fbpx
تأملات في مآلات القضية الجنوبية ما بعد دحر العدوان(2)*

أشرنا في الحلقة السابقة إلى أن نتائج الحرب على الجنوب وهزيمة العدوان قد بينت مفارقات عجيبة أهمها 1) حضور الجاهزية القتالية وغياب الجاهزية السياسية، 2) الانفصال التام بين ما هو سياسي وما عسكري، و3) سوء استثمار نتائج التي صنعتها المعركة لتوظيفها لخدمة القضية الجنوبية.

لقد كان الكثيرون يتوقعون أنه وبمجرد سقوط عدن والمدن المجاورة لها في لحج والضالع وأبين وشبوة سوف تبسط المقاومة الجنوبية نفوذها على تلك المناطق وتبدأ في طرح شروطها وتصورها لصيرورة الأحداث ما بعد التحرير، لكن شيئا من هذا لم يحصل وربما يعود السبب الرئيسي في هذا إلى غياب الحامل السياسي المؤهل لخوض غمار المعركة السياسية بعد الانتصار في المعركة العسكرية.

من المفارقات التي كشفت عنها نتائج الحرب ذلك التزاوج العجيب بين مكونات المقاومة المسلحة التي تنشد الاستقلال واستعادة دولة الجنوب، وبين السلطة الشرعية التي تمثل شكلا ومضمونا جوهر السلطة التي يناضل ضدها الجنوبيون ويسعون إلى استعادة دولتهم منها، . . .هذا بطبيعة الحال ليس دعوة للتمرد أو الصراع مع سلطة الرئيس عبدربه منصور وحكومته، لكن التوافق الذي نشأ بين ثنائية (المقاومة ـ الاحتلال) وثنائية (الشرعية ـ الانقلاب) لا يمكن أن يعني تناسي الجنوبيين ومقاومتهم للهدف الرئيسي من المقاومة التي خاضوها ضد الغزاة المعتدين، وهو استعادة دولتهم المنهوبة، لكن ما جرى هو الاكتفاء بدحر الغزاة وانتظار السلطة الشرعية لتعود للسيطرة على الأرض، ومن ثم بدء مرحلة جديدة لا يعرف المقاومون ولا القادة السياسيون ملامحها ومهماتها ولا إلى أين تتجه.
وفي سياق عدم استثمار نتائج الحرب تأتي العودة إلى نضال المناشدات والبيانات دونما إحداث تغييرات واقعية على الأرض لخدمة القضية الجنوبية، فلقد فوت الجنوبيون فرصة ذهبية قد لا تتكرر وهي تفكك جبهة الخصوم وانشغالهم بحربهم في ما بينهم، وخلو الساحة للجنوبيين، وتغير ميزان القوى لصالح القضية الجنوبية، لكن غياب الحامل السياسي الجاهز لتولي مهمات ما بعد التحرير ودحر العدوان، وبالتالي إخلاء الساحة للعابثين والإرهابيين الذين يستمدون طاقاتهم من نفس المشكاة التي جاء منها الغزاة قد حرم الجنوب والجنوبيين من إمكانية جني ثمار تلك المعركة العظيمة.

من المؤسف القول أن الساسة الجنوبيين لم يتعلموا الكثير من الدروس لا من تجربة المقاومة السلمية التي دامت عشرين عاما وتكللت بانبثاق ثورة الحراك السلمي التي دوى صوتها في مسامع القاصي والداني، ولا من تجربة المقاومة المسلحة وما صنعته من نتائج مبهرة كان يمكن أن تشكل لحظة الانعطاف الرئيسية لاستعادة الدولة الجنوبية بعد عقدين من اختطافها.

الجبهة الوطنية العريضة هي الحل!

ومع كل ذلك فإن الفرصة لم تفت كليا وما يزال بيد المقاومة والقوى السياسية الجنوبية الكثير مما يمكن عمله من أجل استعادة زمام المبادرة واستلهام العبر من تجربت مواهجة الغزو النادرة التي أبرزت وحدة الجنوبيين وقدرتهم على صناعة معجزات يمكن أن تكون مدخلا لاختياراتهم المستقبلية المختلفة، وهنا لا بد من العودة إلى التأكيد أن المقاومة المسلحة التي فرضت نفسها كقوة فاعلة في الساحة الجنوبية ينبغي أن تظل عاملا مهما في تحديد وجهة الأحداث وسيرورتها المستقبلية، وهو ما يقتضي إعادة هيكلة المجاميع المقاومة على نحو يمنحها المكانة السياسية اللائقة بها كقوة فعل سياسي مدني بناء لا كقوة مقاتلة فقط.

إن الدعوة لتوحيد المقاومة المسلحة لا يعني تجاهل بقية المكونات السياسية الجنوبية، بمختلف تشكيلاتها ومستوياتها، وحيث إن التجربة المرة للسنوات المنصرمة أثبتت عدم قدرة الساسة الجنوبيين عن الاتفاق على عوامل مشتركة تقرب بينهم ولا تلغي استقلاليتهم، فإن الجناح السياسي للمقاومة المسلحة يمكن أن يكون اليوم هو المحور الأساسي لعمل تحالفي عريض يساعد على إنتاج حامل سياسي موحد لكل ألوان الطيف السياسي الجنوبي، وذلك من خلال تبني الدعوة لقيام جبهة وطنية عريضة تنظوي فيها كل القوى السياسية الجنوبية المؤمنة بالحرية والاستقلال واستعاد الكيان الوطني الجنوبي المستقل.

ولكي لا أكرر الخوض في مفهوم الجبهة الوطنية العريضة الذي كنت قد تناولته في أكثر من وقفة أشير إلى أن هذا الشكل السياسي يجب أن يقوم على أساس القاسم المشترك الأعظم لكل الساسة الجنوبيين وهو الحرية والاستقلال والدولة الجنوبية كاملة السيادة على كل أرض الجنوب بحدود العام 1990م، والاتفاق على الطرائق والوسائل المحققة لهذا الهدف الكبير، مع حق كل كيان أو مكون سياسي الاحتفاظ بتميزه واستقلاليته السياسية والايديولوجية ورؤيته الاقتصادية وغيرها من المواقف التي ينبغي أن تخضع جميعها في هذه المرحلة للهدف الأساسي وهو استعادة السيادة الجنوبية، ثم إرجاء كل قضايا الاختلاف والتباين لتحسم بالوسائل الديمقراطية المعروفة من خلال تنافس البرامج والشعارات، وما ينبغي أن يعلمه كل سياسي جنوبي أنه لم يعد بإماكن أي طرف أن ينفرد بالسيطرة على الجنوب ومصادرة قواه السياسية الأخرى، وحتى لو نجح طرف أو مجموعة أطراف في هكذا (هدف) فلن يستقر بهم الحال ولن يقبل الشعب الجنوبي بعد اليوم من يصادر إرادته أو يلغي حقه في الاختيار السياسي المستقبلي.

أما استمرار المماحكات السياسية وإضاعة الفرص والعبث بالتضحيات التي قدمها شعب الجنوب فلن يعني إلا شيئا واحدا وهو أن النخبة السياسية الجنوبية لم تصل بعد إلى مستوى القدرة على صياغة البرامج ورسم الأهداف وإنتاج السياسات العقلانية الرشيدة والقابلة للتحقق، وبالتالي فإن زمنا طويلا سيقضيه الجنوب والجنوبيون بانتظار ميلاد الطبقة السياسية الجديدة القادرة على الاضطلاع بمهمة رسم السياسات الموصلة إلى استعادة الدولة الجنوبية الحرة والديمقراطية التعددية المستقلة المأمولة.

ولا يفوتني هنا التأكيد على دور العامل الخارجي الذي لم يعد بإمكان أحد إغماض عينيه عنه، لكن العامل الخارجي يتوقف على قدرة الأطراف الداخلية على البرهان على كفاءتها في مواجهة التحديات والنجاح في امتحان إدارة البلد، وهو حديث يمكن التوقف عنده في مناسبة قادمة.