرادة , عبدالله عبدالرزاق باذيب, ادريس حنبله, لطفي جعفر امان , المرشدي , القمندان , احمد بن احمدقاسم , محمد علي باشراحيل رحمة الله عليهم , و أمثال عميد المسرح فيصل بحصو, د/ احمد علي الهمداني, الأستاذ نجيب محمد يابلي أطال الله في أعمارهم وأعطاهم الصحة وغيرهم كثير للأسف ممن لا يسعفنا ذكرهم.
اليوم الثقافة الجنوبية تواجه حالة من الضمور و الإهمال , وهذا الوضع لم يكن وليد الصدفة أو النسيان , وإنما كان عبارة عن سياسة تدميرية ممنهجه , منسقه و منظمه كانت تدار من مطابخ القبيلة في صنعاء وفي إعتقادي أن أهم ألأسباب ,التي أدت إلى وصول الثقافة الجنوبية إلى حالة الضمور هي كالتالي :
– اختطاف قطاع الثقافة بعد الوحدة من طرف مجموعة قبلية في صنعاء , من الذين لا يعرفون معنى الثقافة , ولكن يتمتعون بالهيمنة والتأثير على اتخاذ القرارات الهامة وتوجيه سياسة القطاع تبعا لما يخدم مصالحهم الخاصة والعامة , هذا الاختطاف أدى إلى اختفاء كثير من السلوكيات والقيم والتقاليد الاجتماعية الجنوبية الجميلة.
– معاملة الثقافة الجنوبية والشمالية بعد الوحدة على أساس أنها ثقافة واحده غير قابل للفصل الأمر , الذي كان يعد ضربا من المغالطات والكذب , لأن مفاهيم الثقافة بين الاثنتين كانت متباعدة والفوارق لا تعد ولا تحصى وتختلف من حيث المرجعيات والموروثات و الحضارات .
– تسليم بعض المثقفين الجنوبيين بثقافة الأمر الواقع القائم على الفساد والرشوة والمحسوبية والتصنع والمجاملات الأمر , الذي اضر بسمعة عمالقة الثقافة الجنوبية وبمنجزاتهم وبدلالاتها الثقافية والحضارية وعرقل نقل خبراتهم .
-إجبار الجنوبيين و خاصة بعد حرب 1994 على قبول الأفكار والثقافة ذات البعد القبلي الشمالي الاقصائي العنصري و التضييق على ممارسة ألأنشطة الثقافية الجنوبية ، التي لم يبقى لأغلبها سوى الشارع
– ضآلة الدعم المخصص للمهرجانات التي تنظمها الجمعيات الجنوبية مع غياب إسناد جوائز لتحفيز وتشجيع الإبداع في مختلف فروع الثقافة والفنون .
أن المعنى القديم للثقافة هو التهذيب , الذي يعد مكون من مكونات الجمال ليتطور بعد ذلك هذا المعنى ويصبح مرادف لكلمة الحضارة , وللأسف الجيل الجنوبي الجديد لا يدرك ولا يعرف أن حضارة الجنوب ملئيه بالإبداعات والجمال , وأن بعد الوحدة تم تهميشها وإقصائها من التاريخ والحاضر عبر ممارسات سلطوية قبلية في شكل نظام سياسي تحكم فيه أكثر الشرائح تخلفاً ورجعية , الكذب والنفاق والقتل والفساد والنميمة والانتهازية سلوكاً اعتيادياً لديها , ومن خلال هذه السلوكيات المريضة استطاعت هذه السلطة المتخلفة أن تحرم الجنوبيين من فرص تحقيق الذات وإظهار مواهبهم الثقافية , وقامت بتصدير ألأفكار المذهبية لهم , التي أدت إلى بروز التطرف والعنف وفقدان الثقة وطغيان سوء الفهم في مجتمعهم, ولكن من حاول إفشال الجنوبيين عن إنتاج حياة كريمة و قتل ثقافتهم تناسى أن الجنوبيين لديهم ثقافة متجذرة في الماضي تتنفس وتسير مع الحاضر نحو المستقبل , وان عاصمة الجنوب عدن كانت ولا تزال وستبقى قبلة المثقفين, التي زارها العديد من الكتاب والشعراء منهم , السوري أدونيس , الشاعر العراقي شوقي عبدالأمير , الفنان العراقي جعفر حسن , الشاعر الفرنسي آرثر رامبو , ومن عدن مرَ غاندي وديجول وفريد الأطرش لورانس وتوماس ادوارد وهنري دو مونفريد وفيها أمضت الملكة اليزابيت شهر عسلها , ومن عدن كانت بداية أول صحيفة باللغة العربية و الانجليزية , أول مسرح , أول محطة إذاعية و تــلـفـزيـونـيـه , أول دار عرض سينمائي , أول شــركة إنتاج للاسطوانات ,أول مكتبة , أول مطار على ارض الجزيرة العربية .
لقد تناسى من خنق الثقافة الجنوبية وشل حركة تطورها بعد الوحدة و اعتمد الرشوة والمحسوبية والمناطقية كمعيار لإسناد الدعم المالي للتظاهرات الثقافية , بأن الجنوبيين لديهم ثقافة مدنية رفيعة وراقية تحمل قيم جمالية مميزة ذات كثافة وجدانية وروحانية لا تموت تجلت أروع صورها في محاولة تجاوز تلك الصعوبات والحصار , الذي فرضته السلطات القبلية في مجهود بعض الشباب الفردية سلاحهم الريشة والقلم والكاميرا والمسرح , أمثال عمرو جمال , الذي عرض أزمة خنق الثقافة الجنوبية على المسرح البسيط والراقي محلياً ودولياً , وكذلك لعبت المنتديات الجنوبية الدور الكبير في الحفاظ على تماسك الثقافة , منها منتدى الطيب الذي يقوده الأستاذ الكبير الطيب احمد علي هذا المنتدى , الذي يضم نخبة رائعة من رموز الفكر والصحافة والمسرح والفن والإعلام المرئي والمسموع ومجموعة كبيرة من الشخصيات الاجتماعية والسياسية والرياضية , جميعهم يعملون حول أهمية إحساس المواطن بدور الثقافة , وفي نشر مفاهيم التسامح واحترام الآخر و الاعتراف بحقوقه في بيئة سليمة وحضارية .