fbpx
التصالح والتسامح . . المعاني والأبعاد*

د عيدروس نصر ناصر**
لن أتناول في مداخلتي هذه الذكرى العاشرة لأول لقاء للتصالح والتسامح في جنوب اليمن، ولن أتعرض لما تلته من تحولات وما أحدثه هذا الحدث من تداعيات (إيجابية بالتأكيد) في مسار القضية الجنوبية لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، لكنني سأكتفي بالتعرض بإيجاز للأبعاد الفلسفية والمعاني القيمية لنهج التصالح والتسامح، وكيف يمكن أن نحول هذا النهج إلى ثقافة وسلوك يوميين وقيمة أخلاقية راسخة للأجيال القادمة.
ليس الجنوبيون هم أول من ابتدع نهج التصالح لطي ملفات الماضي والانتقال من ثقافة الضغينة والكراهية والرغبة في الانتقام إلى ثقافة التعايش ودفن نتائج الصراعات والانتقال إلى مستقبل قائم على التعاون والتسامح والمصالح المشتركة التي تعبر عن الجميع فقد سبقتنا الكثير من البلدان في هذه التجربة، وجاءت تجارب هذه البلدان بعد صراعات ونزاعات مسلحة ومظالم ومعانيات مريرة ربما كان السياسيون مجرد صانعين لها لكن الشعوب كانت دائما هي من دفع ثمن المرارات التي نجمت عن تلك الصراعات والنزاعات والمظالم.
في المملكة المغربية مثلا تم اتخاذ إجراءات ما سمي بالعدالة الانتقالية وجاءت الإجراءات على يد الملك محمد الخامس بن الحسن الثاني، وقد عالجت تلك الإجراءات مظالم ومآسي جرت في عهد الملك الأب، وبغض النظر عن رضى الجميع عنها أو اعتراض البعض فإن إجراءات العدالة الانتقالية قد لاقت ترحيبا كبيرا من قبل معظم القوى السياسية المغربية وقد تزامن مع تطبيق هذه الإجراءات سلسلة من الإصلاحات السياسية أدت إلى انتقال السلطة من الأحزاب التي عرفت بولائها للملك أو التي ظلت تهادنه إلى حزب العدالة والتنمية الذي كان هناك ما يشبه المنع غير المعلن من وصوله إلى السلطة.
وهناك تجارب مشابهة تمت في رواندا في وسط أفريقيا وهي البلد التي فقد فيها حوالي نصف مليون مواطن حياتهم في تصفيات عرقية جرت بالمصادفة مع حرب اليمن في العام 1994م وكذا في كينيا كما في تشيلي وفي نيكاراجوا في أمريكا اللاتينية.
إن الجذور الفلسفية والفكرية للتصالح والتسامح في الجنوب تتمثل في الآتي:
1. وضع الماضي بكل مراراته وراء ظهور الجميع والالتفات إلى المستقبل، فأخطاء الماضي وخطاياه لا يمكن أن تظل مرافقة للأجيال كل الزمن وإلا بقينا في الماضي وتوقفنا عن السير نحو المستقبل.
2. لقد اكتشف الجنوبيون أن كل الحروب التي عاشوها لم يكن فيها منتصرا واحدا بل لقد كان الجميع مهزومين ولم ينتصر إلا الغزاة المغتصبون والمحتلون للأرض والثروة ووعي الإنسان فلم يكن ما جرى في 1994م بمعزل عن أخطاء الماضي وإخفاقاته التي بددت الطاقات وصرفت الجهود عن التنمية والبناء وتحقيق الازدهار إلى التركيز على الصراعات السياسية المفتقرة لأي معنى.
3. إن وعي التصالح والتسامح لم يأت إلا بعد أن ذاق الجنوبيون الأمرين جراء فقدانهم دولتهم وهويتهم وأرضهم ومستقبلهم بعد أن صار الغزاة المحتلون هم المتحكمون في كل هذا وصار المواطن الجنوبي ومستقبله ومصير أبنائه وأحفاده رهنا بالوافد المقيت وركائزه المحلية.
4. إن التصالح والتسامح ليس موجها للماضي فقط، أي إنه ليس مجرد تسامح عن الأخطاء والمظالم التي جرت فيما مضى من الزمن، لكنه انتقال إلى المستقبل ويمكن لفلسفة التصالح والتسامح أن تكون البوابة لبناء مجتمع جديجد يقوم على التعايش وإنتاج المصالح المشتركة، وبمعنى آخر إن أهم مخرجات التصالح والتسامح تتمثل في أن الناس قد وعوا أنه لا يمكن لأي طرف سياسي أو جغرافي أو جهوي أو قبلي أو شريحة اجتماعية، أو حزب سياسي أن يلغي البقية أو ينفرد وحده بقيادة البلد والاستفادة من مواردها، فهذا التجمع أو التحالف أو الجهة ستكون طرفا بغيضا لكل من تبقى من أبناء المجتمع، وبالتالي فلا مجال أمام الجنوبيين إلا أن يتعايشوا ويتكاملوا ويعملوا معا على إنتاج المستقبل المشترك لكل المواطنين، وهذا لن يتم إلا بهجر ثقافة التفرد والأنانية السياسية والاستحواذ والانفراد، سواء بالسلطة أو بالثروة أو بصناعة القرار أو بصناعة المستقبل.
5. وأهم ما يميز التصالح والتسامح في الجنوب هو إنه جاء مصحوبا بثورة شعبية عارمة ربما أتت من الشعب ولم يصنعها السياسيون وهذا في حد ذاته ينطوي على ميزتين الأولى إيجابية، والثانية تتضمن محذورا يجب التنبه له.
الميزة الأولى (الإيجابية) وتتمثل في أن ظاهرة التصالح قد شملت ملايين المواطنين وقد قرأت البارحة مئات المنشورات على شبكة التواصل الاجتماعي يتحدث فيها الكثيرون من ضحايا المظالم في المراحل المختلفة عن عفوهم عمن أساء إليهم، ويعتبرون الماضي درسا للتعلم منه وأخذ العبرة.
أما الميزة الثانية فهي تنطوي على محذور أن يظل شعار التصالح والتسامح مجرد رغبة عفوية، قد تفقد فورتها وجيشانها إذا لم يرافقها عمل توعوي منظم يستوعب المعاني الرفيعة لهذه القيمة وإذا لم تتبناها مؤسسات سياسية وثقافية واجتماعية تسعى إلى تأصيلها فكريا وتحويلها إلى ثقافة وسلوك وقناعات عقيدية عند الغالبية العظمى من الجنوبيين.
لقد أنجزت تجربة التصالح والتسامح في الجنوب منجزات كبيرة وعظيمة لا يمكن الاستهانة بها ولعل أهم إنجازاتها يتمثل في انخراط كل الجنوبيين في معركة الثورة الجنوبية السلمية على مدى عشر سنوات خلت منذ أول لقاء في جمعية ردفان بعدن في 13 يناير 2006م وانطلاق الثورة الجنوبية السلمية في 7/7/2007م ، ثم تجربة المقاومة الجنوبية المسلحة للغزو الثاني التي برهنت على الأرض أن الجنوبيين قد صاروا صفا واحدا في مواجهة التحديات الكبيرة التي تعترض مسيرتهم التحررية نحو بناء الدولة الجنوبية الجديدة، والتخلص من قيود التبعية والإقصاء والتهميش والسلب والنهب.
بيد إن هذا ليس هو الغاية من فلسفة التصالح والتسامح في بلد لا يزال نصف محتل وبلا دولة وفي ظل التفكك السياسي والاختراقات الأمنية والعبث الموجه من ساسة الغزو، وبقاء الجنوب بلا مؤسسات جنوبية متكاملة البنيان وفي ظل التناثر السياسي للقوى الجنوبية المختلفة وغياب الطليعة السياسية المتصدرة لقضية الجنوب.
ولكي تكتسب قيم التصالح والتسامح أبعادها وتعطي النتائج المرتجاة منها لا بد من تحقيق جملة من الأهداف والمتطلبات أهمها:
1. تحويل التصالح والتسامح إلى ثقافة شعبية حقيقية وليس مجرد شعارات ترفع في المناسبات وهو ما يعني أن يكون الإيمان بها قائما على أساس الإدراك الواعي لما ينتظر منها من نتائج إيجابية تخدم مستقبل الجنوب والجنوبيين وتحميهم من الوقوع مرة أخرى في فخ الصراعات والنزاعات المصطنعة والمدمرة.
2. وهذا يتطلب صياغة منهاج فكري وثقافي متكامل يبدأ بالقيام بالفعاليات الفكرية والثقافية والتنويرية بين الناس، ولا ينتهي عند إدخال مفاهيم المصالحة والتعايش والتسامح كجزء من الثقافة التربوية تدرس في إطار المنهج المدرسي كما تدرس مختلف المواد التعليمية.
3. مأسسة عملية التصالح والتسامح وهو ما يعني إنشاء هيئة (أو هيئات) رسمية أو شعبية تنشط بين الناس للترويج لقضية التصالح والتسامح وتتولى رسم السياسات المتصلة بعمليات التسامح وتقديم المشروعات الممنهجة لصانعي القرار السياسي بشأن هذه القضية، بما في ذلك تطبيب آثار الصراعات السياسية ومداواة أضرار المتضررين.
4. ومن هذا المنطلق فإن التصالح والتسامح إذ يعني تبادل العفو بين أطراف الصراعات المختلفة فإنه لا يجب أن ينطوي على بقاء المظالم الذي تعرض له الضحايا أو بقاء آثارها، وهو ما يعني رد الاعتبار للشهداء والمفقودين وتعويض أسرهم وتعويض الجرحى والمتضررين جسديا ومعنويا وأخلاقيا بسبب الصراعات السياسية، وهو ما يسميه رواد فلسفة العدالة الانتقالية بجبر الضرر.
5. بما إن التصالح والتسامح ليسس فقط قيمة أخلاقية بل هو عمل سياسي فإن أهم ما ينتظر من السياسيين أن يقدموا ما يبرهن على اعتناقهم لعقيدة التصالح والتسامح من خلال الالتقاء على القواسم المشتركة في ما بينهم وتأجيل القضايا الخلافية (ناهيك عن إسدال الستار على صراعات الماضي وأخطائه) لمعالجة تلك القضايا المختلف عليها عبر المؤسسات والوسائل الديمقراطية والمدنية.
6. إن شعار التصالح والتسامح سيظل شعارا ناقص المضمون ما لم يصاحبه عقد تفاهمات سياسية بين قادة الماضي، والمقصود بذلك كل القوى والتنظيمات السياسية التي تصارعت في الماضي، وهنا نشير إلى إن الموضوع لا يتعلق بطرفي أحداث 86م بل إن التصالح والتسامح يجب أن يشمل كل تاريخ الجنوب الحديث منذ ما قبل الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر 1967م والانطلاق نحو بنا إطار سياسي يعبر عن تطلعات وآمال ومصالح الجنوبيين وفي مقدمتها قضية الاستقلال واستعادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة، وذلك من خلال إقامة الجبهة الوطنية العريضة كاداة لا بديل عنها للتعبير عن الحق الجنوبي وتوحيد الطاقات الجنوبية.
7. إن مبدأ التصالح والتسامح يتطلب تقديم التنازلات السياسية والكف عن التمترس السياسي وراء الشعارات التي تفرق ولا تجمع، وتضر ولا تنفع، وهذا الموقف مطلوب من جميع الأطراف السياسية في سبيل بلوغ الهدف الأسمى للجميع وهو استعادة الدولة الجنوبية وبناء الجنوب الجديد القائم على التعددية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مداخلة مقدمة إلى ندوة الجالية الجنوبية بمناسة ذكرى التصالح والتسامح الجنوبي (16/01/2016م)
* * رئيس مركز شمسان للدراسات والإعلام.