fbpx
في البدء كانت كلمةُ ميام ـ ميام

في حوارٍ جماعيٍّ سابق اتفق الجميع على أن أهمّ حدثٍ أنسنَ الإنسان، اكتسابُ اللغة. غير أن سؤال “كيف نشأت اللغة وتطوّرت، لا سيّما في مراحلها الجنينية؟”، كان، كما لاحظ المتحاورون، من أكثر الأسئلة العلمية حساسية، ومن أصعبها أيضاً، لأن الكلمات الشفوية لم ترتسم آنذاك بما يُوثِّقها.

اعتبرَ مجمعُ اللغويين الفرنسيين في 1866 الحديثَ عن “أصل اللغة” موضوعاً شديد الخطورة (Top secret) ومُنع، في البند الثاني من ميثاقه، نشر أية دراسةٍ عنه. نحن في القرن الواحد والعشرين، والمختبرات العلمية المتخصصة بهذا الموضوع، والكتب والدراسات عنه، بلا عد، أحد أهمّها: “لغة آدم” لديريك بيكرتون.

وقد شغل سؤال اللغة الأولى فلاسفة العرب أيضاً. وها هو أبو العلاء المعري في “رسالة الغفران” يدحض بالمنطق والتفكيك اللغوي والنقد العقلاني ادّعاءات أن سيّدَنا آدم كان يتكلم العربية؛ البطل الرئيس لكتاب أبي العلاء، ابن القارح، يزور الجنة، يقابل فيها سيّدَنا آدم ويسأله عن أبيات شعرٍ منسوبةٍ له: “فيلقى آدمَ، عليه السلام، في الطريق فيقول: يا أبانا، صلّى الله عليك، قد رويَ عنك شِعرٌ منه قولك: نحن بنو الأرضِ وسكّانُها / منها خُلِقنا وإليها نعُودْ/ والسُّعدُ لا يبقى لأصحابه/ والنحسُ تمحوهُ ليالي السُّعود”.

يُعبِّر آدم عن اتفاقهِ معهما، لكنه يدحض أنه من قالهما: “لم أسمع بهما حتّى الساعة!”، قبل أن يبرهن ذلك بتفكيكٍ وتحليلٍ منطقيٍّ أفلاطونيٍّ أنيقٍ لهما، لا يخلو من السخرية.
لنموضع أنفسنا الآن بين منعطفَين حاسمين عرفهما تاريخ الإنسان؛ الأوّل: لحظة استخدام “هومو أيبيليس” الحجارة كآلات بدائية، قبل أكثر من مليوني عام، والثاني: لحظة استخدام “هومو أركتوس” للفؤوس، قبل حوالي مليون عام ونصف المليون.

في المنعطف الأول، كان الإنسان كائناً ضعيفاً لا قيمة له في هذه المعمورة، اللهمّ أنه كان يجيد استخدام الحجارة الحادّة، ليس لكسر بقايا عظام الحيوانات الميتة فقط كما يكسر القردة بها بعض الثمار، بل أيضاً للدفاع عن النفس والهجوم أحياناً على الوحوش الضارية. كان غذاؤه النبات والحيوانات الصغيرة التي يصطادها، وبقايا بقايا الفيلة والحيوانات الضخمة الميتة التي تلتهمها الضواري، وتترك له ما تبقّى من عظامها الكبيرة التي لا تستطيع مصّ نخاعها.

كان جدّنا يتوجّه حينذاك مع عائلتهِ إليها، ليكسر بأحجاره الحادّة تلك العظام. يلتهم بنهمٍ مخَّها الذي ساعده على تطوير بنيته الجسدية ودماغه. لم يكن جدّنا حينها يمتلك لغةً متميّزة عن منظومة الاتصالات الحيوانية الغرائزية: نبراتٌ وإشاراتٌ للإشعار بالخطر: “هنا أسد!”، “هنا ثعبان!”، وهلمّ صرخا.
أما بعد حوالي نصف مليون عامٍ من ذلك، فقد كان الإنسان في عصرٍ تاريخيّ جديد، متطوِّر جداً، أجاد فيه صنع فؤوسٍ بدائية. لم يعد غذاؤه فيه بقايا بقايا الحيوانات الضخمة الميتة، ولكن بقاياها الأرستقراطية: يلتهمها قبل الحيوانات الضارية، كما أكدت الحفريات وهي تكشف انطباع آثار DNA الإنسان عليها، قبل غيره.

كان يصل إلى تلك الحيوانات الميّتة بمجاميع إنسانية كبيرة – على عكس زمن جدّه إيبيليس -، لِيهجم جميعهم على جثّة فيل الماموث الميّت. يصرخون بصوتٍ طرزانيٍّ مشتركٍ يرعب الوحوش، ويرمونهم بالحجارة الحادّة لإبعادهم عن المائدة، فيما تقطع النساء بالفؤوس أفضل أضلاع الماموث. ثمّ يهربون بغنيمتهم سريعاً، بعد أن يتركوا بذكاء شذرات لحوم للحيوانات الضارية لئلا تلاحقهم. يعودون هكذا إلى كهوفهم للاحتفال بما جنوه، وقضاء إجازة سعيدة بضعة أيّام.

بين هذين المنعطفين التاريخيين نشأت نواة المداميك الأولى للغة الإنسانية:
فلقد احتاج الإنسان إلى تطويع وتوظيف قطيعٍ أوسع من البشر في التعاون معه، للهجوم على غنيمة الماموث الميت، عندما يراها وهو يجول في التخوم المحيطة بِسكنه بحثاً عن الغذاء.
احتاج لأن يوصل لرفاقه شفوياً معلومات أوليّة تتجاوز كمّاً ونوعاً الحدود التعبيرية لِمنظومة التواصل الغريزية الحيوانية: “هنا، الآن، خطر”، وتوصيل رسائل مثل: “هناك، بعيداً، ماموث ميت. يلزمنا التعاون للانقضاض عليه!”، وليقودهم إلى الكنز، وليجذب إعجاب الإناث بذلك، وليخطط معهم جميعاً عملية الهجوم على المائدة، والانسحاب السريع الآمن منها بأدسم الغنائم.
لا أدري كيف وماذا كانت كلمة الإنسان الأولى: إشارةٌ صوتية لتقليد الماموث؟ ميام ـ ميام؟ نبرةٌ ما تعني: “مائدة ماموث” تناقلتها الأجيال بالتعلّم، وليس بالغريزة؟

ساعد هذا القاموس الجديد، الضئيل جداً، الإنسان على حياةٍ أفضل. تحسّنتْ بفضله ظروفُ حياته وملَكاته الجسدية أيضاً، ومكانته في سوق التطوّر والانتقاء. وأصبح ذلك القاموس مع مرور الزمن، الثقب الذي انفتح في جدار منظومة التواصل الحيواني الغريزية، وقاد إلى تغيّرات جينية ودماغية تواكب نشوء بدايات اللغات الإنسانية.

لمدة مليون عامٍ بعد ذلك، لم يتطوّر الإنسان إلا ببطء، ما يزال يثير بشدّة تساؤلات الباحثين وحيرتهم: لم يصنع شيئاً يستحق الذكر غير تحسين فؤوسه، قبل أن تنتهي نومة “أهل الكهف” هذه، التي دامت حوالي مليون عام، بنقلة نوعية، عندما اخترع الرماحَ والحرابَ المنتهية بحجر الصوان السلكيّ الرسوبيّ الحاد.
عكست بنيةُ هذه الأسلحة الفتاكة الجديدة تطوّراتٍ شاسعة فذّة في مقدرات الإنسان الفكرية والتخييلية، وفي لغته الوليدة بالضرورة.

يكفي أن نتصوّر ماذا يدور في دماغ الإنسان من تساؤلات وتخييل وخطط، وهو يُصمِّم الحراب والرماح. بها يستطيع مع رفاقه التسكَّع في الفلوات النائية، ومباغتة فيل ماموث حيٍّ هذه المرّة. يهجمون عليه بالمشاعل والحراب من كلّ الجهات، وفي الثانية نفسها كبرق خاطف. ينقضُّون عليه أمام الضباع والسباع الخائفة من عددهم ونيرانهم ورماحهم، ثمّ يبدأون أسبوعاً من الولائم والإجازات الجماعيّة، يمارِسون فيه السعادة حتى الثمالة، وكثيراً من الرقص الجماعيّ الليلي، والفنون الميتافيزيقية التي ينقشُونها في جدران مغارةِ الجبل المجاور.

تطوّر الإنسان بعد ذلك بشكل أسرع فأسرع، قبل أن يصل إلى صيغتهِ الأخيرة: الإنسان الحديث، بكلِّ ثرثراتهِ ودردشاتهِ ونميمتهِ التي لم تتغيّر اليوم بالطبع في عصر الإنترنت:
يكفي قراءة كل إيميلات إنسان اليوم، ومنشوراته الفيسبوكية، لندرك كم يحتاج هذا الحيوان الثرثار للفضفضة كما يحتاج إلى الماء والهواء، هو الذي يسبكُ في ذهنهِ أو يلفظُ منذ 50000 عام حوالي 15000 كلمة يومياً!