fbpx
الفوضى الخلاقة لن تنتج “وستافاليا” اسلامية

بقلم عبدالرب السلامي

شهدت أوروبا في القرن السابع عشر حربا دينية عظمى استمرت أكثر من ثلاثين عاما، بين الامبراطورية البابوية والكنيسة البروتستانتية، شملت معظم البلاد الأوروبية، وطحنت شعوبها، ودمرت عمرانها.. وكانت النتيجة عدم الحسم لأي من أطراف الصراع.

طول أمد الحرب واتساع رقعتها دون حسم، أدى إلى توالد أشكال جديدة من الصراع لم تكن موجودة عند اندلاع الحرب أول مرة.. حيث تنامت الهويات القومية المحلية على حساب الهوية الأوروبية المسيحية الأم، ونشأ جيل جديد منكفئ على الذات القومية وكافر بالحرب الدينية.. ومن هنا تهاوت الامبراطورية البابوية وظهرت على أنقاضها دول أوروبا القومية (الوطنية).

حرب الثلاثين عاما الأوروبية أسفرت عن اتفاق “وستافاليا” التاريخي، فبعد ست سنوات من المفاوضات بين الأطراف التي أفرزتها الحرب، تم توقيع اتفاقية ضمنت لكل الكيانات الصغيرة حق السيادة على أراضيها، بغض النظر عن حجمها السكاني والجغرافي.. وبهذا أخذت الدولة الوطنية الأوروبية شرعية الوجود، ومثلت اتفاقية “وستافاليا” أساسا للنظام الدولي الجديد.

فرغم أن أوروبا شهدت صراعات وحروب أخرى متقطعة كثيرة على مدى الثلاثة القرون اللاحقة أشدها ضراوة الحربين العالميتين في القرن العشرين، وشهدت كذلك أشكالا من الوحدة أشهرها الوحدة الألمانية والاتحاد الأوروبي، إلا أن نمط الدولة الوطنية (الوستافالية) ظل قائما وفي تجذر مستمر، وذلك لسبب وحيد هو أن الدولة الوطنية الأوربية نتاج طبيعي خرج من رحم البيئة الأوروبية بولادة طبيعية بعد حمل كاف ومخاض طويل.

بينما في العالم العربي والاسلامي نرى العكس تماما.. حيث أقيمت الدول “الوطنية” ورسمت حدودها بيد المستعمر الأجنبي، وقامت كياناتها على الأرض قبل أن تتشكل هوياتها الذاتية، وبعد أن رسمت الخارطة تم البدء في البحث عن مسميات للدول وهوية لكل دولة في صورة مقلوبة تماما.. ولهذا ليس غريبا أن نرى معظم الدول العربية مرشحة للسقوط بسهولة أمام أي مشروع عابر للحدود!

قرن كامل من الزمان مر على اتفاقية “سايكس بيكو” ولا تزال الهوية الوطنية هشة في كافة الدول العربية، رغم الضخ الإعلامي والتعليمي ورغم قوانين الجنسية والهجرة المشددة!

هذا الحال بات يسبب إزعاجا شديدا للغرب، فالصحوة الاسلامية العارمة وثورات الشعوب العربية المحتملة، قد تكسر الحدود المصطنعة في أي وقت وتسقط كافة الهويات الهشة وتغير خريطة المنطقة.. مما يجعل أمن إسرائيل في خطر مستمر ومصالح الغرب الاستراتيجية مهددة.

إذن ليس أمام الغرب سوى إعادة رسم خريطة المنطقة وفق أسس جديدة تضمن تقسيمات قابلة للبقاء، ومن هنا جاء مشروع “الفوضى الخلاقة” لتصحيح المعادلة وإعادة تقسيم المنطقة على أسس هوياتية صغيرة وصلبة قابلة للاستمرار!.

فمنذ الغزو الأمريكي للعراق بدأت الخيوط تتكشف أن المنطقة العربية مقبلة على مخاض طويل من الحروب، الهدف منها صناعة هويات ضيقة (عرقية أو طائفية أو جهوية) في بقع جغرافية صغيرة تقوم عليها دويلات الشرق الأوسط الجديد الذي ستكون إسرائيل هي الدولة الأقوى فيه.

في خطابه الأخير أمام الكونجرس في 13 يناير الحالي تحدث الرئيس الأمريكي أوباما قائلا: “ان الصراع في الشرق الأوسط سيستغرق جيلا كاملا.. وأنه ذو جذور دينية وعرقية وطائفية”

بات من الواضح أن مشروع “الفوضى الخلاقة” يقوم على استنساخ تجربة حرب الثلاثين عاما الكاثوليكية البروتستانتية، ومحاولة إعادة انتاجها في البيئة الاسلامية، من خلاا الدفع نحو حرب إقليمية بين السنة والشيعة، وحروب طويلة أخرى داخل كل دولة قطرية بهدف انتاج هويات محلية صغيرة ومغلقة بديلة عن هوية الدولة الوطنية الهشة!.

لكن هل بالضرورة أن يؤدي استنساخ تجربة حرب الثلاثين عاما المسيحية إلى إنتاج “وستافاليا” اسلامية؟!

في تقديري أن الواقع مختلف كثيرا، ومشروع الفوضى الخلاقة مشروع انتحاري لا يمكن أن يؤدي الى “وستافاليا” عربية أو اسلامية على الاطلاق.. فالبابوية الأوروبية الشائخة التي تهاوت أمام القوميات المحلية في حرب الثلاثين عاما، لا يمكن مقارنتها بالحالة الإسلامية الفتية التي من المتوقع أن تستفيد من حالة الفوضى في خلق واقع مغاير سيجعل وجود إسرائيل ومصالح الغرب في مهب الريح! و”لله الأمر من قبل من بعد”

عبدالرب السلامي
19 يناير 2016م