fbpx
الشيخ علي عبدالله العيسائي صديق الكِتَاب وراعي العلم والإبداع

 

د.علي صالح الخلاقي:
من منا لم يسمع باسم رجل الأعمال الفاضل والمحب للخير، الشيخ علي عبدالله العيسائي، أو “العم علي” كما يُحب أن يخاطبه كل من عرفه أو عمل معه لبساطته وتواضعه الجم، وهي شيمة جُبل عليها بالفطرة، دون تَصنُّع أو تَكلُّف، ومن تواضع لله رفعه، وقد رفعه الله درجات في الدنيا، وقدَّم في أعمال الخير ما يشفع له بدرجات عند الله في الآخرة، وهو لا يتباهى أو يتظاهر بما يقدم من أعمال الخير، أو في دعم المحتاجين، فمثله لا تعرف شماله ما قدمت يمينه.
هذا الرجل العصامي برز اسمه وشاع، وملأ الأسماع، كواحد من نجوم عدن المضيئة في عالم المال والأعمال، منذ أن بدأ بها أولى خطوات نجاحه قبل ما ينيف عن سبعين عاماً، وتحديداً في الأربعينيات من القرن الماضي، حين كانت عدن محطّ الآمال، وإليها يشد الرِّحَال، كل طامح في دنيا العلم أو المال والأعمال، في عصر ازدهارها كواحد من أهم الموانئ العالمية.
ثم كانت مدينة (جدة)محطة النجاح الثانية في مسيرته حينما جذبته قبل ستة عقود, وتحديداً مطلع الخمسينات من القرن الماضي، مع رفيق دربه المرحوم الشيخ عمر قاسم العيسائي، واستوطناها وشهدت انطلاقتهما الكبرى وأصبحا ممن يشار إليهما بالبنان في عالم المال والأعمال، ومن كبار رجال الأعمال في السعودية، وساهمت شركاتهما ومصانعهما في التنمية الاقتصادية في بلاد الحرمين، ومنها امتدت لتنتشر وتتوزع في أنحاء متفرقة من العالم… فيما تعرضت مصانعهما وشركاتهما في عدن للتأميم في ظل الطفرة الثورية والتطرف اليساري، وانقطعا عنها قسرياً بعد مصادرة وتأميم ممتلكاتهما..
بيد أن (العم علي) قد عاد إلى عدن في زيارات متعددة محملاً بالآمال بعد (الوحدة) المغدور بها لاحقاً، لتجديد حبه وذكرياته وبعث نشاطه فيها والمساهمة في انعاش اقتصادها المتعثر، خاصة بعد أن استعاد مصنعه الشهير في كالتكس (مصنع كندا دراي)، فبادر بإنشاء مصنعا حديثاً للإسمنت في أبين على نفقته كاملة وبدون قبول شراكة رموز الفيد والفساد، كما بنى المسجد الجامع في البريقة ودعم بناء مدارس وغير ذلك من أعمال الخير في مناطق أخرى.. وكان يمكن للعم علي وأمثاله من رجال المال والأعمال والخير الاسهام والدَّفع أكثر بنهضة وتطوير اقتصاد عدن والبلاد، لولا أن رياح الأحداث المؤلمة والدامية جرت بما لا تشتهي سفن آماله وأحلامه..
لا شك أن الحديث يطول ويتشعب عن سيرة كفاح (العم علي)، ونجاحاته التي لا تحصى، ولهذا سأقتصر الحديث عن جانب هام من جوانب اهتماماته التي يجب الاقتداء بها، خاصة في الاهتمام بالتعليم وفي دعم تدوين وتوثيق التاريخ والتراث، لما لذلك من صلة بتكريمه لي قبل عامين مضت.
وأعترف إنني ، قبل تعرفي عليه، كنت أظنه مشغولاً بإدارة ومتابعة أملاكه التي لا تحصى من شركات ومؤسسات ومصانع موزعة في عشرات من البلدان العربية والأجنبية، وأنه منشغلا بذلك العبء الثقيل، ولا يجد وقتاً يخصصه لممارسة أي هواية أخرى، كالقراءة، ولا حتى مخالطة الناس، أو مقابلة الأصدقاء وغير ذلك..
ما دفعني لهذا الظنهو ما انطبع بذاكرتي عن بعض من أعرف من المنهمكين كل الوقت بجمع المال والانشغال بالأعمال، ممن لا يستسيغون القراءة ولهم قطيعة مطلقة مع الكتاب ، بل وبينهم وبينه عداوة بينّة، حتى أنهم لا يستأنسون لمن يقرأ كتاباً أو يتصفح جريدة في جلسات القات ونحوها، رغم أنهم لم يبلغوا بعد شأواً عظيماً في مجالات عملهم. لكن بعض الظن أثم، فقد كان ظني في غير محله بالنسبة لشخصية (العم علي)، الذي كان خيط تعرفي عليه هو (الكتاب) قبل بضع سنوات حين استضافني في قصره المنيف بـ”تشاريفه” الطاعنة في السماء الذي شيده في قمة (جبل أَحرَم) المقابل لقمة (الحُقُب)، هذا الموقع الاستثنائي جغرافيا والمثير للذهول بصرياً وبيئياً، بما يحيط به من ارتفاعات الجبال المجاورة ومساقط الوديان العميقة والمطل على هضبة يافع العليا الممتدة من المفلحي إلى لبعوس، كدليل على ارتباطه الحميم بمسقط رأسه، حيث قدمني إليه صديقي الودود الرائع أبو طه العيسائي، المغرم بالشعر والأدب والتراث، وحامل هم يافع والجنوب، رغم جنسيته السعودية، مثله مثل العم علي، وكان قد أهدى من جانبه بعض إصداراتي للعم علي من قبل، وجئته أيضا بنسخ منها إلى ذلك اللقاء، ورأيت بالغ سروره وهو يتصفح تلك الإصدارات المتعددة، وكأنه يتنفس التاريخ ويتنسّم روح التراث.. يحتضنها بود وحب ويتصفحها باهتمام وفرح كبيرين، وقد وجدته شغوفاً بالقراءة، ملماً بجوانب التاريخ الخاص بيافع والجنوب، بل وأخذ يناقشني في مضمون ما كان قد قرأه من قبل أو خلال تلك الجلسات التي جمعتني به، ولم استغرب منه ذلك، خاصة حينما اسعفتني الذاكرة وعادت بي إلى ما قرأته عن اهتماماته ورعايته لتدوين التاريخ ودعمه للتأليف والنشر وتشجعيه للتعليم منذ شبابه.
كيف لا وقد كان قبل أكثر من ستين عاماً، وهو في ما يزال في عز شبابه وبداية نجاحه وصعود نجمه، أول من اهتم بدعم كتابة تاريخ يافع، وسيظل يذكر التاريخ بأحرف من نور أنه صاحب السبق في دعم أول كتاب صدر عن يافع، وهو ما ينم عن اهتمامه المبكر في توثيق ونشر كنوز تراثنا وتاريخنا. فقد تحمل على عاتقة تكاليف رحلة المؤرخ صلاح البكري من مصر إلى عدن ومنها إلى يافع في زيارة تاريخية، مطلع الخمسينات من القرن الماضي، ما زال الناس من كبار السن يتذكرونها، وقد دون المؤرخ البكري انطباعات زيارته مع شذرات من تاريخ يافع في كتابه الموسوم (في شرق اليمن – يافع) وصدَّر مقدمته معترفاً بدعم وكرم وسخاء(العم علي)، قائلا:” إلى الفاضل العصامي الكريم السيد علي عبدالله العيسائي الذي قام بأعظم قسط في إعداد الرحلة وفي طبع هذا الكتاب”. كما يذكُر صلاح البكري، في متن كتابه أيضا، أنه عند وصوله ومرافقيه إلى البيضاء في طريقهم إلى يافع قد ذهبوا إلى منزل الشيخ سالم حسين الرماح وقدموا له خطاب توصية من السيد علي عبدالله العيسائي وقد أكرمهم كثيراً وأصدر أمره بإعفائهم من الرسوم الجمركية بفضل تلك التوصية، كما يذكر المؤلف أنه خلال إقامته في عدن قد ظل نزيلا في دار آل العيسائي الذين احتفوا به أكثر مما يحتفي الأخ بأخيه، كما سجل ذلك في كتابه.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، يحضرني هنا أيضاً ما قاله الكاتب الأديب فضل النقيب نقلا عن مدير المدرسة الأستاذ قاسم المصباحي حول زيارة العم علي لطُلاب مدرسة «قعطبة» التي احتضنت المئات من ابناء يافع خاصة ثم أبناء المناطق المجاورة الأخرى مثل الضالع والشعيب وحالمين والأزارق وبقية المناطق الشمالية المجاورة، وكان عددهم حينها حوالي أربعمئة طالب، فطلب من المدير تسجيل طلبات المدرسة، فاحتار لعظم الطلبات فقال له الشيخ علي: اكتب أربعمئة بدلة، ألف دفتر، ألفا قلم .. الخ .. وما كان لأحد في ذلك الزمن أن يكرم بمثل هذا الكرم، وفوق ذلك خصّ المدير بكسوة نفيسة تبختر بها في زواجه كأنه سلطان زمانه.
كما كان للشيخ اهتمام بالأدب، ويذكر فضل النقيب أنه أنقده مائة جنيه في مصر وهي ثروة في الستينات من القرن الماضي عندما اندلق فنجان شاي على الطاولة التي كان يضيفهم إليها في بيت الشيخ عمر على النيل فقال له «وللأرض من كأس الكرام نصيب» فأعجبه ذلك أيما إعجاب واستنشده بقية القصيدة.
ومن خلال تجربتي الشخصية مع هذا الشيخ الفاضل يتوجب الاعتراف بفضله في دعم العديد من إصداراتي هو ورفيق دربه الراحل الشيخ عمر قاسم العيسائي، طيب الله ثراه، الذي لم أتشرف بالتعرف عليه، وكان قناة التواصل معه صديقي المثقف الأستاذ محمد بن محمد الرشيدي الذي أجده باستمرار مشجعاً وداعماً للشأن الثقافي والتعليمي، ولولا دعمهما، ودعم الشيخ عبدالمجيد السعدي أيضاً، لما رأت العديد من إصداراتي النور، ولما حَظِيتُ بذلك التكريم الرائع الذي جرى في مثل هذه الأيام قبل عامين في بلاد الحرمين بمنحي النسخة الأولى من جائزة (أحمد عبدالحكيم السعدي) رحمه الله، للتفوق نظير ما قدمته من أعمال في التأليف والتدوين والترجمة.. 12607110_1098475100183223_1854968921_n
وخلال رحلة التكريم تلك استضافني (العم علي) في قصره العامر في (جدة) مرتين، واحتفى بي وسط الحضور أيَّما احتفاء، وأقعدني على يمينه وقرّبني إليه، وحثني على مواصلة الجهود في استخراج كنوز تراثنا وتاريخنا المجهول والمنسي، وما زال في عُنقي دَيْنٌ لهذا الرجل، للوفاء بما أوصاني به في ذلك اللقاء الخاص بحضور نجله الكريم(أبى بدر)، وأدعو الله أن يوفقني بإنجازه على خير ما يكون، وأن ينعم عليه بالصحة وطول العمر لأهديه كتابي الذي أوصاني به وأتمنى من كل قلبي أن يكون أول من يقرأه.
وفضلا عن تلك الحفاوة البالغة فاجأني (العم علي) بتكريم كبير لم أكن أتوقعه، حيث منحني هدية ثمينة، هي سيارة صالون جديدة موديل ذلك العام 2014، مع كافة جماركها وموصلة إلى عدن، كل ذلك تقديراً وتكريما منه للعلم والبحث والتأليف، ممثلة بجهودي العلمية والبحثية المتواضعة ، التي لقيت إعجابه ونالت رضاه واستحسانه، و كانت سبب التعرف عليه عن قُرب والجلوس معه أكثر من مرة ومرافقته في مواقف إنسانية مؤثرّه ومعبرة، تنّم عن تواضعه ونُبل أخلاقه وإحسانه ووفائه لأصدقائه القدماء، وسيكون لي حديث عنها لاحقا، لما فيها من عظيم العبر.
ختاماً..يلزمني الوفاء والعرفان بالجميل، أن اشكر لـ(لعم علي) هذا الصنيع الجميل، الذي لن أنساه له ولأولاده الكرام ما حييت، و أتوجه كما أكرر دائماً لكل شبابنا بالقول: إن الطريق إلى النجاح والتكريم والتقدير ثمنه البذل والعطاء والاجتهاد والعمل في مجالات تخصصهم، ولن يضيع جهدهم، وسيلقون من يأخذ بيدهم ويدعمهم، فلكلِّ مجتهدٍ نصيب.. كما هو حال العبد لله الذي عمل بتفانٍ لإنجاز وتقديم ما ينيف عن ثلاثين مؤلفا بين التأليف والتدوين والترجمة، دون أن يفكر يوماً بالحصول على أية جائزة أو تكريم في وطنه وبين أهله، فحصل على الأثنين، في بلاد الحرمين الشريفين، من رجلين نبيلين، كَريمَي الطَّرَفَيْن.. جعلهما الله قدوة حسنة لأمثالهما من رجال المال والأعمال والخير.
عدن
23 يناير2016م